“هناك أيام كهذه أيضًا، لم أكن أعلم أن جلالتك قد يُصاب بالزكام.”
صوت بارد انحدر نحو جيهاردي الممدّد على الأريكة.
الرجل الذي كان يستقبل ضيوفه دومًا بجلسة مستقيمة لم يتحرك قيد أنملة هذه المرّة، رغم أن الزائرة هي من جاءت إليه.
أمام الرجل الذي وصلت إليه بشق الأنفس بمساعدة السيدة ميريج، عضّت هيرين شفتها بصمت وحدّقت فيه بغضب.
منذ لحظة ما، باتت هيرين في حضرته كأنها غير موجودة. على الرغم من أنها تقف أمامه.
“سمعت من رئيس الوزراء أنّك أصبت بزكام شديد للغاية. سيُصاب الناس بالدهشة. فهم لن يعرفوا أبدًا هذا الوجه لك. كلّ ما في الأمر أن محظية واحدة قد اختفت فحسب…”
“هيرين.”
“…”
الجزء الوحيد الذي تفاعل معه من كلامها كان واضحًا. أليس بديعًا أن يقطع حديثها تحديدًا عند تلك الكلمة؟
‘الحب’. أيّ عاطفة عنيدة هذه، لرجل يبدو وكأنه بلا دموع ولا دماء؟
أن يكون قد انهار إلى هذا الحد لمجرد أن الحب وحده تسلّل من بين كل ما كان يملك!
قهقهت هيرين بسخرية قصيرة.
بدا لها الرجل الممدّد على الأريكة وقد أثقلته الحُمّى تافهًا. فالدواء الذي تركه الطبيب بقي في موضعه كما هو، لم يمسّه.
حوّلت هيرين بصرها لتتأمله من جديد.
ذلك الجسد الضخم الصلب، الذي كان يبعث الرهبة لمجرد النظر إليه، بدا الآن محطّمًا وبائسًا.
حتى وهو مستلقٍ، كانت أزراره موصدة بإحكام وقميصه بلا تجاعيد، ما جعله بالفعل هو الرجل الصلب الذي تعرفه. ومع ذلك…
الرجل الذي فقد حبًا لا قيمة له مقارنة بالسلطة والمجد، فقد معه أيضًا هيئته السابقة.
لا مبالاة أمام الزوّار. خواء وبلادة في كل وقت خارج أعمال الحكم.
وكلّ ذلك لم تصنعه إلا روميا بيرلوس. ما عجزت هي عن فعله.
وضعت هيرين بعصبية صحيفة أمام جيهاردي.
“سمعت أنك ألغيت تعيين المحامي الملكي.”
كان الخبر قد شاع بأن فسخ الخطوبة بين العائلة الملكية وبيت دوق فوتاميا قد بطل. وجاءت هيرين لزيارته لهذا السبب.
“هل هي لفتة كريمة منكم لأجل امرأة لم يبقَ لها الكثير من الأيام؟”
ضحكت هيرين بعد أن سألت، كأن الأمر يُضحكها. عندها فقط أبعد جيهاردي ذراعه التي كان يغطي بها وجهه، واعتدل في نصف جلسة.
“ألم يكن هذا طلبكِ أنتِ مني أيضًا؟”
“هل تشفق عليّ إذًا؟”
عيناه الساكنة اتجهتا ببطء نحو هيرين فوتاميا.
لم يشفق على السيدة التي حُكم عليها بالاحتضار، ولم يشعر بالرحمة تجاهها. كان هذا مجرّد آخر واجب تكريم لامرأة قضت عمرها كله تسعى لأن تصبح ملكة.
― حتى لو متّ، سأموت وأنا خطيبة جلالتك. أرجوك ألغِ الفسخ.
ألم يكن الأجدر به أن يسألها: “هل هذا مهم؟” لكنه لم يستطع. سؤالٌ كان ليسألْه لو كانت امرأة أخرى، لكنه لم يجرؤ مع هيرين.
فهو يعرف جيّدًا الطريق الذي سارت فيه.
ومن عينيها المرفوعتين نحوه قرأ عزيمة صارمة بأنها يجب أن تنتهي كذلك.
امرأة أنهت منذ زمن طويل استعداداتها النفسية للموت، لم تطلب إلا شيئًا واحدًا: أن تُغمض عينيها على الطريق نفسه الذي مشت فيه وحمته.
لم يستطع أن يسخر من عبثية ذلك. لأنه، هو الآخر، لم يكن مختلفًا عنها في وقوفه صامدًا لحماية هذا المقام.
نهض جيهاردي آخِذًا ساعته اليدوية الموضوعة بإهمال على الطاولة.
“الأفضل أن تعودي لترتاحي.”
“لن أذهب قبل أن أسمع الجواب.”
بكبرياء يلامس السماء، لم تسمح هيرين له بالتحايل. أطلق جيهاردي تنهيدة خافتة، وبتعب وملل معًا، فتح فمه:
“الشفقة….”
“….”
“لم تكن منّي إليكِ، بل كانت من تلك الفتاة إليّ.”
حين قال ذلك، فهمت هيرين فورًا من يقصد بـ “تلك الفتاة”، وكأن هناك عهدًا غير منطوق، فأطبقت فمها.
تجاوزها جيهاردي بهدوء.
لم يكن من حقه أن يستعمل كلمة “الشفقة” مع هيرين فوتاميا. وحين أدرك أن عبارته القديمة كانت صحيحة: “هي لن تعرف أبدًا صدق مشاعرك”، كان أوّل ما خطر له شيء واحد.
لقد كان يظن أنّ روميا بيرلوس لم تهرب لأنه كان يُرعبها. لكن في الحقيقة، كان بإمكانها أن تتركه في أي وقت.
هي فقط بقيت بجانبه شفقةً على وحش يعيش متنكّرًا بلا مشاعر.
ولعلّ تلك الرحمة التافهة قد انتهت الآن… توقّفت أفكاره عند ذلك، فبدأ يفكر بأمر آخر:
كان يعرف أنها لن تسمع، ومع ذلك ظلّ يردّد اسمها في فمه مئات المرّات.
تائهًا بين الوعي واللاوعي، التقط قبعته من مكانها بيدٍ معتادة وكأنها الشيء الوحيد الملموس.
― إنها هدية.
تتكررت صور روميا أمامه وهي تبتسم بخجل وتقول إنها هديتها، ثم تمدّ يديها بكل حماس. كاد يظن أنّه لو مدّ ذراعيه لاحتضنها، لكنه لم يجد سوى القبعة التي صنعتها له.
عينيه احمرّتا. لقد مرّ شهران بالفعل، ولم تعد روميا بيرلوس. لم يأتِ أي خبر عن صانعة القبعات.
ذكرى كان ينبغي أن تبهت لأنها لا تُرى ولا تُسمع، وفراغ كان يجب أن يألفه.
لكن حين يُغمض عينيه، كانت صورتها تعود أوضح من أي وقت، لتغرقه في فراغ قاتل.
لم يعرف كيف عليه أن يتجاوز هذا، ولا كيف يمحوها من داخله.
روتينه اليومي ظلّ كما هو، لكنّه كان عاجزًا تمامًا كطفل تائه بعدما انتُزع من حياته الوقت الذي قضاه معها.
لطالما عاش جيهاردي في عالم يمسكه بقبضة كاملة، أشياؤه باقية على حالها. لذلك، أن تختفي فجأة، كان أمرًا غريبًا عنه.
“سأكون بخير. سأكون بخير.”
لو اعتبر الأمر مجرد “تفاهة”، لكان الأمر انتهى. لكن ذلك جرحه بعمق. ورغم الحُمّى وضبابية الوعي طوال اليوم، لم يستطع أن يتجاهل ألمًا حادًا ينتشر في صدره.
وبينما وضع يده على قلبه المتيبّس كعادته، وجد نفسه فجأة في مكان آخر غير القصر.
“جلالتك! كيف أتيت إلى هنا من دون حرس…؟”
لقد تعرف عليه الضابط غلووس وهو يقترب يقود كلبًا.
كأنما منوّم، وجد نفسه في ساحة الرماية. ألهذا الحد هو موجوع؟ لم يبكِ ولم يحزن كما يجب.
لكنه ظلّ يسير ممسكًا قلبه الموجوع، حتى قادته قدماه لا شعوريًا إلى مكان تغمره روميا.
وحين عاد إلى وعيه، أخذ يتأمل ساحة الرماية من حوله. دوّي الطلقات لا ينقطع حتى كاد يصمّ الأذن.
كان يعرف من التقارير أنهم دخلوا تدريبًا عسكريًا أكثر شدّة مع اشتعال الحرب ضد ريلنوك واشتراكهم في معركة يوتار الكبرى.
رفع جيهاردي البندقية التي اعتاد أن يطلق بها النار كهواية. لعلّ صوت الرصاص يوقظه من سباته.
ثم وجه نظره بعينيه الداكنتين إلى الضابط غلووس الذي كان يقترب. وبجانبه كلب جديد يلهث، يبدو أنه لم يره من قبل.
طااااخ!
رنّت رصاصة فجأة كصرخة موت. الكلب، وقد أفزعه الصوت، أفلت من يد الضابط وانطلق مباشرة نحو جيهاردي.
أثار صوت الرصاص عن قرب حماسته، فزمجر وهو يركض بأقصى قوّته، كاشفًا عن أنيابه.
“فين! لا!”
“جلالتك!”
هرع الجميع خلف الكلب في ذعر. صرخ الضابط غلووس بلهفة:
“جلالتك! تراجع!”
عجز عن اللحاق بالكلب، فأخرج مسرعًا مسدسه وصوّبه نحوه، لكن سرعة فين وموقع الملك خلفه منعاه من الإطلاق.
‘جلالته يحمل سلاحًا أيضًا، فلماذا…؟’
كان بوسعه إطلاق النار. فجميعهم يعرفون أن مهارة جيهاردي في الرماية تضاهي أمهر الجنود. فقد شارك في الحرب صغيرًا وعاد مكلّلًا بالإنجازات.
لكن جيهاردي لم يتحرك. لم يبدُ أنه يتجهّز حتى. وقف ساكنًا كأنه ينتظر الكلب.
وبينما كان الضابط يتردّد، ظلّ جيهاردي يحدّق بصمت في فين الذي وصل حتى أنفاسه.
تلك الأنياب الحادّة كأنها ستنغرز في عنقه في أي لحظة.
ولم يكن الضابط واهمًا. فقد كانت عينا جيهاردي الهادئتين تنظران بترقب، وكأنّه يتوسّل أن ينقضّ عليه. ظلّ واقفًا حتى اللحظة التي قفز فيها الكلب.
وكأنّه حبله الأخير ليفلت من هذا المكان الذي لا وجود فيه لروميا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 94"