حتى و إن لم يكن ذلك الآن ، فما دام وضع القصر الإمبراطوري لم يستقر تمامًا ، فإن الدوافع ستظل قائمة ؛ سواء بمحاولات أمثال ماركيز دالبيرت لزعزعة ثقتها ، أو بظهور محاولات اغتيال جديدة …
رغم أن قلبه كان يدفعه لحبسها في مكان ما لكي لا يراها غيره ، إلا أن ذلك لم يكن ليرضيه.
فما كان يطمح إليه ليس مجرد امتلاك جسد سجين ، بل أن تدخل هي طواعية إلى حمى أسواره و تجد السكينة أكثر من أي شخص آخر.
لذا—
أليس من واجب هذا الحمى أن يتفهم قلقها و يسمح لها بالرحيل؟
بشرط واحد—
أن يظل ذلك ضمن نطاق وصول يده.
و هكذا ، بدلاً من أن يُطعن في ظهره على حين غرة ، اختار أن يواجه الأمر من الأمام.
أمسك أليستو بوجنتي القديسة الصغيرتين بين كفيه و التقى بعينيها: “إذا لم يتبدد قلقكِ ، و إذا كان البقاء بجانبي يملؤكِ بالخوف لدرجة لا تُحتمل … فاهربي”
بدأت حدقتاها البنيتان بالارتجاف: “… أهرب؟”
“نعم. إذا اخترتِ الهرب لأنكِ لم تعودي قادرة على الاحتمال ، فلن أبحث عنكِ حتى تعودي إليّ بملء إرادتكِ”
كان صوته و هو يهمس لها بالهرب خفيضًا جدًا ، و بطيئًا لكنه قاطع: “لكن ، عديني … بمجرد أن أرتب أوضاعي و أتأكد من أن الأجواء أصبحت آمنة ، أن تعودي إليّ”
كان السماح لها بإخلاء مكانه لفترة وجيزة هو أقصى تنازل يمكنه تقديمه.
نظرت القديسة في عينيه و أومأت برأسها بخفة: “أعدك”
‘لا ، ليس هكذا’
‘كان يجب أن تقولي إنكِ لن تهربي’
‘بمجرد تقديم الوعد ، فهذا يعني أنكِ تنوين الهرب حقًا’
‘يا لكِ من امرأة قاسية’
ابتلع أليستو مرارة الغصة التي ارتفعت في حلقه.
“هووه”
و مع ذلك ، أليس عليه أن يمتن لأنها وعدت بالعودة على الأقل؟
راح يطبع قبلات متتالية على جبينها المستدير ، و جفنيها المحمرين ، و وجنتيها الموردتين ، وصولاً إلى شفتيها المكتنزتين.
داعبت أنفه رائحة حلوة ، و شعر بملمس ناعم و شجي و هو يلامسها.
بعد قبلة خفيفة ، تلاقت أعينهما ؛ عيناها البنيتان كانتا تفيضان بالاعتذار ، و عيناه الذهبيتان كانتا تشعان بدفء يربت عليها و يخبرها أن كل شيء سيكون بخير.
ثم التحمت شفاههما مرة أخرى في لقاء كان أكثر عمقًا و تشابكًا من سابقه.
***
غادر أليستو جناح آلموند و ألقى نظرة سريعة على روبي.
“روبي”
بما أنها المرة الأولى التي يناديها فيها ، تجمدت روبي في مكانها و انحنت بسرعة فائقة: “أمرك ، سموك”
“إذا أبدت القديسة أي بادرة لمغادرة بلوسوم ، عليكِ مرافقتها. سواء كان ذلك في أعماق الجبال أو وسط النيران ، التصقي بها أينما ذهبت”
حتى لو اضطررتِ للإمساك بطرف فستانها و التعلق به.
“نعم. سأفعل ذلك بكل تأكيد”
بمجرد خروجه من جناح آلموند و سماعه صوت الخادمة المليء بالعزم ، وجد جاك بانتظاره بعد عودته من نادي الرجال.
توجه أليستو إلى الطابق الرابع ، و تبعه جاك و هو يرفع تقريره: “لقد تأكدتُ من الشخص الذي قابله الماركيز دالبيرت ؛ إنه الكونت هانسرودي ديرك ، و قد حددتُ موقع مخبئه. و لكن …”
تردد جاك للحظة ، فحثه أليستو على الإكمال بنظرة آمرة: “و لكن ماذا؟”
“كان هناك أيضًا … الماركيز كويتوس من مجلس الأعيان”
ثم نقل له تفاصيل الحوار التي حصل عليها بعد دفع مبلغ طائل لأحد خدم النادي: “لقد قيل إن الماركيز دالبيرت طلب شيئًا مقابل إفشال التجارة البحرية. لم تُسمع التفاصيل بدقة ، لكن كلمتي ‘القديسة’ و ‘الزمن’ ذُكرتا بوضوح”
ارتسمت على شفاه أليستو ابتسامة ساخرة باردة.
‘كما توقعت’
كانت جهة الإمبراطور هي المحرك من خلف الستار لإغواء ماركيز دالبيرت و زعزعة القديسة.
رغم توقعه ، إلا أن تأكد الحقيقة أشعل غضبه من جديد.
و فوق ذلك ، ماذا؟
حتى مجلس الأعيان متورط؟
يا لهم من حثالة.
أي ترف يبحثون عنه لدرجة المساس بالتجارة البحرية التي ستكون أساس الرفاهية لشعب الإمبراطورية؟
ألا يوجد في رؤوسهم سوى الجشع؟
حسنًا.
بما أن الأمور وصلت لهذا الحد ، سأجتثهم جميعًا.
‘كان من الجيد أنني طلبت من القديسة الهرب’
سيعتبر الأمر مجرد لجوء مؤقت في مكان لا يعرفه أحد.
عليه أن ينهي المهمة قبل أن تبرد مشاعرها ، و قبل أن تنساه.
و عندما لا يتبقى لديه ما يخشى خسارته ، فلن يقف في وجهه شيء.
صر على أسنانه بقوة: “سأقتلع جذور جهة الإمبراطور”
سيفكك مجلس الأعيان الذي لا يهتم إلا بالأصول و النسب رغم عجز أعضائه ، و سيعيد بناء الإمبراطورية من جديد.
كان يجب أن يفعل هذا منذ زمن.
لقد أراد احترام القيم التقليدية التي دعمت القصر طويلاً ، لكن يبدو أن ذلك كان مجرد طمع في غير محله.
فبينما كان يحاول الاحترام ، كانوا هم منشغلين بملء بطونهم.
بمجرد وصول أليستو للطابق الرابع ، انحنى كونويل برأسه: “لقد انتهينا من تطهير الطابق الثاني. تم سجن مساعدي دالبيرت في القبو ، و نُقلت جميع وثائق التجارة البحرية إلى الطابق الرابع”
أصدر أليستو أمره لـجاك و كونويل: “جاك ، اضرب مخبأ الكونت ديرك. كبير الكهنة إيمو سيكون هناك أيضًا. اقطع أنفاس الكونت و إيمو فور العثور عليهما ، و اقبض على كل شيء يتحرك ، لا تترك حتى نملة واحدة”
“كونويل ، تولَّ أمر الماركيز كويتوس و بقية عجائز مجلس الأعيان”
أُعطيت الأوامر في مكان مفتوح.
و بمجرد أن التقطت آذان البوم المنهمكين في أعمالهم أوامر سيدهم ، شحذت نظراتهم بحدة في لحظة.
لقد أدركوا بغريزتهم: ‘سماء الإمبراطورية على وشك أن تتغير’
***
عاد الكونت ديرك إلى مقر إقامته و باله مشغول.
فمنذ افترق عن الماركيز دالبيرت و في طريقه للقصر ، لم يستطع التخلص من الشعور بأن أحدًا ما يتبعه بخفية.
ربما كان مجرد وهم ، لكن من الأفضل ترتيب الأمور هنا و الانتقال لمخبأ آخر.
دخل مكتبه أولاً و كتب رسالة للسيدة الفيكونتيسة هيرمان.
كتبها بسرعة فائقة دون أن يملك الوقت لتحسين خطه ، ثم طواها و وضعها في ظرف و نادى كبير الخدم: “إزموند!”
“أمرك ، سيدي”
ناول الكونت الرسالة لخادمه و قال باستعجال: “سلم هذه الرسالة للفيكونتيسة هيرمان فورًا. بأسرع ما يمكن!”
بعد مغادرة كبير الخدم بعزيمة ، بدأ الكونت هانسرودي ديرك بحشو كل الوثائق التي طالتها يده في المدفأة.
و في تلك اللحظة—
بام—!
دوى صوت تحطم الباب و تلاه وقع أقدام عسكرية كثيرة.
“فتشوا كل زاوية!”
لقد اقتحم البوم المكان.
سرعان ما بدأت صرخات الخادمات تتعالى هنا و هناك ، و اقتربت الأصوات الصاخبة من مكتب الكونت ديرك.
بدا أن الهروب من الباب الرئيسي أصبح مستحيلاً.
تحقق الكونت بذعر من النافذة ، لكن عدد المشاعل المتراقصة في الأسفل كان مرعبًا.
“تبًا!”
بمجرد أن أنهى شتيمته ، فُتح باب المكتب بعنف ، و سمع صرخة من خلفه: “لقد وجدنا الكونت ديرك!”
تقدم جاك الذي ركض بسرعة و تحقق من وجه الرجل الموجود في المكتب: “الكونت هانسرودي ديرك”
رفع الكونت يديه للأعلى و استدار ببطء: “سأستسلم بهدوء”
حتى و هو يجثو على ركبتيه فوق السجاد الفاخر في المكتب ، كان موقفه يتسم بنوع من الثقة.
الأمير أليستو بـرينس ، ولي العهد.
ذلك الرجل كان يقدس القوانين و الإجراءات ، و لو شكليًا ، قبل تقرير العقوبة.
لذا ، اعتقد الكونت أنه سيُحال للمحاكمة بشكل قانوني.
و رغم أن “البوم” يجمعون الأدلة بكل الطرق الممكنة ، إلا أنه كان مطمئنًا.
لأن كل الوثائق التي تعتبر أدلة هامة كانت تحترق الآن في المدفأة.
و إذا غابت الأدلة؟
غابت الجريمة.
ظل يلمع بعينيه حتى و هو يرى جاك ، “البومة” الذي يقترب منه.
لكن وقاحته لم تدم طويلاً.
فقد سمع الحوار الذي دار بين جاك و بومة أخرى ضخمة الجثة دخلت المكتب: “أيها القائد ، لقد وجدنا كبير الكهنة إيمو. ماذا نفعل به؟”
لوى جاك طرف فمه بابتسامة ساخرة و هو يحدق في عيني الكونت ديرك الثابتتين: “اقتلوه”
غادرت البومة الضخمة المكتب فورًا.
و عندما بدأ جاك بالتقدم نحوه ، بدأت نظرات الكونت تضطرب: “لا ، انـ …!”
تشوهت تعابير وجهه تمامًا عندما رفع جاك السيف الذي كان يحمله للأعلى: “اسمع! أنا أطلب مـ … محاكمة! لا ، بل وصية على الأقل … كـغ!”
قبل أن يكمل الكونت كلمته ، سقط جثة هامدة على وجهه.
نظر إليه جاك ببرود ، و نفض الدم عن سيفه بحركة واحدة و تمتم: “ليس لدي وقت لأضيعه”
أغمد سيفه و خرج من المكتب و هو يصيح: “ألم تنتهوا بعد!”
التعليقات لهذا الفصل " 109"