منذ المرة الأولى في بيريدروز لم يلقِ أيّ اهتمام بالزرّ المتدلّي. صحيح أنّ الزرّ المترنّح كان يثير الانزعاج قليلًا، لكن ثمّة ما كان يجذب بصره أكثر بكثير.
فكلّما كان القماش فاخرًا، وجب الاعتناء به أكثر، لكن ثوبها بدا في حال يرثى لها كأنّها لم تعرف كيف تعتني به، حتى بدت العلامة التجارية الغالية بلا معنى على هذا المظهر المهمل.
ربما كان ذلك الثوب يشكو من أنّه صُنع لسيّدة لا تعرف قيمته. هو كان يمقت أشدّ المقت النساء اللواتي لا يدرين قيمة ما يملكن، فيبذّرن دون حساب. كما لم تعجبه تلك اليدان البيضاوتان الناعمتان، التي بدت وكأنّها لم تلمس الإبرة يومًا، على الرغم من حركتها النشيطة التي تشي بأنّها صاحبة متجر قبّعات.
لكن حين لمح طبقةً خشنة خفيفة على الجانب الأيسر من إصبع الوسطى، أيقن أنّها تُفضّل الإمساك بريشة القلم أكثر من الإبرة.
بلغ الفضول به حدّ التساؤل عن حقيقتها. أيّ كائن هذا الذي يتناثر أمامه كفتاتٍ متناثر في الهواء؟ حتى وهو يراها أمامه، كانت تبدو كأنّها بعيدة، كما لو كانت مجرّد سراب.
ومع ذلك، فقد رآها تجتهد في أن تجلس أمامه مستقيمة الظهر كما لو كانت متعلّمة بعض الآداب. ظلّت حذرةً من الغريب الذي تراه لأول مرة، دون أن تخفّف من حذرها لحظة، لكنها مع ذلك حاولت أن تقلّد الابتسامة الواثقة.
وعلى جسدها النحيل الذي يبرز من تحت قميص غير مرتب، ارتسمت انحناءة ناعمة. كانت دائرة القلنسوة المثبّتة على رأسها عريضة، وشعرها المتطاير مع الريح بدا وكأنّه يذكّره بشريطٍ وردي اعتادت روميا بيرلوس أن تربط شعرها به.
أجابت روميا وهي تفرك عينيها بتعب، ثم شهقت دهشة. رأت جیهاردي بكامل انتباهه ونشاطه على غير عادته، فساورها القلق لعلّه قضى ليلته كلّها غارقًا في عمله دون نوم.
“جلالتك، لعلّك لم تنم…… أُه!”
لكن كلماتها لم تكتمل، إذ تسلّلت يده داخل ثوب نومها.
“نمتُ قليلًا.”
“هاه…….”
سرعان ما تحوّلت صحوتها القصيرة إلى غشاوة من جديد، تحت لمسة يده التي تعبث بها كأنّها تطلب إذنًا ملحًّا. وما لبثت أصابعه أن تجاوزت قماش ثيابها الرقيقة، فاندفع من صدرها نفس حار.
رضخت طويلًا لمشاغبته، ثم أدركت فجأة:
“لقد تغيّرت ثيابي.”
“آنا ومعها وصيفتان ساعدن في ذلك.”
“ومسحوا زينتي أيضًا؟ وشعري…….”
نعم، لا بدّ أنهنّ فعلْن كل ذلك. فاطمأنّت قليلًا، إذ لم يخطر لها أن جیهاردي بنفسه من قام بذلك.
ثم تذكّرت شعورًا مزعجًا، فعقدت حاجبيها.
“أتعلم، الأمر غير مريح.”
“غير مريح قليلًا؟”
“في الحقيقة…… كثيرًا.”
“لكنّي لن أتركك.”
“أحقًا ستظلّ هكذا؟”
“في الواقع كنتُ هكذا قبل أن تستيقظي بوقت طويل.”
“…….”
منذ متى؟ ملابسها صارت تضايقها. رمقته بعينين ساخطتين، لكنه ابتسم ابتسامة ماكرة.
“تنظرين إليّ كما لو كنتُ منحرف بغيض.”
انثنى جسد روميا فجأة. كتمت أنفاسها للحظة، ثم أخرجت زفيرًا مضطربًا، فيما مسح هو على خدّها مبتسمًا.
“أترين؟ أنتِ لا تنكرين الأمر بعد الآن، روميا بيرلوس.”
“أفضلُ من أن أكون كاذبة مثل جلالتك.”
كرهته حينها. ما أقسى أن يبدأ يومها مقيدةً تحت عبثه! ألقت عليه بكلمات جافة متهكمة، فما كان منه إلا أن ازداد شدّة وإلحاحًا.
امتلأت الغرفة بأنينٍ مريب منذ بزوغ الفجر.
كانت روميا بيرلوس تكره الفضيحة، لكنها كانت الأقدر على أن تحملها. وحين نهض جیهاردي من مكانه، أدركت بعينيها المترنحتين ما ينوي فعله، فأخذت تهز رأسها في رفضٍ غريزي.
***
وبعد أن انتهت ليلتهما العاصفة، تجاوزت الشمس منتصف النهار. ولحسن الحظ لم يكن لدى جیهاردي مهام صباحية، فجلس مطمئنًا يتناول مع روميا فطورًا متأخرًا أشبه بالغداء، ثم أخرج كتابًا مؤجّلًا.
في هدوء، دوّى صوت رشفة من شايه بعد الطعام.
أما روميا، فبينما ترفع شعرها في مرآتها وفق الطريقة التي علمتها إياها آنا، أخذت تنظر خلسة إلى جیهاردي وهو يقرأ.
أسفل درج طاولة الزينة التي أهداها لها، كان هناك جواب من إيزابيلا. أرادت أن تقرأه، لكن وجوده بجوارها حال دون ذلك، فاغتنمت لحظة انشغاله بالكتاب وأخرجت الرسالة، تخبئها في كمّها.
وفتحت كتابًا على صفحة وسمتها بورقة خريفية حمراء اللون، واتخذته ساترًا وهي تسحب الرسالة ببطء. لم تلتفت نحوه كي لا تثير شكّه.
وبدأت بقراءة تلك الكلمات القليلة:
< بعد نصف شهر، عند ميناء ويلتون، قبل طلوع الفجر.
سيرا رودج.>
كانت رسالة قصيرة للغاية، لكن روميا فهمت مقصدها بوضوح. لقد آن أوان الخلاص من هذا الشتاء البغيض.
ارتعشت عيناها، لكنها تماسكت خوفًا من أن يلحظ شيئًا. وفي اللحظة ذاتها، قطع طرقٌ على الباب ذلك التوتر.
“جلالتك، هذه حُليّ السيدة بيرلوس.”
كعادته، عند مثل هذا الوقت، كان جیهاردي يغدق عليها الجواهر والفساتين النادرة. دخلت الوصيفات دافعات عربات مليئة بالثياب والمجوهرات الملفوفة بالأقمشة الناعمة، يرصصنها أمامها.
أما هو، فلم يحرّك ساكنًا، بل اكتفى باحتساء شايه البارد وكأن الأمر لا يعنيه.
شعرت روميا بالاشمئزاز من نفسها، إذ غدت سوقية مثلما هو يغدق عليها. أغمضت عينيها بحدّة، ثم أعادت رسم ابتسامة لطيفة كما اعتادت.
‘فقط نصف شهر، نصف شهر.’ تردّدت العبارة في ذهنها كالتعويذة، فهدأ قلبها شيئًا فشيئًا.
“يمكنك الانصراف. سأعاينها وحدي.”
طردت الجميع متذرعة بأنها تريد أن تراها على راحتها. حتى مع حركتها وضجيجها، ظلّ جیهاردي غارقًا في كتابه لا يرفع رأسه.
‘أهو حقًا ذلك الرجل الأناني الذي طالب ببقائي معه حتى الأمس فقط؟’ تساءلت في نفسها وهي تنظر إليه.
تناولت زوج أقراط صغيرة براقة، وتقدمت إليه.
“هل هي جميلة؟”
رفع رأسه قليلًا، ونظر إليها:
“نعم.”
ردّه البارد زادها حنقًا.
فكرت في كلمات إيزابيلا “بعد نصف شهر”، وشعرت بالتحرر. أرادت أن تفرغ صدرها بما لم تجرؤ أن تقولَه من قبل.
“هذه الهدايا، يا جلالتك، ما تعتبرها أجرًا لي وتمنحني إياها بانتظام.”
تصلب وجهه للحظة عند لفظها “أجرًا”. لكن روميا ضحكت ساخرًة:
“أو ما عساني أسميها إذًا؟ هدايا تُعطى لمحظية مثلي هي في النهاية أجر، أليس كذلك؟”
“…”
“وهي دليل على أنني أعجب جلالتك كثيرًا.”
ضحكت كطفلة وهي تقولها، فنهض جیهاردي وأغلق كتابه، ثم جال ببصره في الغرفة المكدسة بالمجوهرات.
“وإن كانت هذه الأجور كما تسمينها هي دلالة على حبّي لك؟”
“هذا محال.”
هزّت رأسها بعنف. لا يمكن أن يكون جیهاردي كاتاس قد أحبّ فتاة بيرلوس. مستحيل.
تصلب وجهه أكثر:
“ولمَ لا يكون ذلك ممكنًا؟”
“لأن…….”
ترددت. بحثت عن كلمة مناسبة فلم تجد. وبعد تفكير طويل، رفعت بصرها نحوه وسألته فجأة
“أتحبّني؟”
“….”
“هل تحبّني حقًا؟”
“….”
ابتسمت بأسى
“أرأيت؟”
لم يكن صمته لأن السؤال أربكه، بل لأنه سؤال لا يملك له جوابًا. كانت روميا تدركه أكثر مما يتصور. عرفت أنّه سيسكت.
رفعت الأقراط التي بين يديها وأشارت إليها
“إذن…… هذه ليست أجورًا.”
“….”
“إنها يأس.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 89"