بعد أن رحلت شارون وظلّ المكان خاليًا، أطلقت ميشيل تنهيدة خافتة وهي تحدّق في الفراغ.
كانت قد توقّعت أن يأتي يوم كهذا، ومع ذلك لم تستطع إلا أن تتساءل إن كان ما فعلته صوابًا، محملةً دومًا شعورًا بالذنب الثقيل.
ألم تكن هي من اختارت أن تعيش في هذا المكان المظلم والرطب ككفارة لذلك؟
كانت هناك كلمات لم تستطع البوح بها لشارون.
كلما ازداد حزن ميشيل، ازدادت تجاعيد عينيها عمقًا.
***
“تقول إن سيسليا غير موجودة؟”
“لقد فتّشنا المنطقة، لكن لم يُعثر على جثة السيدة ماغاريود في أي مكان. ولأن السيارة انقلبت بالصدفة قرب الخزان، تعثّرت أعمال البحث.”
“أتقصد أنها ربما غرقت في الماء؟”
تردّد صوت أوليفيا المفعم بالكآبة في الأرجاء.
كان موت إدوارد، الذي ربّته بحنان طوال حياته، أمرًا فاجعًا بما يكفي، أما سيسليا الحامل بدم ابنه الوحيد، فقد اختفت دون أثر.
جلست أوليفيا على الأرض دون حتى أن تحاول إخفاء ارتجاف يديها.
شعرت وكأن جميع خطاياها قد عادت إليها كعقاب.
ابنها، وحفيدها، وحتى ديانا التي زوّجتها من ابنها، فقدتهم جميعًا دفعة واحدة.
في النهاية، لم تكن سوى أمّ لطفل، قبل أن تكون حاكمة كاتاس.
ساعدها فانيسا على النهوض، إذ بدا أن أوليفيا ستفقد وعيها في أي لحظة.
لكن أوليفيا، وهي تستند إلى ذراع فانيسا، وقفت متمايلة على قدميها.
فقد كانت أثقال منصب الملكة تضغط عليها، حتى قبل أن تتمكّن من الحداد كأم فقدت ابنها.
وبما أنها فقدت الوريث، كان عليها أن تُظهر قوتها وصمودها لشعبها القَلِق.
هكذا مرّت سبع سنوات.
وكان ذلك عندما بدأت أخبار الحرب تلوح في الأفق، مهدّدة السلم الذي عمّ كاتاس.
سبع سنوات على وفاة الأمير وزوجته، لكنها لم تكن طويلة على أوليفيا.
فكاتاس كلها ناحت معًا على رحيل الأمير وزوجته.
طوال تلك المدة، أبقت أوليفيا منصب الوريث شاغرًا، رغم الأصوات القلقة.
غير أنها لزمت الصمت دومًا.
فجرح فقدان ابنها لم يشفَ، بل ظلّ غائرًا في صدرها.
وفوق ذلك، لم يُعثر قط على جثة سيسليا ماغاريود، مما جعلها تشعر بأنها ستظل مذنبة إلى الأبد تجاههم.
وحين أوشكت حرارة الصيف على الأفول ودخل الطقس مرحلة البرودة، ورث فانيسا منصب أبيه ودخل عالم السياسة بصفتها مركيز.
وفي ذلك الحين، جاء إلى أوليفيا من لم تره الملكة إلا في كوابيسها: سيسليا ماغاريود.
“…لماذا؟ لماذا لم تأتِ إليّ إذا كنت حيّة؟”
لم تستطع أوليفيا أن تصدق ما ترى.
فحتى وهي جالسة قبالتها، بدا لها أن حياة سيسليا مجرّد حلم.
رغم تغيّر ملامحها قليلًا مع الزمن، إلا أنها كانت بلا شك سيسليا ماغاريود، صديقة إدوارد منذ الطفولة.
لكنّ عيني أوليفيا سرعان ما اتجهتا نحو الطفل الصغير الذي كانت سيسليا تمسك بيده بقوة.
كان يشبه إدوارد في طفولته لدرجة ألهبت قلبها.
نادتها أوليفيا باسمها بصوت خافت، وكأنها تسعى للتأكيد مجددًا.
حينها كسرت سيسليا صمتها للمرة الأولى وقالت:
“لأن جلالتكِ كنتِ ستسلبين مني طفلي.
فقد فضّلت أن أُعتبر ميّتة، وأبقى فقط أمًا لهذا الطفل.”
“ماذا تقولين….”
“كان الأمير في موقع لا يُمكنه منه سوى أن يتصرّف هكذا، وأنا أدركت ذلك.
لذا وافقت على أن يُربّى طفلي باعتباره ابن الأميرة.
لقد اعتذر لي كثيرًا… وعرفت كم كان يتألّم لذلك.
ولأنني فهمت مشاعره، كان عليّ أن أتنازل عن حقي كأم لهذا الطفل.”
“سيسيل…”
نادتها أوليفيا وهي تكبح مشاعر الأسف والذنب التي انفجرت في صدرها.
لكن سيسليا رفضت أن تلتقي نظراتها.
كانت تمسك بيد ابنها بقوة، وكأنها تُثبت أنها لن تفلتها أبدًا، وأن طفل الذي كان ببطنها قد كبر هكذا بفضلها، وأنها حافظت على وقتها الثمين معه.
لقد أنقذها أحد الغرباء حين عثر عليها غارقة في الخزان بعد الحادث.
ورغم أنها فقدت الكثير من الدم وكاد الموت يخطفها، فتحت عينيها بعد نصف شهر.
وكان أول ما أدركته أن بطنها المنتفخ قد أصبح مسطّحًا.
وحين بحثت بغريزة الأم عن طفلها، قدّم لها الزوجان العجوزان الطفل ملفوفًا في قماطه.
ـ حتى وأنتِ بين الحياة والموت، تشبّثتِ بالحياة لتُنقذي الطفل.
ـ الطفل بخير، لحسن الحظ.
ـ آه…
تدفّقت الذكريات إليها: صراخ الألم، التشنّجات، إصرارها على إنقاذه بلا وعي.
وحين احتضنت طفلها أخيرًا، بكت طويلًا بلا توقف.
كان الطفل الذي تاقت لرؤيته بشدّة، وكان الطفل الذي نجحت في حمايته.
دموع الفرح حملت معها الطمأنينة والسعادة، لكنها حملت أيضًا لمحة من الحزن، إذ كانت متأكّدة من موت إدوارد.
وبعد سبع سنوات، وهي تتذكّر تلك اللحظة، نظرت سيسليا ببطء إلى أوليفيا.
لقد جمعت شجاعتها أخيرًا لتواجهها، حاملة كل مشاعر الأسى العالقة في قلبها.
“جلالتكِ، أنا الأم.
أنا أم هذا الطفل.
يجب أن أربيه أنا، لا أحد غيري.”
اغرورقت عينا سيسليا بالدموع.
أما ميشيل، كبيرة وصيفات القصر، فطأطأت رأسها بخشوع أمام صرخة الأمومة تلك.
وكذلك فعلت أوليفيا، إذ شعرت بندم حقيقي.
“سامحيني يا سيسيل. لقد أخطأت. جرحتكِ كثيرًا.”
كان اعتذارًا متأخرًا سبع سنوات.
لكن سيسليا، التي ربّت ابنها جيهاردي بمساعدة الزوجين العجوزين، شعرت بأن عقدة في قلبها قد انحلّت قليلًا.
مسحت برفق على رأس ابنها الذي كان يمسك بيدها في صمت، متحملًا ما لا يفقهه من كلام الكبار.
ابتسمت بمرارة، ثم رفعت رأسها:
“أريد أن أتحدث معكِ على انفراد، جلالتكِ.”
فأوكلت أوليفيا الطفل إلى ميشيل.
إذ كانت تعلم أن عودة سيسليا بعد سبع سنوات لا بدّ أن وراءها سببًا عظيمًا.
أمسك الطفل يد ميشيل وغادر الغرفة في هدوء، بينما ظلّت أمه تبتسم له حتى اختفى خلف الباب.
وما إن أُغلق الباب حتى جثت سيسليا على ركبتيها أمام أوليفيا.
“لم يتبقَّ لي سوى ثلاثة أشهر.
لن أستطيع بعد الآن أن أكون أمًا له، ولا أن أحميه.”
“…”
“أرجوكِ… أعلم أن طلبي وقح، لكن تقبّليه كحفيدكِ.
امنحيه أدفأ بيت وأأمن مأوى.”
“…”
“إن كنتِ حقًا تشعرين بالذنب تجاهي… فأريحيني بهذا.”
***
كانت النار في الموقد لا تزال مشتعلة، تدفئ جوّ غرفة النوم.
واستفاقت روميا في الفجر بعد أن تقلبت قليلًا.
كان ذلك غريبًا عليها، فهي اعتادت أن تنهك وتسقط في نوم عميق بعد معاناتها مع جيهاردي.
كان على بعد مسافة قصيرة منها، نائمًا بجانبها.
يتصبب عرقًا باردًا على جبينه، كأنه يعاني من كابوس.
حدّقت فيه طويلًا ثم رفعت يدها ببطء، ووضعتها على جبينه.
فهدأ ارتجاف جسده شيئًا فشيئًا.
“…ششش.”
قلّدته كما كان يفعل حين يهدّئها.
ويا للدهشة، فقد استرخى وجهه تدريجيًا.
رغم أنها كانت تتمنى في أعماقها أن يبقى يتعذب في أحلامه، إلا أن يدها تحركت دون إرادتها.
سخرت من نفسها وهي تعضّ شفتها.
ثم، بعد تنهيدة عميقة، همست له بهدوء وهو غارق في النوم:
“لا بأس يا جلالتك. سيحين الصباح قريبًا.”
ذلك الصباح الذي كانت روميا تتوق إليه بشدة.
التعليقات لهذا الفصل " 86"