بعد انتهاءِ المحادثةِ ، التقطَ جيرولد كأسيْنِ من الشّامبانيا من فوقِ صينيّةٍ فضيّةٍ يحملُها خادمٌ ، و مدَّ إحداهما نحو آثا بلباقةٍ.
بدا الأمرُ طبيعيًّا للغايةِ من بعيدٍ ، و كأنّهُ طرحَ بعضَ الأسئلةِ ليختارَ نوعَ الشّامبانيا ، ثمَّ انتقى المشروبَ المناسبَ للسّيّدةِ التي تقفُ بجانبِه.
ابتسمت آثا و هي تتناولُ المشروبَ الذي قُدِّمَ إليها.
“هل انتهى حديثُكما؟”
ابتسمَ جيرولد هو الآخرُ بدفءٍ.
“هل سَمِعتِ شيئًا؟”
ترشّفت آثا القليلَ من الشّامبانيا لترطيبِ شفتيْها.
“لم أسمع جيّدًا ، لكن بدا لي أنّكما تتحدّثانِ عن العملِ فحسب ، لذا انتظرتُ. لنذهب الآن لرؤية الطابق العلوي”
شربَ جيرولد من كأسِه ليخفيَ رغبتَهُ في الابتسامِ بسخريةٍ.
لو كانت سيّدةً نبيلةً عاديةً ، لَمَا خطرت ببالِها فكرةُ أنّ سليلًا للعائلةِ الإمبراطوريّةِ يتحدّثُ في أمورِ العملِ مع خادمِ الحفلةِ الراقصةِ …
لم يدرِ إن كان ذلك بسببِ افتقارِها للأحكامِ المسبقةِ ، أم لغيابِ الشّكّ لديها ، لكنَّ هناك ما كان يثيرُ فضولَهُ أكثرَ من ذلك الآن.
و هو علاقةُ هذه المرأةِ بالماركيز دالبرت.
كان جيرولد قد اطّلعَ على ذاتِ تقريرِ التّحقيقِ الذي رآهُ أليستو ، و كان يعلمُ بعدمِ وجودِ أيّ نقاطِ تلاقٍ بينهما ، لكنَّ نظراتِ الماركيز دالبرت كانت شديدةَ الحماسِ لدرجةٍ لا تليقُ بشخصيْنِ لا تربطُهما صلةٌ.
بينما كان يتبعُها في صعودِ السّلالمِ إلى الطّابقِ العلويّ ، لم يستطع كبحَ لسانِهِ ، فسألَ فجأةً.
“هل تعرفينَ الماركيز سيدريك دالبرت؟”
في تلك اللحظةِ ، لاحظَ جيرولد ارتجافَ كتفيْ آثا.
كانت رجفةً طفيفةً جدًّا ، لكنَّ جيرولد شعرَ لسببٍ ما بنذيرِ شؤمٍ.
ألقَت آثا نظرةً خاطفةً على جيرولد الذي يتبعُها ، ثمَّ تحدّثت بهدوءٍ.
“هل هناك من لا يعرفُ الماركيز سيدريك دالبرت في الإمبراطوريّةِ هذه الأيّام؟ بالطبعِ أعرفُه. ألم يقضِ تمامًا على القراصنةِ في المناطقِ البحريّةِ الجنوبيّةِ منذُ فترةٍ وجيزةٍ و حصلَ على لقبِ فارسِ الشّمس؟”
استعادت آثا أنفاسَها للحظةٍ بعدَ وصولِها إلى نهايةِ السّلالمِ.
أيّ نوعٍ من الأجسادِ هذا الذي يتعبُ من مجرّدِ صعودِ هذه السّلالم؟
“هل هذا كلُّ ما تعرفينَه؟”
“اممم … هل يجبُ أن يكونَ هناك المزيد؟”
التفتت آثا نحو جيرولد و هي ترتشفُ من الشّامبانيا التي أعطاها إيّاها سابقًا ، ثمَّ تابعت سؤالَها.
بالطبعِ ، جعلت نظراتِها تبدو ساذجةً ، و لم تنسَ استخدامَ نبرةٍ توحي بالبساطةِ.
“و بعد … لو كانت لي علاقةٌ شخصيّةٌ بالماركيز دالبرت ، ألم تكن لتعلمَ بذلك يا سيّدي؟ لقد سمعتُ شائعاتٍ تقولُ إنّكم تُجرونَ تحقيقاتٍ دقيقةً عندَ إدخالِ أيّ شخصٍ إلى بلوسوم. آه ، هل كانت هذه مجرّدَ شائعةٍ لا أساسَ لها أيضًا؟”
للوهلةِ الأولى ، بدا و كأنّ آثا لا تعرفُ الماركيز حقًّا ، لكنَّ جيرولد لم يكن من النوعِ الذي يتغاضى عن شكوكه بسهولةٍ.
“ليس كلامُكِ خاطئًا. لكن بناءً على التّحقيقاتِ ، كان من المفترضِ أن يكونَ مرشّحًا لمقابلتِكِ من أجلِ الزّواجِ ، لماذا أسقطتِ هذا الجزءَ من حديثِكِ؟”
مالت آثا برأسِها بتعجّبٍ.
“حقًّا قمتَ بالتّحري عن ماضيّ؟”
كانت ملامحُ جيرولد قد تجمّدت بالفعلِ.
“لقد كان مجرّدَ تحقيقٍ إجرائيٍّ يُجرى عادةً عندَ إدخالِ شخصٍ إلى بلوسوم. لا تُغيّري الموضوعَ”
هزّت آثا كتفيْها بخفّةٍ و كأنّها لا تقصدُ شيئًا آخرَ.
“اممم ، كان هناك موعدٌ لترتيبِ لقاءٍ من أجلِ الزّواجِ ، لكنّنا لم نلتقِ. فقبلَ الموعدِ مباشرةً ، قابلتُ سموَّ الأميرِ أليستو و دخلتُ القصرَ الإمبراطوريَّ … أظنُّ أنّك تعلمُ ذلك بالفعلِ”
“ألم تتبادلا الرّسائلَ قبلَ اللقاءِ؟ بالطبعِ لم يوجد أثرٌ في مكتبِ البريدِ ، لكنّي أسألُ للتّأكّدِ ، فقد يكونُ التّبادلُ قد تمَّ عن طريقِ خادمةٍ شخصيّةٍ”
عند هذه النقطةِ ، بدأت علاماتُ الاستفهامِ تظهرُ في ذهنِ آثا أيضًا.
“لم يحدث. أبدًا. ولا مرّة واحدة. لكن لماذا تسألُ بإلحاحٍ شديدٍ هكذا؟ هل هناك سببٌ؟”
“… لا يوجد”
أغلقَ جيرولد فمَهُ أخيرًا.
فلو قالَ إنّ الماركيز دالبرت كان يُحدّقُ في زوجةِ أخيهِ بإمعانٍ شديدٍ ، لربما أثارَ فضولَها دونَ داعٍ ، و جلبَ المتاعبَ لنفسِه.
‘مهلًا. هل فكرتُ للتوّ في الآنسةِ آثا كزوجةِ أخي؟’
بينما كان جيرولد غارقًا في أفكارِه ، أضافت آثا بضعَ صفاتٍ أخرى لتقييمِها له.
إنّهُ شخصٌ فظٌّ بالفطرةِ ، و مُلِحٌّ للغايةِ ، و مُرهِقٌ.
***
بعدَ أن تجوّلت آثا في القاعةِ ، قرّرت الاستقرارَ في قاعةِ المأدبةِ.
اتخذت مكانًا في الزّاويةِ قدرَ الإمكانِ لكي لا تلفتَ الأنظارَ ، و بدأت بالتركيزِ على المشويّاتِ من لحمِ البقرِ و الدّجاجِ.
وضعت قطعةً من لحمِ البقرِ المشويِّ بإتقانٍ في فمِها.
‘لذيذٌ … لذيذٌ جدًّا …’
فكرت في أنّ اللحمَ المشويَّ جيّدًا يكونُ شهيًّا هكذا حتّى مع الملحِ فقط ، و مضغتْهُ ببطءٍ شديدٍ وعنايةٍ.
كان عليها أن تبطئَ سرعةَ دخولِ اللحمِ إلى جوفِها ، لكي يتناسبَ ذلك مع سرعةِ و توقيتِ الهضمِ.
و بالطبعِ ، كانت تُحافظُ على استقامةِ ظهرِها.
فلو لم تكن وضعيّةُ جسدِها صحيحةً و انكمشت مِعدتُها ، فلن تتمكّنَ من رصِّ قطعِ اللحمِ فوقَ بعضِها بانتظامٍ من قاعِ بطنِها.
كانت لديها عزيمةٌ على الأكلِ باستمرارٍ و بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ.
و بعدَ أن امتلأت مِعدتُها إلى حدٍّ ما ، أصبحَ لديها المتّسعُ لتتطلّعَ حولَها.
كان النّاسُ يتجمّعون في مجموعاتٍ صغيرةٍ و يتبادلونَ أطرافَ الحديثِ الممتعِ ، و بدا المشهدُ كأنّهُ لوحةٌ فنيّةٌ.
ديكوراتٌ عريقةٌ و فخمةٌ ، رجالٌ طوالُ القامةِ ببدلاتٍ رسميّةٍ مَصنوعةٍ خصيصًا لهم ، و جميلاتٌ شاحباتُ البشرةِ و رشيقاتٌ يرتدينَ فساتينَ منفوشةً.
و ليس هذا فقط.
كان النبلاءُ يحملون كؤوسَ الشّامبانيا أو النبيذِ بأناقةٍ في أيديهم ، و على وجوهِهم ابتساماتٌ هادئةٌ.
في لحظةٍ ما ، شعرت و كأنّها دخلت في لوحةٍ شهيرةٍ كانت قد لمحتها في مكانٍ ما.
لكنّهُ لم يكن شعورًا جديدًا و ممتعًا بكونِها داخلَ لوحةٍ.
بل كان أقربَ إلى شعورٍ بالغربةِ ، و كأنّها سقطت في مكانٍ غريبٍ ليس هو المكانُ الذي تنتمي إليه.
هل يكونُ هذا هو الشعورُ عندما تكونُ أنتَ الوحيدُ الملوّنُ بالأبيضِ و الأسودِ في عالمٍ يفيضُ بالألوانِ الزّاهية؟
بينما كانت قشعريرةٌ غريبةٌ تسري في عمودِها الفقريِّ ، تلاقت عيناها مع شخصٍ بدا و كأنّهُ هو الآخرُ ملوّنٌ بالأبيضِ و الأسودِ مثلها.
بالطبعِ ، لم يكن ذلك الشخصُ ملوّنًا بالأبيضِ و الأسودِ حقًّا ، بل كان مجرّدَ رجلٍ ذي شعرٍ أسودَ يرتدي ملابسَ الكهنةِ البيضاءَ.
خطرت فكرةٌ ما ببالِ آثا فجأةً.
إذا كان هذا عالمٌ يوجدُ فيه معبدٌ و قدّيسةٌ ، ألا يُحتملُ وجودُ حاكمٍ أيضًا؟
و إذا كان الحاكم موجودًا ، ألا يعلمُ بالفعلِ أنّها جاءت من عالمٍ آخرَ؟
ظلّت تُحدّقُ لفترةٍ طويلةٍ في الكاهنِ الذي كان يراقبُها بثباتٍ و كأنّهُ يُثبّتُ نظرَهُ بمساميرَ.
رغمَ بُعدِ المسافةِ الذي يجعلُ سماعَ صوتِه مستحيلًا ، إلا أنّ صوتَهُ المنخفضَ بدا و كأنّهُ يهمسُ في أذنيِها.
‘سعدتُ بلقائِكِ’
سألت آثا في نفسِها دونَ وعيٍ.
‘هل تعرفني؟’
حينها ، ابتسمَ الكاهنُ و كأنّهُ سمعَ سؤالَها.
هل من الطبيعيّ أن تظهرَ ملامحُ شخصٍ بعيدٍ بهذا الوضوحِ؟
انتهى هذا الموقفُ الغريبُ عندما دخلَ رجلٌ في مجالِ رؤيةِ آثا.
قرعَ الطاولةَ بجانبِها و سألَ ، “هل يمكنني الجلوس؟”
رفعت نظرَها نحو أليستو الذي اقتربَ منها ، و سرعان ما ضبطت تعابيرَ وجهِها.
“نعم ، بالطبعِ”
و في الوقتِ نفسِه ، نظرت خِلسةً إلى المكانِ الذي كان يقفُ فيه الكاهنُ.
‘أين ذهب؟’
للأسفِ ، كان قد اختفى فجأةً.
و كأنّهُ لم يكن موجودًا من الأساسِ.
بل ، هل كان بشرًا حقًّا؟
بمجردِ إدراكِها أنّهُ رحلَ ، شعرت و كأنَّ الأضواءَ قد أُشعلت فجأةً.
لم تعد تشعرُ بتلك الغربةِ و كأنّها ملوّنةٌ بالأبيضِ و الأسودِ وسطَ الألوانِ المتعدّدةِ.
شعرت آثا للحظةٍ و كأنّها ألقَت نظرةً على الجانبِ الآخرِ من العالمِ ، و في الوقتِ نفسِه شعرت بالأسفِ لانتهاءِ ذلك الوقتِ الغامضِ.
بالطبعِ ، لم تُظهر أيّ أثرٍ لذلك في ظاهرِها.
بعدَ أن رتّبت تعابيرَ وجهِها ، تلاقت عيناها مع وليِّ العهدِ و قالت بمزاحٍ ، “سموّكَ ، هل ترغبُ في تجربةِ هذا؟ الدّجاجُ المشويُّ لذيذٌ جدًّا حقًّا”
بدا أليستو و كأنّهُ فقدَ النّطقَ للحظةٍ بسببِ هذا الاقتراحِ الصريحِ ، فظلَّ يحدّقُ في القدّيسةِ قبلَ أن يبتسمَ تلقائيًّا.
مضت بضعةُ أيّامٍ فقط منذ لقائِهما ، و كان من المضحكِ أن يسمعَها تتحدّثُ عن اللحمِ للمرّةِ الثالثةِ بالفعلِ.
و لكن ، رغمَ كلِّ هذا الحديثِ عن اللحمِ ، ألا تزالُ نحيلةً جدًّا؟
وجدَ أليستو نفسَهُ يُراقبُ فمَ القدّيسةِ و هو يتحرّكُ أثناءَ الأكلِ.
كيفَ تَمضغُ بجدّيةٍ و تلك التعابيرُ السّعيدةُ تملأُ وجهَها …
صبَّ لها الماءَ بنفسِهِ في الكأسِ الذي كان نصفَ فارغٍ.
“هل هو لذيذٌ إلى هذا الحدِّ؟”
“نعم ، سأعطيكَ قطعةً ممّا لديّ!”
لم تكن لدى أليستو رغبةٌ خاصّةٌ في الأكلِ ، و لكن قبلَ أن يتمكّنَ من الرّدِّ ، كانت آثا قد غرزت الشّوكةَ في قطعةِ لحمٍ كبيرةٍ و مدّتها نحوَه.
شعرَ ببعضِ الحرجِ.
فلم يسبق لهُ أن تشارك الشّوكةَ مع أحدٍ ، بل لم يتخيّل أمرًا كهذا قطُّ.
التعليقات لهذا الفصل " 18"