لو كان عليها أن تعدّ أكثر ما يؤسفها في حياة “ريلنوك”، لكان أنّها لا تستطيع فتح النوافذ كما تشاء. فلو هبّت الرياح قليلًا، ستتدفق حبات الرمل عبر النافذة المفتوحة إلى داخل البيت وتجعله متسخًا على الدوام.
خلف روميا، التي كانت ترسم بأصابعها على الرمل المتراكم خارج النافذة، دوّى الآن صوت بات أكثر صخبا من أي وقت مضى.
“أنتِ صغيرة جدًّا لتصبحي أمًّا.”
تراجعت روميا مبتعدة عن أشعة الشمس الحارقة وجلست أمام الماركيزة الكبرى. ثم ابتسمت بلطف، وعضّت بمرح على إحدى البسكويتات التي طلبت الماركيزة إعدادها وقالت:
“سمعتُ أنّكِ أصبحتِ سيّدة قصر موندريا وأنتِ لم تتجاوزي السادسة عشرة.”
شعرت روميا بنظرات عينيها المليئتين بالتجاعيد وهي تتفحصها من رأسها حتى أخمص قدميها.
ويبدو أنّ القبعة التي صنعتها روميا راقت الماركيزة الكبرى كثيرًا، إذ صارت تستدعيها من حين إلى آخر لتناول الشاي والحلوى، أو لتطلب منها أن تكون جليستها ورفيقتها في الحديث.
في البداية كانت لقاءاتهما متوترة وصعبة على روميا، غير أنّه مع مرور الوقت، صارت تشعر بمودة تجاه ماركيزة موندريا.
فقد كانت تعتني بها أحيانًا كما لو كانت قريبتها، بل كأنّها والدتها. لم تكن رقيقة في كلامها ولا متساهلة، لكنها كانت، في المقابل، سخيةً في المديح حين تجيد روميا فعل شيء.
وعندما أجابت روميا بمزاح، ارتسمت بدورها ابتسامة على وجه الماركيزة الكبرى وسألتها:
“ومن قال هذا؟”
“الماركيزة.”
“تسك.”
متى اقتربت منها وأسرّت لها بتلك الحكايات القديمة يا تُرى؟… بعد الماركيزة الكبرى، لم يكن أحد يملك سلطة سيدة القصر الفعلية سوى “إيربيرونيا موندريا”.
وبما أنّها كانت سابقًا سيّدة قصر لوماهوي، فقد آوت إلى الفراش وانقطعت عن الناس أيّامًا عديدة منذ أن سمعت بخبر مشاركة لوماهوي في الحرب.
ولهذا بدا غريبا أن تكون روميا قد التقتها، إذ قطعت كلّ نشاطاتها الاجتماعية وأهملت طعامها وشرابها، مما جعل ابنها في قلق لا ينتهي.
وبينما كانت تفكّر في ابنتها في القانون، ضعيفة المزاج، وجدت نفسها تقارنها بغير قصد مع روميا الجالسة أمامها: فبينما لم تنجح زوجة ابنها في كسب رضاها مهما حاولت، رأت في روميا نموذجًا تستحق الثناء، فهي قد غادرت وطنها واستقرت في ريلنوك رغم حملها.
“هل دعتكِ تلك الفتاة على انفراد؟”
“صادفتُها وأنا في طريقي.”
“صدفة؟ الأغلب أنّها خرجت خلسة من شدّة الجوع.”
قهقهت الماركيزة ساخرًة وهي ترى روميا تلفظ تلك الجملة البريئة التي قد تقولها فقط فتاة صغيرة.
وحين لاحظت روميا أنّ كأس الماركيزة قد فرغ، ملأته بعصير الفاكهة الحامض قائلةً وهي تهزّ رأسها
“لا شك أنّ أخبار الحرب بين موطنها وريلنوك كانت صادمة للغاية لها.”
“لقد غادرت لوماهوي منذ أكثر من عشرين عامًا. كان عليها أن تنسى الآن.”
حدّقت روميا مطولًا في وجه الماركيزة غير الراضي، ثم تجرأت وسألت بحذر:
“حقًّا… هل يمحو الزمن كل شيء؟”
كانت إيلينا موندريا تلوك الكلام بنوع من الغيبة عن زوجة ابنها، لكنها صارت تدقق في ملامح روميا المغمورة بالتفكير.
كانت تعلم أنّ وراءها قصة، لكن سواد وجهها دلّها أنّها ليست قصة عابرة.
انتزعت موندريا الملعقة المغروسة في الكأس وقالت:
“يُبلّد الزمن المشاعر. لكنه لا يمحوها.”
“…….”
“ستبقى آثار. سواء كانت شوقًا أو حنينًا أو غضبًا.”
ارتعشت عينا روميا الصغيرة، كأنّها تمنت أن تسمع جوابًا آخر يطمئنها بالبلادة والنسيان.
فأردفت إيلينا موندريا
“لكنّكِ، في النهاية، ستتبلدين أمام تلك الآثار، ولن تكترثي بها.”
***
“سأحملها عنكِ.”
“لا بأس، سيد كارتر.”
“إنّها ثقيلة حتى من النظرة الأولى.”
عادت روميا من قصر موندريا، وكعادتها كانت تحمل بيديها سلّة مليئة بالفاكهة وهي عائدة إلى البيت.
لكن الفارق هذه المرة أنّ الفاكهة لم تكن من السوق، بل مما أعطتها إيّاه الماركيزة الكبرى بنفسها.
وبأمرٍ من إيلينا موندريا، التي أرادت مراعاة ثقل جسد روميا الحامل، دخلت عربة موندريا إلى ساحة القرية التي تعرفها روميا جيدًا. وكالعادة رفضت أن يُوصِلها السائس حتى باب منزلها ونزلت في الساحة.
نزلت ببطء من العربة بمساعدة السائس، تحمل بصعوبة السلّة وتخطو خطوات ثقيلة.
حينها لمحها كارتر، الشاب المألوف من القرية، فأسرع نحوها. خطف بسرعة سلّة الفاكهة من يديها رغم احتجاجها الصارخ، وابتسم ابتسامة عريضة وهو يجري أمامها بخفة.
كان ابن السيدة لينا، بائعة الفاكهة، ويتدرّب عند ماكس النجار المجاور.
لم يكن باستطاعة روميا أن تلحق به، فاكتفت بزفرة طويلة وهي تنظر إليه يبتعد.
“الماركيزة الكبرى هي من أعطتكِ هذه، أليس كذلك؟”
“آه… نعم.”
حين وصلت إلى باب منزلها، كان كارتر ينتظرها. شكرتْه فأعاد لها السلّة.
وعندها تذكرت مجددًا أنّه ابن لينا بائعة الفاكهة، فابتسمت محرجًة وهي تحك خدها.
“يبدو أنّ طفلكِ يحب الفاكهة كثيرًا.”
مدّ كارتر يده بحذر نحو بطنها المستدير. لم يكن هذا غريبًا عليها فقد اعتاد فعل ذلك، لكنها ابتسمت ابتسامة متكلّفة.
ومع ذلك، لم تستطع أن تدعه يذهب بعد أن ساعدها في حمل السلّة.
“البيت فوضوي قليلًا، لم أرتبه بعد.”
“إن كان أنظف من غرفتي فذلك يكفي.”
دخل معها لشرب الشاي، وجلس بخجل مقابلها.
“روميا، كم تبقّى؟”
كان يرتشف الشاي وهو يلقي نظرات خاطفة إلى بطنها المنتفخ. تقول والدته لينا إنّ الطفل قد يولد في أي وقت. ولأنّها لم تكن تعرف متى ستأتي آلام المخاض، كانت لينا تراقب بيت “روميا” كل ليلة قبل أن تنام.
في الحقيقة، كان جميع سكان قرية بيلفيروتر ينتظرون بفارغ الصبر ولادة طفلها.
“لا أدري. يبدو أنّه ما زال مرتاحًا في الداخل.”
“أتمنى أن يخرج بسهولة، بلا متاعب.”
“ليت الأمر كذلك.”
حين صار الحديث عن الطفل المرتقب، اختفى من وجه روميا كل أثر للانزعاج، وارتسمت ابتسامة دافئة.
وحين رآها كارتر على ذلك الحال، جمع شجاعته وقال
“حين يولد الطفل… ستبقين في ريلنوك، أليس كذلك؟ هنا، في بيلفيروتر.”
لكن ابتسامتها سرعان ما انكسرت، ونظرت إليه مطولًا.
كان كارتر شاب طويل القامة قوي البنية، حسن المعشر محبوبًا من الجميع. لطيفًا واجتماعيًّا إلى حد أنّه لم يكن له كاره.
في البداية كانت ممتنّة لاهتمامه، لكن مع الوقت أدركت أنّ نظرته إليها لم تعد مجرّد لطف، بل شعور آخر.
شعور غِرّ، ناعم وساذج. ولم تكن روميا تجهل اسمه.
‘لهذا أبقيتُ بيننا مسافة….’
تنهدت سرًّا دون أن يلاحظ، ثم أجابت
“لم أفكر بعد في الأمر.”
“ابقي في بيلفيروتر. أي مكان آخر سيكون الأمر أصعب. خصوصًا أن تربي الطفل وحدك…”
انزلق لسانه بكلمة ما كان يجب أن يقولها، وتوقف مرتبكًا. لكن روميا كان وجهها قد تصلب بالفعل.
كان كلامه يحتمل إساءة الفهم، وأدرك ذلك، فحاول إصلاح الموقف، غير أنّ روميا سبقته
“لا بأس إن لم يكن للطفل أب. قد يكون الأمر صعبًا واقعيًّا، ولن أستطيع أن أملأ فراغ مكان الأب، لكن…”
كان صوتها هادئًا أكثر مما توقع. لم تحرّف كلامه ولم تغضب. وهذا ما جعله يتشبث بكلامه أكثر.
احمرّت أذناه وهو يرفع رأسه بعزم ويقول
“سأكون إلى جانبك، روميا. سأتحمل مسؤوليتكِ أنتِ وطفلك.”
حدقت فيه طويلًا، ثم ابتسمت ونفت برفق
“أقدّر شعورك، سيد كارتر، لكن لا حاجة لمساعدتك. لدي ما يكفي من المال لأربي طفلي، والأهم… أنّ أب هذا الطفل لا يمكن أن يكون أحدًا سواه.”
كان رفضًا ناعمًا لكنه قاطع.
كان اعترافه الشجاع قد تحطم عند جدار “الأب الغائب”.
لم تقل يومًا أنّها تحبّه، ولم تقل أنّها ستنتظره، لكن بالنسبة لـ كارتر كان شعورها هكذا.
أنّها تفضّل أن تبقي مكان الأب فارغًا على أن يملأه غيره.
رحلت عنه أولى خفقات قلبه بمرارة. وبعد أشهر من العذاب الصامت، صارحها للمرة الأولى، لكنه انطفأ سريعًا وهو يقول بحزن
“هل كان حبًّا؟”
حب؟
ارتجفت روميا وهي ترفع الفنجان الفارغ.
كلمة لم تسمعها منذ زمن بعيد، ولم تستطع يومًا أن تنساها.
قبضت على الفنجان بقوة وقالت بصعوبة
“كان يأسًا.”
“….”
“لكنّه كان حبًّا مع ذلك، على الأقل بالنسبة لي.”
“لا أفهم.”
“وهكذا هو الحب. مليء بما لا يمكن فهمه. كنتُ أخافه، وأردتُ أن أهرب منه. ولم يكن الإعجاب به سوى لحظة عابرة.”
“….”
“جشع؟ رغبة؟ اعتقاد ساذج أنّني سأرتقي به إلى مكان أعلى؟ لم يكن ذلك.”
كان ينظر إليها بعينين متهدلتين من الحيرة. فنظرت روميا إليه، لكنها رأت جيهاردي.
حتى الآن، كلما تذكرت وجهه، شدّها ذلك القيد العاطفي من جديد.
لم يكن الغضب أو الكراهية أول ما شعرت به، بل الشوق والحنين، كما قالت الماركيزة الكبرى.
كانت روميا بيرلوس ما زالت تحب جيهاردي كاتاس.
وبينما تفكر في أنّ طفلاً يشبهه سيولد قريبًا في ريلنوك، قالت بصوت واضح
“كان ببساطة… حبًّا بديهيًا لا ريب فيه.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 98"