تراجعت آثا عن ترددها قليلاً ، و استجمعت شجاعتها مستمدةً إياها من صوته الحنون: “في الحقيقة … كنتُ أتساءل إن كانت هناك ضرورة حقًا لفصل قصرينا”
كانت تدرك أن امتلاك كل فرد من العائلة الإمبراطورية قصرًا خاصًا به هو من صميم آداب القصر ؛ فالعرف يقضي بأن الإمبراطور و ولي العهد يمارسان مهام الحكم ، بينما تنشغل الإمبراطورة و ولية العهد بتنظيم المناسبات و اللقاءات الاجتماعية ، مما يجعل استخدامات القصور مختلفة تمامًا.
و مع ذلك ، لم تكن آثا تستوعب لمَ يجب أن يكون للزوجين مسكنان منفصلان؟
حتى و إن تقبل عقلها فكرة أنها “ثقافة” متبعة ، ظل السؤال يراودها: “لماذا تحديدًا؟”.
ألا يمكن استخدام قصر داليا لإقامة الحفلات و المناسبات الاجتماعية ، بينما تظل حياتهما اليومية في جناح آلموند بـبلوسوم كما هي الآن؟
بصراحة ، كان يرهقها مجرد التفكير في إعادة تجهيز قصر داليا و الانتقال إليه ؛ فتغيير الديكور ، و شراء الأثاث ، و تعيين طاقم جديد من خادمات و خدم و سائقين … كل هذا لن يتم بلمحة بصر.
ناهيك عن الوقت و الجهد ، لم تستطع تجاهل الشعور بأن المال سيُهدر بلا طائل.
و هناك أيضًا مسألة حرس القصر الإمبراطوري.
بعد محاولة الاغتيال عند بحيرة الحديقة ، يبدو أنهم ينوون نشر أعداد غفيرة من الحرس ، لكن مهما بذلوا من جهد ، هل سيكون المكان آمنًا كـبلوسوم؟
كانت تجزم بأن الإجابة هي لا.
سردت آثا مخاوفها واحدًا تلو الآخر و كأنها تقدم أعذارًا ، و لحسن الحظ ، استمع إليها أليستو بإنصات تام دون أن يبدي أي ارتباك أو انزعاج.
“كما أن جناح آلموند الذي أسكنه الآن مريح جدًا”
عندما انتهت من حديثها ، ابتسم أليستو باتساع و أومأ برأسه بترحيب: “افعلي ما يروق لكِ”
بالنسبة لأليستو ، لم يكن هناك سبب للرفض طالما أن القديسة ترغب في البقاء بالقرب منه.
بل على العكس ، وجد تفكيرها هذا رقيقًا و محببًا جدًا لدرجة أنه رغب في غمرها بالقبلات.
و في مخيلته ، لم يعد قصر داليا قصرًا للسكن ، بل مجرد قاعة احتفالات لولية العهد.
***
سارت تجارة الشحن البحري بسلاسة.
و رغم تأخر الرحلة الأولى لمدة ثلاثة أسابيع بسبب اكتشاف خلل في إحدى السفن التي تديرها عائلة دالبيرت ، إلا أن موعد الإبحار الأول بات وشيكًا.
عاد معظم أتباع دالبيرت الذين كانوا في بلوسوم إلى ديارهم ، و من بين طاقم بلوسوم ، توجه الكونت كيرتس و فرسان هاوزر معهم إلى دالبيرت.
بقي سيدريك في بلوسوم ليتبادل المراسلات مع ستيوارد الذي عاد إلى دالبيرت ، و للتفاوض مع جيرولد بـرينس بشأن التحسينات المطلوبة في الموقع.
بالطبع ، لم يكن جيرولد بـرينس خصمًا سهلاً ، و كان على سيدريك أن يستنزف طاقته في كل مرة يجلس فيها إلى طاولة المفاوضات.
لكن ذلك لم يكن المشكلة الحقيقية ؛ فما كان يرهقه حقًا هو أمر آخر تمامًا.
أمر يتعلق بالقديسة.
بعد حواره مع الكونت هانسرودي ديرك ، أصبح عقل سيدريك كتلة من الفوضى.
و عندما اختلط عشقه لآثا بمشاعر الشفقة عليها ، تضخمت عواطفه بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
رغب في الركض إليها فورًا و إخبارها بكل شيء عن ولي العهد.
أن يخبرها أنه يخدعها.
و أن الحب الذي تؤمن به ليس سوى قلعة من الرمال مبنية على الأكاذيب.
و لكن—
مع اقتراب الرحلة البحرية الأولى ، لم يكن بوسعه التصرف بطيش.
فلو اكتُشف أنه كشف حقيقة ولي العهد لآثا ، فإن غضب الأخير لن يطاله وحده ، بل سيمتد ليحرق عائلة دالبيرت بأكملها.
صحيح أن أليستو العقلاني لن يهاجم دالبيرت بتهور و الرحلة على وشك الانطلاق ، لكن الحفاظ على عقلانيته بعد خسارة القديسة كان أمرًا مشكوكًا فيه.
فهو يعاملها علانية كـخطيبة ، و تجهيزات الزفاف تجري على قدم و ساق.
و إذا ألغت آثا الزواج و غادرت القصر الآن ، فمن الواضح أن ولي العهد سيتعرض لإهانة كبرى أمام الجميع.
ناهيك عن احتمالية خسارته لقوة إعادة الزمن.
لم يجرؤ سيدريك على ضمان ما سيفعله أليستو ؛ فـأليستو رجل عقلاني لكنه قاسي اليد أيضًا.
إذا قرر تدمير شيء ، فلا مجال للرحمة لديه.
و استفزاز رجل كهذا ينطوي على مخاطرة جسيمة.
مهما كان حبه للقديسة صادقًا ، فإن الخوف من العواقب كان يشل تفكيره.
و بينما طالت الأيام دون أن يتخذ قرارًا ، وصلت رسالة من دالبيرت.
كان المرسل هو مساعده ستيوارد: [تم رصد سفينة شراعية مجهولة في البحر الجنوبي. يبدو أن مجموعة جديدة من القراصنة قد ظهرت.
نحن بحاجة لزيادة حرس السواحل ، لكن البوم يصرون على سحب المزيد من الحرس لتأمين السفن التجارية أولاً.
يجب تأجيل الإبحار للقضاء على القراصنة ، أو إرسال تعزيزات عسكرية إضافية من العاصمة]
و عندما نقل له محتوى الرسالة ، كانت الكلمة الأولى التي تلقاها هادئة: “بالطبع يجب إرسال المزيد من القوات”
لكن التكملة كانت جافة بقسوة: “و لكن ، حتى وصول قوات الإمبراطورية ، التزموا برأي البوم الموجودين هناك بزيادة حرس السفن التجارية. كما يجب أن يستمر الإبحار في موعده المحدد”
لم يملك سيدريك إلا أن يرتبك: “و لكن يا سيادة نائب الوزير ، هذا يعني أنه حتى وصول القوات من العاصمة …”
سيكون هناك ثغرة في دفاعات دالبيرت.
من الأفضل أن يهجم القراصنة قبل رحيل السفن ؛ فحينها يمكن لقوات حرس دالبيرت ، و القوات المرسلة من العاصمة لحماية السفن ، و الحرس الشخصي للكونت كيرتس و فرسان هاوزر ، التعاون معًا لصد القراصنة.
فالجميع سيقاتلون حماية السفن الراسية و البضائع.
و لكن ماذا سيحدث بعد رحيلهم جميعًا؟
هل سيكفي الحد الأدنى من الحرس؟
رغم نبرة سيدريك التي يحرقها القلق ، ظل وجه جيرولد هادئًا: “على حرس سواحل دالبيرت أن يبذلوا قصارى جهدهم. إذا تم بناء خط دفاعي جيد ، سيصمدون حتى وصول التعزيزات”
لم يستطع سيدريك إخفاء شعوره بالمرارة: “لم يتم بعد تقدير قوة القراصنة. و في ظل هذه الحالة ، إذا أبحرت السفن التجارية التي تضم معظم القوة …”
ستصبح دالبيرت في خطر.
لكن جيرولد ظل ثابتًا على رأيه: “لم يتأكد بعد أنهم قراصنة. علاوة على ذلك ، تأخر موعد الإبحار ثلاثة أسابيع بسبب خطأ دالبيرت ، ولا يمكننا الانتظار أكثر من ذلك”
و قبل أن ينتهي الحوار ، أصدر أوامره لمساعده بالتعجيل في تجهيز القوات و إرسالها.
ثم التفت لسيدريك قائلاً: “أنا أثق في تقدير “البوم” الموجودين في دالبيرت ، فهم رجال صقلتهم ساحات المعارك في المناطق الحدودية”
و أضاف موضحًا أنه لو كان “البوم” قد قدروا أن حرس السواحل سيسقط أمام القراصنة قبل وصول الجيش ، لكانوا قد ركزوا على الدفاع أولاً.
أدرك سيدريك أن الحديث لم يعد له جدوى.
فمهما قال ، لن يتراجع جيرولد بـرينس عن قراره.
خرج من غرفة نائب الوزير و أرسل رسالة فورية لـستيوارد.
أخبره أن العاصمة طلبت إبقاء الحد الأدنى من الحرس ، لكن لا يجب فعل ذلك.
و مهما كان موقف “البوم” ، يجب أن تكون أولوية دالبيرت هي بناء الخطوط الدفاعية.
بعد إرسال الرسالة بعجل ، ضغط سيدريك بيده على عينيه بإرهاق و قلق.
لم يهدأ روعه ، و ظل صوت جيرولد يتردد في عقله: ‘يجب أن يستمر الإبحار في موعده المحدد’
‘على حرس سواحل دالبيرت أن يبذلوا قصارى جهدهم. لا يمكننا الانتظار أكثر من ذلك’
كان يتفهم موقفه ؛ فـتأخر التجارة كان بالفعل خطأ دالبيرت.
و لكن—
هل يعني هذا تجاهل حياة و أمن سكان دالبيرت؟
كيف يمكنه أن يكون بهذا البرود رغم رصد سفينة يشتبه في كونها للقراصنة؟
حتى و إن كانت دالبيرت تقع في أطراف الإمبراطورية ، فهي تظل جزءًا أصيلاً من أرضها.
ادعى جيرولد ثقته في “البوم” الذين خاضوا حروب الحدود ، لكن سيدريك شعر بالاختناق ؛ فـحرب اليابسة تختلف عن غارات القراصنة ، و مع ذلك تصرف جيرولد و كأنه يشاهد حريقًا وراء النهر.
تحول شعوره من الخيبة إلى الغضب.
‘هل كان سيظل هادئًا لو رُصدت مجموعة مجهولة بالقرب من العاصمة؟ هل كان سيسحب القوات و يوجهها لمكان آخر بحجة الثقة في البوم؟’
‘مستحيل’
‘لن يفعل ذلك أبدًا’
بل كان سيلاحق تلك المجموعة و يحرقها عن بكرة أبيها.
ألم يرَ بعينه كيف تعاملوا مع نقابة القتلة؟
طاردوا حتى أدنى أتباعهم و هدموا النقابة حتى حجر الأساس.
التعليقات لهذا الفصل " 101"