دخلت العربة التي تقل ولي العهد إلى “قصر الورود” ، مقر إقامة الإمبراطورة أونيسيا بـرينس.
عبر أليستو الحديقة و الأروقة المليئة بالروائح العطرية بخطوات متسارعة ، و صعد السلم اللولبي المزخرف ببراعة ، حتى وصل إلى مقدمة جناح الإمبراطورة في نهاية الرواق الطويل.
كان هناك وصيفات و حرس يحرسون الباب ، لكنهم وقفوا كالتماثيل ؛ لم يسألوا ولي العهد عن سبب زيارته ، و لم يعترضوا طريقه.
لو كان شخص غريب قد أتى لأول مرة ، لشعر بغرابة ذلك الجو الهادئ و المكتئب و كأنهم في مراسم عزاء ، لكن أليستو كان معتادًا على ذلك ، ففتح باب الجناح و دخل دون تردد.
اندفعت رائحة ورد نفاذة إلى أنفه ، و في الوقت نفسه انقشع مشهد الغرفة أمام عينيه.
“أمي”
لم تلحظ الإمبراطورة دخوله ، بل استمرت في ضرب ظهر رجل ضخم جاثم على ركبتيه أمامها بباقة من الورود مرارًا و تكرارًا.
كانت ورودًا لم تُهذب أشواكها.
يا تُرى كم من الوقت استمرت على هذا الحال؟
عشرات الزهور كانت ملقاة على الأرض حولهما ، ممزقة و مهترئة.
أما ظهر الرجل الذي يتلقى الضرب ، فكان عبارة عن فوضى من الخدوش و الجروح النازفة ، و إذا نظرت عن كثب ، ستجد ندوبًا قديمة تغطيه ، مما يدل على أن فعل التعنيف هذا كان مستمرًا منذ زمن بعيد.
في وسط كل هذا ، ظل الرجل جاثيًا بهدوء ، يكتفي بالتحمل بصمت ، و كان هذا مشهدًا مألوفًا آخر بالنسبة لأليستو.
عندما رفعت الإمبراطورة يدها بالورد عاليًا مرة أخرى.
اقترب أليستو بسرعة و أمسك بمعصمها صائحًا: “أمي!”
حينها فقط انتبهت أونيسيا لوجوده ، فالتفتت و هي تلهث بصعوبة: “… أليستو؟”
بعد أن تأكدت من وجه ابنها الأكبر ، جلست على الأريكة بتعب و كأن قواها قد خارت ، و ألقت بالورود التي كانت في يدها أرضًا.
التقط أليستو القميص الملقى على الأرض و ألبسه لجيرولد: “اخرج”
قطب جيرولد حاجبيه لبرهة من الألم الناتج عن احتكاك القميص بجروحه ، لكنه تصرف كطفل مطيع.
بينما كان شقيقه يغلق أزرار سترته ، تمتم جيرولد: “لقد أصيبت يد الأم بجروح كثيرة”
“اعتنِ بجروحك أنت أولاً”
و قبل أن يخرج ، استدار جيرولد و انحنى لأمه باحترام: “سأستأذن الآن”
قالت الإمبراطورة ببرود دون حتى أن تنظر إليه: “أنا آسفة. ماذا أفعل و كلما رأيتك يتملكنى هذا الغضب؟”
و عند سماعه لهذا الاعتذار القصير و غير المخلص ، غفر لها جيرولد مرة أخرى: “أنا بخير. إذن ، ارتاحي”
ساد الصمت الغرفة المظلمة التي غطت الستائر نصف نوافذها ، إلى أن قطعت الإمبراطورة أونيسيا هذا السكون: “لا تنظر إليّ هكذا. لقد اعتذرتُ له ، ألم تسمعه و هو يقول إنه بخير؟”
“أمي”
“أنت أيضًا تعلم السبب الذي يجعلني أغضب هكذا كلما رأيته!”
و عندما ارتفع صوتها ، ناداها أليستو بنبرة حازمة: “أمي!”
حينها نهضت الإمبراطورة و صرخت بصورة تشنجية تقريبًا: “أنا!”
دوى صوتها الحاد في الغرفة ، و تبادل أليستو و أونيسيا النظرات الحادة.
لكنها في النهاية لم تستطع كبح دموعها فالتفتت بعيدًا.
تنهدت بعمق ، و كان صوتها التالي مليئًا بالنشيج: “أنت تعلم كم من الإهانات تعرضتُ لها منذ دخولي هذا القصر! أتشفق فقط على هذا الذي يمثل دليلاً على تلك الإهانة؟ ألا تشفق على أمك التي تعيش فقط لأنها لم تمت بعد؟”
أغمض أليستو عينيه بقوة و هو يرى والدته تذكر الموت مجددًا كما تفعل دائمًا.
قد يحسده جيرولد لأن والدته تخصه برعاية فائقة ، لكنه في الحقيقة كان يرغب أحيانًا في الهروب منها.
“اصطد الأفعى في أقرب وقت. عندما أرتاح أنا ، سأتوقف عن تعذيب جيرولد”
لم يكن توسل والدته لقتل الإمبراطور أمرًا جديدًا.
“أنت أملي الوحيد. لقد عشت حياتي كلها من أجلك فقط. و أعطيتك كل ما أملك. لماذا؟ لكي تنتقم لوالدك. هذا هو واجب الابن”
أصبح صوت أونيسيا مبللاً بالدموع ؛ فهي تعلم أن استعطاف مشاعره بهذا الصوت الحزين سيجعله يشفق عليها.
و قد أصابت في توقعها.
أليستو ، الذي كان يكره والدته أحيانًا لأنها غرزت فيه الكراهية و الرغبة في الانتقام منذ صغره ، كان في الوقت نفسه يشعر بالأسى تجاهها ؛ فهي في النهاية والدته.
بدأ يربت على ظهر المرأة الغارقة في الحزن و اليأس لتهدئتها: “أعلم ذلك. لم يحن الوقت بعد ، لذا تحلي بالصبر و انتظري. و توقفي عن تعذيب جيرولد ؛ أليس لا يزال طفلاً؟”
سخرت أونيسيا في سرها من وصف ابنها لذلك الرجل الضخم بالطفل ، لكنها لم تبدِ ملاحظتها علنًا. (للمعلومة ، جيرولد يبلغ من العمر 24 عامًا ، و طوله 190 سم ، و وزنه 92 كجم)
مسحت دموعها بيدها المجروحة فتلطخ وجهها باللون الأحمر ، لكنها لم تكترث و دفنت وجهها في صدر أليستو قائلة: “سأحاول”
***
كان جناح آلموند في بلوسوم يفيض برائحة الزهور منذ الصباح.
قررت آثا البدء بتنسيق الزهور بناءً على نصيحة روبي ، و كان اليوم هو اليوم الأول.
اختارت مزهرية ضيقة الفوهة تبدو سهلة التنسيق ، و بدأت تملأها تدريجيًا بالزهور الكبيرة أولاً.
بدت هذه الهواية جيدة حقًا ؛ فشعرت أن عقلها المشوش قد بدأ يهدأ قليلاً— آه ، صحيح!
‘كان عليّ أن أطلب من الحاكم منع إعلان الوحي عندما جاء بالأمس’
وضعت آثا قطع الكريستال في قاع المزهرية الزجاجية لتنهي تنسيقها.
ثم رفعت رأسها و تفحصت غرفة المعيشة.
كانت روبي ، و بيلا ، و ساندي ، و كاترينا حولها ، كل واحدة تمارس عملها.
بيلا كانت تعتني بأدوات الشاي و أوراقه بدقة ، و بدت اليوم منشغلة بتلميع الخزانة المزخرفة بالزيت.
ساندي كانت مسؤولة عن أثاث جناح آلموند و منسوجاته و مستهلكاته ، و يبدو أنها أعجبت بالشموع المصنوعة من الزيوت العطرية التي وصلت مؤخرًا ، فكانت تشعل شمعة برائحة مختلفة كل يوم.
أما كاترينا ، فكانت مسؤولة عن الملابس و المجوهرات ، لذا لم تكن تخرج كثيرًا من غرفة الملابس.
كان مشهدًا مألوفًا ، لكنه بدا مختلفًا اليوم لسبب ما.
‘أشعر بنوع من … المسافة؟’
“آنسة آثا ، لقد أحضرتُ الشاي”
“هاه؟ أوه ، شكرًا لكِ”
وضعت روبي فنجان الشاي على الطاولة و تحدثت بلطف: “لقد شعرتُ أن مزاجكِ منخفض اليوم ، لذا أعددتُ شاي الرمان الممزوج بالعسل. تناول شاي منعش و حلو سيحسن من مزاجكِ”
دائمًا ما كانت روبي تراقب مزاجي و تبحث عما أحتاجه بنفسها.
رفعت آثا الفنجان و ارتشفت رشفة من الشاي الدافئ ، ثم سألت روبي: “أخبريني يا روبي. لو سقطتِ في عالم حيث الجميع—ما عداكِ—يفكرون و يتصرفون وفقًا لما هو محدد لهم فقط ، كيف سيكون شعوركِ؟”
بدت روبي حائرة: “عالم يفكر فيه الجميع وفقًا لما هو محدد لهم فقط ، باستثنائي أنا؟”
“نعم. مثلاً ، أنا ، و ساندي ، و كاترينا ، و بيلا ، و بقية الزملاء في القصر ، و العائلة ، الجميع. و كأنكِ دخلتِ في مسرحية محددة مسبقًا”
لم تسأل آثا بحثًا عن إجابة ، بل كانت تفصح عن ضيق صدرها بشكل غير مباشر.
و كانت فضولية لمعرفة ما قد يفكر فيه الآخرون بشأن عالم كهذا.
“إلى متى يجب عليّ العيش داخل هذه المسرحية؟ هل هو للأبد؟”
“نعم ، للأبد”
“و هل تقوم هذه ‘الدمى’ بأذيتي؟”
“لا أعتقد ذلك”
“إذن ، هل يصعب التواصل معها لأنها تقول جملًا محددة فقط ، أو تقوم بأفعال غريبة؟”
“لا ، إنهم يشبهون البشر تمامًا. لنقل إنهم متطابقون معهم”
فكرت روبي مليًا لفترة ليست بالقصيرة ، ثم فتحت فمها ببطء: “إذا كان عليّ العيش داخل مسرحية للأبد رغمًا عني … أعتقد أنني سأحاول التكيف و الانسجام مع تلك الدمى ، و سأعيش حياتي بجد و اجتهاد”
“… لماذا؟ ما الداعي للعيش بجد في عالم مزيف؟”
هزت روبي كتفيها: “إذا كان هذا هو العالم الذي آكل ، و أنام ، و أتنفس فيه ، ألا يعني هذا أنه لم يعد عالمًا مزيفًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 50"