عاشَ جيلبرت ويغل ، قائدُ الحرسِ الإمبراطوريِّ السابقِ و الموالي للإمبراطورِ ، في الحاناتِ مؤخرًا.
لقد منحهُ موتُ آرت أوكلي شعورًا بالراحةِ و الألمِ في آنٍ واحدٍ.
لم يكنْ آرت طفلاً ساذجًا أو طيبًا.
فرغمَ كونِه ابنًا غيرَ شرعيٍّ ، إلا أنَّه كانَ شابًّا نشأَ في دلالٍ دونَ أنْ ينقصَهُ شيءٌ أو يشعرَ بعدمِ الراحةِ.
لم يبخلِ الإمبراطورُ ، و لو بشكلٍ غيرِ رسميٍّ ، في دعمِ تعليمِ ابنِهِ بمختلفِ الوسائلِ ، بل و منحَهُ لقبَ فيكونت بعدَ سلبِ مجهودِ الآخرينَ.
إذا فكَّرنا في تلكَ البيئةِ الوفيرةِ و الأبِ السندِ ، فكم كانت مكانةً يحسدُ عليها.
علاوةً على ذلكَ ، كانَ الإمبراطورُ ينوي إدراجَهُ رسميًّا كأميرٍ بمجردِ تخرجِهِ من الأكاديميةِ بعدَ هذا العامِ الدراسيِّ.
لو أنَّه فقط قَنِعَ بما لديهِ و نشأَ بمرحٍ لكانَ ذلكَ رائعًا.
لكنْ للأسفِ ، لم يكنِ الفيكونت أوكلي راضيًا أبدًا عما يملكُ.
كانَ كونُ والدِهِ هو الإمبراطورُ بمثابةِ سُمٍّ لهُ.
لقد ظلَّ طوالَ حياتِهِ ناقمًا على حقيقةِ أنَّه لم ينشأْ في القصرِ الإمبراطوريِّ رغمَ كونِه ابنَ الإمبراطورِ.
و حتى لو تمَّ إدراجُهُ كأميرٍ في سنِّ العشرينَ عندَ تخرجِهِ من الأكاديميةِ ، فقد اعتبرَ العشرينَ عامًا الماضيةَ ظلمًا لا يُغتفرُ.
كانَ يصرخُ دائمًا بأنَّه مثيرٌ للشفقةِ للغايةِ و يحتاجُ إلى تعويضٍ.
و التعويضُ الذي وجدَهُ ليمنحَهُ لنفسِهِ ، كانَ الشعورَ بالفوقيةِ الذي يحصلُ عليهِ من خلالِ مضايقةِ الضعفاءِ.
لقد كانَ طفلاً أحمقَ حقًّا.
و مع ذلكَ …
بالنسبةِ لـ جيلبرت الذي ربّاهُ لنصفِ عمرِهِ ، كانَ طفلاً يثيرُ الشفقةَ.
ربما لأنَّه هو الآخرُ نشأَ كابنٍ غيرِ شرعيٍّ و عاشَ حياتَهُ و هو يكافحُ طمعًا في النجاحِ فقط ، لذا شعرَ بالتعاطفِ تجاهَهُ.
حصلَ على قسطٍ من الراحةِ لمدّةِ أسبوعٍ بفضلِ مراعاةِ الكونت هانس رودي ديرك ، و خلالَ ذلكَ الوقتِ عاشَ غارقًا في الخمرِ. و رغمَ أنَّ جسدَهُ كانَ يتحمّلُ الكحولَ ولا يَسكرُ حتى لو شربَ الكثيرَ.
على أيِّ حالٍ ، كانَ ذلكَ اليومُ أيضًا حينَ ذهبَ إلى الحانةِ ليرتشفَ كأسَهُ.
“……؟”
هل الشخصُ المارُّ في الخارجِ الآنَ هو جلالةُ الإمبراطورِ؟
خرجَ كالمسحورِ و نظرَ إلى الرجلِ الذي كانَ يسرعُ في خُطاهُ.
كانَ يرتدي رداءً ضخمًا مع قلنسوةٍ تغطي وجهَهُ ، لكنَّ عيني جيلبرت كانتا دقيقتينِ.
الطولُ ، البنيةُ ، تقوّسُ الظهرِ ، و حتى طريقةُ المشيِ.
مستحيلٌ ألّا يعرفَ جلالةَ الإمبراطورِ الذي كرسَ لهُ كلَّ سنواتِ شبابِهِ و خدمَهُ بإخلاصٍ.
‘يبدو أنَّه خرجَ من المخرجِ السريِّ تحتَ الأرضِ مرةً أخرى’
بينما كانَ الإمبراطورُ خاضعًا لسيطرةِ الإمبراطورةِ و وليِّ العهدِ ، و شبهَ سجينٍ في قصره ، كانَ يخرجُ من حينٍ لآخرَ عبرَ مسلكِ الطوارئِ.
كانَ يقولُ إنَّ ذلكَ هو ما يجعلهُ يتنفسُ الصعداءَ.
و مهما يكنْ من أمرٍ ، أنْ يخرجَ وحيدًا في مثلِ هذا الوقتِ …
تَبِعَ الإمبراطورَ بهدوءٍ و تحدثَ بصوتٍ غيرِ مرتفعٍ.
“جلالتُكَ”
عندئذٍ ارتاعَ الإمبراطورُ و اتسعت عيناهُ بذهولٍ.
“أوه … لا … كيفَ حالُكَ أيُّها القائدُ؟”
“كيفَ يتواجدُ جلالتُكَ في الخارجِ؟”
تمتمَ الإمبراطورُ بارتباكٍ ، ثمَّ همسَ لهُ بصوتٍ منخفضٍ و كأنَّه لا خيارَ أمامَهُ.
“خرجتُ لفترةٍ وجيزةٍ لأنَّ لديَّ مكانًا مهمًّا يجبُ أنْ أذهبَ إليه”
“سأرافقُ جلالتَكَ”
عندئذٍ جفلَ الإمبراطورُ.
“لا ، ليسَ عليكَ ذلكَ. سأذهبُ وحدي …”
أليسَ هذا مريبًا حقًّا؟
حاولَ جيلبرت كبحَ تعابيرِ وجهِهِ الممتعضةِ و تحدثَ بحزمٍ.
“الذهابُ وحدَكَ خطرٌ ، يا جلالتك”
أدركَ الإمبراطورُ أنَّه لا يمكنُه التخلصُ من هذا الفارسِ العنيدِ و المخلصِ ، فأوصاهُ بشدّةٍ.
“إذًا ، لا تتدخلْ مهما حدثَ”
أومأَ جيلبرت برأسِهِ بوقارٍ.
استدارَ الإمبراطورُ مرةً أخرى و تابعَ طريقَهُ.
كم ساروا هكذا؟
للمفاجأةِ ، كانَ المكانُ الذي توجهَ إليهِ الإمبراطورُ هو حانةُ روكسي ، المعروفةُ سِرًّا بأنَّها نقابةٌ للمغتالينَ.
‘هل يعقلُ؟ هل ينوي طلبَ اغتيالِ وليِّ العهدِ؟’
ضاقت عينا جيلبرت.
هذا تهورٌ شديدٌ.
ولا يوجدُ أيُّ احتمالٍ للنجاحِ.
ومع ذلكَ، لم ينبسْ ببنتِ شفةٍ لأنَّه وعدَ بأنَّه لن يتدخلَ مهما حدثَ.
بعدَ قليلٍ—
دخلَ الإمبراطورُ إلى مساحةٍ صغيرةٍ في الطابقِ الثالثِ من حانةِ روكسي لطلبِ الاغتيالِ.
تَبِعَهُ جيلبرت بصمتٍ ، و وقفَ أمامَ البابِ بعدَ دخولِهِ.
رحَّبَ رئيسُ النقابةِ بالإمبراطورِ بابتسامةٍ ودودةٍ.
ولم يكنْ أسلوبُ تعاملِهِ يوحي بأنَّه يتعاملُ مع إمبراطورِ الإمبراطوريةِ.
“ما الذي جاءَ بشخصٍ وقورٍ مثلِكَ إلى هنا؟”
عندئذٍ جلسَ الإمبراطورُ على الأريكةِ دونَ دعوةٍ ، و وضعَ كيسًا من العملاتِ الذهبيةِ على الطاولةِ أوَّلاً.
تنهّدَ جيلبرت الواقفُ في الخلفِ في سرِّهِ.
أنْ يُخرجَ المالَ فجأةً قبلَ التفاوضِ أو الطلبِ ، فهذا حمقٌ لا يضاهى.
و بالطبعِ ، لمعت عينا رئيسِ النقابةِ و بدا مهتمًّا.
“إنَّه عرضٌ مغرٍ للغايةِ ، و لكنَّنا لا نقبلُ طلباتِ قتلِ أفرادِ العائلةِ الإمبراطوريةِ ، يا جلالةَ الإمبراطور”
كانَ يقصدُ أنَّه لا يمكنُ التخلصُ من وليِّ العهدِ ، لكنَّ ما أرادَهُ الإمبراطورُ لم يكن وليَّ العهدِ.
“ما أريدُه هو آثا من عائلةِ هيرمان ، القديسة”
***
نظرَ أليستو إلى الأسفلِ نحو المرأةِ التي وضعت يدَها في يدِهِ.
ابتسمت القديسةُ بإشراقٍ.
أغلقت عينيها قليلاً على شكلِ هلالٍ و رفعت زوايا فمِها بدلالٍ.
“سموُّكَ. لديَّ قطةٌ في غرفتي ، هل تودُّ الذهابَ لرؤيتِها؟”
يا لحلاوةِ صوتِها.
خرجت ضحكتُه بشكلٍ طبيعيٍّ.
“قطةٌ؟ هل تقصدينَ تلكَ القطةَ من ذلكَ الوقتِ؟”
لكنَّه كانَ مشغولاً.
كانت الأعمالُ التي يجبُ إنجازُها تتراكمُ كالجبالِ.
و مع ذلكَ ، لا يستطيعُ رفضَها و هي تبتسمُ بهذا الوجهِ اللطيفِ.
أمسكَ يدَها الصغيرةَ.
كانت يدُها نحيلةً لدرجةِ أنَّها قد تنكسرُ إذا قبضَ عليها بقوةٍ.
في الطريقِ متّبعًا يدَها—كانَ كلُّ شيءٍ يتألقُ بغرابةٍ.
كلُّ شيءٍ بدا جميلاً.
الممرُّ الذي يراهُ كلَّ يومٍ ، و الشمعدانُ ، و النوافذُ ، و حتى السجادةُ المفروشةُ على الأرضِ.
القديسةُ التي دخلت إلى جناحِ ألموند وضعت زهورَ ستاتيس في يدِهِ.
ثمَّ ضحكت بصخبٍ و حاصرتْهُ في الزاويةِ.
حقًّا ، ابتسامتُها جميلةٌ جدًّا.
ثمَّ استندت بجسدِها عليهِ.
وهي تمتمُ بصوتٍ خافتٍ ، “لا توجدُ قطةٌ”
ماذا يعني هذا بحقِّ السماءِ؟
“ماذا تقصدينَ بذلكَ؟”
عندئذٍ ابتسمت هذهِ المرأةُ مرةً أخرى بانتشاءٍ.
مثلَ ضوءِ الشمسِ المتساقطِ بينَ أوراقِ الشجرِ في بدايةِ الصيفِ.
حركت الجميلةُ شفتيها الصغيرتينِ و أصدرت صوتًا.
“أقولُ لكَ إنَّه لم تكن هناكَ قطةٌ منذُ البدايةِ”
و في الوقتِ نفسِهِ ، استندت عليهِ و كأنَّها تحتضنُه.
لا ، هل استندت أم احتضنتْهُ؟
شعرَ بإحساسٍ ناعمٍ ، أو رقيقٍ ، و على أيِّ حالٍ كانَ إحساسًا مثيرًا للغاية.
يا لها من ماكرةٍ.
نظرت إليهِ و أغلقت عينيها الجميلتينِ كنصفِ قمرٍ.
آه ، مرةً أخرى.
جميلةٌ مرةً أخرى.
“أغمضْ عينيكَ”
بدأَ قلبُه يخفقُ بشدةٍ.
لماذا أغلقُ عينيَّ؟
ماذا تنوينَ أن تفعلي؟
لم يكنْ خائفًا.
كلُّ ما في الأمرِ أنَّ قلبَهُ النابضَ اختلطَ بمشاعرِ الحماسِ حتى ارتفعت حرارةُ رأسِهِ.
لا يمكنُه عصيانُ كلماتِها.
و لم يكنْ يريدُ ذلكَ أصلاً.
و عندما أغمضَ عينيهِ هكذا ، شعرَ بجسدِها الملتصقِ بهِ أكثرَ.
رغمَ أنَّها ترتدي ملابسَها كاملةً ، إلا أنَّه لم يفهمْ سببَ تلكَ النعومةِ الفائقةِ.
شعرَ و كأنَّ الدماءَ تندفعُ في اتجاهٍ واحدٍ برأسه.
تصلَّبَ جسدِهِ دونَ أنْ يتمكنَ من المقاومةِ.
لقد كانَ الأمرُ يدعو للجنونِ حقًّا ، لكنَّها صبَّت الزيتَ على النارِ.
“سأُقبِّلُكَ. افتحْ عينيكَ إنْ كنتَ لا تريد”
قُبلةٌ؟
تصلَّبَ جسدُه تمامًا من المفاجأةِ.
كادَ يفتحُ عينيهِ.
لا يهمُّ أيُّ شيءٍ ، طالما أنَّها ستُقبلُه فما المهمُ غيرُ ذلكَ؟
بينما كانَ فاقدًا لصوابِه ، ظلَّ يغمضُ عينيهِ بقوةٍ ، و عندما لم يشعرْ بلمسةٍ على شفتيهِ بعدَ مرورِ بضعِ ثوانٍ ، خفضَ رأسَهُ قليلاً.
عندئذٍ—بووم—لامسَ شيءٌ ناعمٌ شفتيهِ.
و بينما كانَ يفتحُ فمَهُ دونَ وعيٍ—
ابتعدت القديسةُ و قالت بحزمٍ ، “ابقَ ساكنًا. أنا من سيفعلُ ذلكَ”
دقَّ قلبُه.
واو.
هل قررت هذهِ المرأةُ أن تُذيبَني اليومَ؟
أومأَ برأسِهِ و عيناهُ مغمضتانِ بقوةٍ ، و سرعانَ ما شعرَ باللمسةِ الناعمةِ مرةً أخرى.
كانَ الملمسُ الطريُّ و الرطبُ ممتعًا للغايةِ.
كلما استمرت القبلةُ زادَ عطشُه.
أعمقَ ، فأعمقَ ، فأعمقَ.
اندلعت شرارةٌ في رأسِهِ.
أرادَ أن يفعلَ أيَّ شيءٍ بهذهِ المرأةِ في الحالِ.
و لكنْ كيفَ يفعلُ ذلكَ؟
لا يمكنُه أخذ إرادتِها كما يشاءُ.
فهي صغيرةٌ جدًّا ، و ثمينةٌ للغايةِ.
فتحَ فمَهُ بحذرٍ شديدٍ محاولاً عدمَ إزعاجِها.
“هل يمكنني … أنْ أحضنَكِ؟”
رغمَ أنَّني لا أجرؤُ على طلبِ ذلكَ.
و لكنْ ماذا في ذلكَ؟
نحنُ على وشكِ الزواجِ الآنَ.
سأتحملُ المسؤوليةَ.
و سأحبُّها.
وسأفعلُ لها كلَّ ما تطلبهُ.
سأذهبُ لأقطفَ لها القمرَ من السماءِ.
“سموُّكَ”
جميلةٌ.
“ناديني باسمي”
أريدُ أن أسمعَ اسمي يخرجُ من بينِ شفتيها الجميلتينِ.
أريدُها أن تناديني.
كيفَ يمكنُ أن تكونَ محبوبةً إلى هذا الحدِّ؟
“سموُّكَ—”
هل هي متوترةٌ؟
شعرَ أنَّ صوتَها أصبحَ غليظًا لسببٍ ما ، و لكنْ لا يهمُّ ، فهي محبوبةٌ جدًّا.
“سموُّكَ!”
ضحكَ بخفةٍ و لمسَ أنفَها بلطفٍ.
“ماذا قلتُ للتوِّ؟ قلتُ ناديني باسمي”
في تلكَ اللحظةِ—
تحطّمَ خيالُه.
لقد تحوّلَ وجهُها فجأةً إلى وجهِ كاستر.
“ماذا يحدثُ بحقِّ السماءِ …”
في الوقتِ نفسِهِ استيقظَ من نومِهِ.
عندما فتحَ عينيهِ ، وجدَ نفسَهُ في مكتبِ العملِ في الطابقِ الرابعِ من بلوسوم.
نظرَ حولَهُ ، فرأى ‘البومَ’ المشغولينَ بكتابةِ المستنداتِ أو يتنقلونَ هنا و هناكَ.
هه.
يا للسخريةِ.
حلمٌ؟
لا يزالُ يشعرُ بلمسةِ تلكَ اليدِ الصغيرةِ التي كانت تحتضنُ ظهرَهُ.
كانَ ملمسُها و هي تلمسُ خصرَهُ ، و تحاولُ الصعودَ للأعلى باستمرارٍ ثمَّ تتوقفُ لتعاودَ احتضانَ ظهرِهِ ، رائعًا جدًّا.
“الـ … ـلعنة …”
التعليقات لهذا الفصل " 80"