أشرقت شمس الإمبراطورية سترونيا العظمى بخجل، متسللة بين الستائر المخملية الثقيلة، تغازل أركان القصر الملكي بضياء ذهبي ناعم، كأنها تهمس بكل سرٍّ حُكي ليلة البارحة. كانت الرياح باردة، حاملة معها عبق الياسمين الإمبراطوري الذي زُرع في حدائق القصر بدقة تعكس سطوة الإمبراطورية وذوقها الرفيع.
في جناح الوفود الأجنبية، تحرّكت سيلينارا ببطء من سريرها، تغطي وجهها بالوسادة وكأنها تحاول حجب ضوء الصباح… لكن الحقيقة كانت أنها تخشى هذا الضوء، لأنه ببساطة يُجبرها على مواجهة ما حدث الليلة الماضية.
“هل… فعلًا رقصت معه؟” همست لنفسها وهي تحدق في سقف الغرفة المزخرف.
تنهّدت، ثم جلست، تسحب شعرها الثلجي إلى جانب واحد، وتضع يدها على قلبها.
“يا إلهي، لماذا ينبض بهذه الطريقة؟ لماذا ما زلت أشعر بحرارة يده؟”
“يا إلهي، ما هذا الشعور؟”
كانت إلينا، صديقتها المقربة، تدخل الغرفة حاملة صينية إفطار عليها الكعك الإمبراطوري المحشو بزهور السكر وتوت الظلال.
قالت بابتسامة خفيفة وهي تضع الصينية:
“أرا، هل نمتِ جيدًا أم كنتِ تحلمين بالذئب كاير؟”
أحمر وجه سيلينارا على الفور. “لا تكوني سخيفة، لقد كان مجرد… مجرد رقصة.”
إلينا أومأت وهي ترفع حاجبها بلعب:
“آه، مجرد رقصة؟ إذًا لم تكن تلك الابتسامة التي لم تغادركِ طوال الليل حقيقية؟ ولا تلك النظرة التي تبادلتماها أمام كل النبلاء؟”
أرا عبست، ثم أخذت قطعة من الكعك وقالت:
“إنه فقط… مختلف. لا يمكنني حتى تفسيره. كل شيء فيه… يثيرني ويُربكني في نفس الوقت.”
ضحكت إلينا: “وها قد بدأ الأمر.”
في جناح العائلة الإمبراطورية، كان كايرون يجلس على حافة سريره، يحدق في الأرض بينما يعبث بأزرار قميصه الحريري.
“ماذا فعلت يا كايرون؟ هل فقدت صوابك؟ أمام الإمبراطور… أمام الجميع؟! طلبت منها الرقص؟”
صوته بدا وكأنه عتاب داخلي، لكنه لم يستطع كبح تلك الابتسامة المرتبكة التي تسللت إلى شفتيه.
طرق خفيف على الباب تبعه دخول الإمبراطور أليريك، شعره الذهبي مشعث قليلًا، وعلى وجهه علامات النوم.
قال مازحًا:
“آه، ها هو الشقيق العاشق. كدت لا أصدق عينيَّ بالأمس.”
كايرون نظر إليه بحذر: “أليريك، أرجوك… لا تبدأ.”
لكن الإمبراطور تابع وهو يضحك:
“وهل تعلم ما كان أكثر شيء أضحكني؟ وجهك. بدا وكأنك صبي طلب من فتاته الأولى أن ترقص معه في مهرجان القرية.”
كايرون رفع حاجبه:
“أخي العزيز، صباح الخير.”
دخلت الإمبراطورة ميلانثيا بعده، ترتدي ثوبًا أزرق فاتحًا، وشعرها البنفسجي مربوط على شكل ضفيرة أنيقة.
قالت بنعومة وهي تضع يدها على كتف كايرون:
“لم يكن الأمر سيئًا، كاير. إنها فتاة مميزة، و… تبدو مهتمة بك أيضًا.”
كايرون هزّ رأسه، ثم غادر الغرفة بسرعة قائلاً: “أحتاج لبعض الهواء.”
ضحكت ميلانثيا وقالت برقة:
“هي جميلة فعلًا… لكن لم أتوقع أن يتأثر بها الذئب الجليدي.”
في مكان آخر، جلس إيليان أزريلثا في شرفة جناحهم الخاص مع لوريانا، وبدآ يتناولان القهوة السوداء.
قال إيليان وهو يراقب الحديقة: “لقد كانت جميلة… لم أرَ أرا تبتسم هكذا منذ زمن.”
لوريانا تنهدت: “أجل، لكن… هل تثق به؟”
“لا أعرف، لكنني أعرف أختي. إن شعرت بالخطر ستبتعد، وإن رغبت بالبقاء، فلن يوقفها أحد.”
ردت لورينا بنصف ابتسامة، لكنها بدت قلقة:
“هل نتركها تنجرف؟ هي ليست فتاة ساذجة، لكنها… حساسة جدًا.”
أجاب إيليان بهدوء:
“دورنا أن نراقب، لا أن نكسر الأجنحة. ولأكون صريح، لم أرها تضحك بهذا الصفاء منذ سنوات.”
أما في جناحٍ آخر، كان إيان جالسًا على كرسي جلدي، يربت ببطء على فنجان القهوة، وعيناه شاردتان.
“كايرون، ذلك الأرستقراطي المتغطرس… لا يمكنه أن يأخذها مني. لا يمكنه.”
ثم همس: “لكنها ليست لي حتى…”
في الردهة الكبرى، بدأت الوفود بالتوافد على الفطور الرسمي، وكان ريان، مدير أعمال سيلينارا، يتحدث مع الطهاة عن مكونات العصائر وتأكد أن كل شيء يناسب ذوقها.
كان يصرخ في الطهاة، ينسّق الطلبات المخصصة للفريق.
“لا، لا، سيلينارا لا تأكل البيض المسلوق صباحًا! وهل نسيتم أنها تحب عصير الكرز فقط في الأيام الفردية؟!”
قالت الطاهية سيرينا :
“سيدي الصغير، أنت تتصرف وكأنك مدير أعمال ملكي!”
رد بتنهيدة مرهقة:
“بعد الليلة الماضية، قد نحتاج قصرًا خاصًا فقط لهدايا المعجبين!”
اقتربت منه الإمبراطورة ميلانثيا، وسألته بلطف:
“أتعني لي أنك تحب سيلينارا كأخت؟”
ريان احمرّ وجهه وقال بسرعة:
“بالطبع! إنها… هي أختي الكبيرة! من يجرؤ على الاقتراب منها؟”
ضحكت ميلانثيا وقالت:
“سيكون من الممتع أن أتعرف عليها أكثر، يبدو أنها أسرت قلوب الجميع بسرعة.”
مع انقشاع ضباب الصباح وبداية الحركة في ممرات قصر سترونيا العظيم، بدا اليوم وكأنه يحمل نكهة جديدة… نكهة مشاعر لا يُعترف بها، وكلمات لم تُقال.
كان قصر الضيوف يعجّ بخدم يتحركون بتناغم بديع لتحضير الإفطار الملكي، فيما كانت الوفود تتأهب للنزول… لكن بعض القلوب كانت لا تزال غارقة في أحداث الليلة الماضية.
في غرفة سيلينارا، كانت “آرا” تجلس أمام المرآة، تمشط شعرها الثلجي الطويل ببطء. كانت ترتدي فستانًا بسيطًا بلون الخزامى، يليق ببهاء صباحي هادئ. وجهها بدا هادئًا… لكن عيناها كانتا تفضحان شيئًا مختلفًا.
إلينا، الجالسة على الأريكة، قطعت الصمت قائلة بمكر:
“هل ستتجنبين الحديث عنه طوال الصباح؟”
ردّت سيلينارا دون أن تلتفت: “لا أعلم عن ماذا تتحدثين.”
ضحكت إلينا:
“عن الذئب، يا آرا. عن نظراته، عن رقصتكما، عن وجهك حين اختطفك من أمام الجميع.”
شهقت سيلينارا، ثم غطت وجهها بيديها:
“آه، ما الذي حدث لي؟! أنا… أنا لا أفهم ما أشعر به. وكأنه جزء مني يُريد الهروب، وجزء آخر… يريد أن يُمسك به أكثر.”
إلينا اقتربت منها وهمست:
“هذا يُسمى بداية الوقوع، يا عزيزتي.”
في الجهة الأخرى من القصر، كان كايرون يقف عند النافذة الطويلة في جناحه الخاص، مرتديًا قميصًا أبيض فضفاضًا وسروالًا داكنًا، شعره لا يزال مبتلًا من حمامه الصباحي. كان يحدق إلى الحديقة، وعيناه شبه غائبتين. بعد ان رحل شقيقه الامبراطور المزعج و زوجته
همس لنفسه: “لقد تصرفتُ كأحمق… أمام الجميع. ما الذي دفعني لذلك؟ ولماذا… لا أندم؟”
صوت طرق على الباب أعاده للواقع، ليدخل إيمار، أحد قادة حرسه الخاص، حاملًا تقارير صباحية.
لكن إيمار لم يستطع أن يمنع ابتسامة جانبية وهو يقول:
“يبدو أن الليلة الماضية كانت… مثمرة؟”
نظر إليه كايرون بتحذير، لكن احمرار وجهه فضحه. “لا تتدخل يا إيمار.”
ضحك القائد: “فقط تأكد أنك لا تنسى جدول اليوم… أو قلبك.”
في جناح عائلة أزريلثا، جلس إيليان مع لوريانا على شرفة مطلة على النوافير، يحتسيان شراب الفواكه الحار.
قال إيليان وهو يضع الكأس جانبًا: “أعتقد أن آرا بدأت تضعف.”
لوريانا تأملت الحديقة بصمت، ثم قالت:
“إن كان كايرون نقي النية، فلن أمانع. لكن إن كان يخفي شيئًا… فسأمزقه.”
ضحك إيليان: “دوماً حامية شرسة، يا لوري.”
في مكان آخر، كان إيان يخرج من غرفته مرتديًا سترة رمادية وعيناه غائمتان. مرّ بالقرب من جناح سيلينارا، وتوقف دون قصد. رفع يده وكأنه سيطرق، لكنه تراجع.
“إنها ليست لي… لكن لماذا أشعر أنني أفقدها؟”
وفي قاعة الطعام الملكية، كانت الطاولات قد نُسّقت بذوق ملكي، وزُيّنت بالكريستالات والزهور البيضاء. بدأت الشخصيات بالتوافد واحدة تلو الأخرى.
دخل كايرون أولًا، خطاه هادئة لكن متوترة. ثم لحقت به سيلينارا بعد دقائق، برفقة إلينا ورايان.
وقبل أن تصل سيلينارا إلى قاعة الفطور، اعترضتها الأميرة ريفايا من مملكة فالين.
قالت لها بابتسامة ساحرة:
“كنت أراقبك من بعيد، رقصك مبهر، وذوقك في المجوهرات… مذهل. أظننا سنصبح صديقتين.”
ابتسمت سيلينارا: “سيشرّفني ذلك.”
ثم ضحكت بخفة: “أظن أننا سنتحدث طويلًا عن الألوان والخامات وأحجار الجواهر…..”
تقابلت أعينهما… تلك النظرة القصيرة، الخافتة، التي تحمل في طياتها ألف كلمة لم تُقال.
اقتربت الإمبراطورة ميلانثيا منهما بلطف وقالت: “أوه، أظن أن القاعة ازدانت أخيرًا.”
ضحكت سيلينارا بخجل، فيما كايرون اكتفى بابتسامة صامتة.
جلسوا متفرقين، لكن أعينهم تلتقي كل بضع دقائق. وكلما فعلوا، يخفض كلٌّ منهم بصره على الفور وكأن شيئًا محظورًا يُحاول أن يُولد بين النظرات.
حتى عندما بدأ الحديث السياسي بين الوفود، كان الجو بينهما مشحونًا بسكونٍ لا يسمعه سواهما.
رايان همس لإلينا: “يجب أن نحضّر خطة هروب عاجلة. إن وقعا في الحب رسميًا، نحن في ورطة.”
ضحكت إلينا بخفة: “أجل، خاصة إذا قرر إيان أن ينفجر أخيرًا.”
في ال
جهة الأخرى من الطاولة، كان إيان يراقب كل شيء، عيناه لا تفارق سيلينارا، وصدره يعلو ويهبط بغضب مكتوم.
أما كايرون… فقد لمح ذلك، وشدّ على يده تحت الطاولة.
هذه الحرب الصغيرة من النظرات… بدأت.
التعليقات لهذا الفصل " 13"