وأخيرًا، أمام ذلك الرجل العازم على الانفلات من دفء “فوتاميا”، اضطرت هيرين لأن تُطبق شفتيها.
لقد صاغ بوضوحٍ، وبأسلوبٍ متأنّق، إعلان فسخ خطبته منها.
حتى الطمأنينة التي كانت فوتاميا تمنحه إيّاها لم تعد قادرةً على أن تكون وسيلةً لإبقائه مُقيّدًا. أدركت هيرين بحدسها، وهي تشعر بموجة من الخواء تجتاحها، أنّه ربما لم يكن يومًا ملكًا لها منذ زمن بعيد.
كان يُبقيها إلى جواره فقط لأنه اعتبر وجودها منطقيًا، فهو يكره ما يبعث على الضجر والإزعاج والثقل.
كان نفعها عنده يقف عند هذا الحد. فإذا كانت روميا بيرلوس فاصلة قلبت حياته رأسًا على عقب، فإن هيرين فوتاميا كانت النقطة التي أنهى السطر عندها.
كان فمها مُرًّا بمرارة كرامتها الجريحة. لكن ربما لأنها في أعماقها توقعت مجيء مثل هذا اليوم، فقد بدت أكثر هدوءًا من المعتاد.
“روميا بيرلوس قد تصبح سيّدة جلالتك، لكنها لن تكون أبدًا ملكة كاتاس. أنت تعلم هذا، أليس كذلك؟”
كانت عيناها، وقد فقدت كل شيء، تحدّقان بثبات في جيهاردي. وحين أطلقت العنان لخواءها وتخلّت عن كل شيء، لم يبقَ سوى إدراكٍ لمدى قسوته، وكُرهها وبغضها له.
أومأ جهاردي برأسه إيماءة مقتضبة على كلام هيرين.
“كيف لي أن أجهل ذلك.”
ومع ذلك، فهو يعلم أنّه سلبها حلمها في اللحظة نفسها. راحت تلدغ شفتها حتى انتشر طعم الدم المعدني في فمها.
إنه رجلٌ داس على إيمانه بأنّه لا يغيّر ما يقرره يومًا.
‘حتى لو تخلّى عني، لم يكن عليه أن يتخلّى عن فوتاميا.’
عينا هيرين الهادئتان أطلقتا إلى جهاردي تحذيرًا حادًّا.
لكنها كظمت غضبها المتصاعد وابتسمت ابتسامةً متصنّعة.
عندما تجرّأ جهاردي على تخيّل روميا وهي تُزف لرجل آخر، انفجر ضاحكًا بلا مواربة. كانت سخريةً من طباع هيرين فوتاميا الرفيعة التي دفعتها لمتابعة أمرٍ عبثي كحُلم ذلك الفتات.
ذلك الفتات لن يرحل عنه أبدًا.
لقد تنبّه جهاردي للتغيّر الذي أصاب مشاعر روميا مؤخرًا. فمهما اختلف الأمر عن صورتها وهي تتوسّل أن يضمّها بين ذراعيه، فلن تجرؤ على أن تتركه.
حتى مجرّد تخيّلها في أحضان رجل آخر جعل مشاعره التي كانت ساكنة تهتاج بشدة وتتركه في حالٍ سيئة للغاية.
وحينما ذُكر اسم روميا أمامه، غرق في أفكاره رغم إدراكه أنّ ذلك يُعدّ قلة احترامٍ لمُحادِثته. نظرت إليه هيرين مطولًا، ثم قالت:
“حتى لو حُلّت مسألة فسخ الخطبة بين فوتاميا والعائلة الملكية بالقانون، فهل تظن أن تلك الفتاة ستقدّر إخلاص جلالتك؟”
وهذا أيضًا كان السبب في أن هيرين لم تُفرغ كامل غضبها على روميا. فقد كبحت مشاعر الحقد اتجاهها لأن قلب روميا لا يُشابه قلب جهاردي.
ففي البداية، ورغم ما بدا عليها من غفلة، إلّا أنّ روميا اعتادت تلك اللمزات الرقيقة والانتقادات الخفية، وكانت تميّز أين يجب أن تتقدّم وأين ينبغي أن تتراجع.
لم تحلم حتى بالحلم الواهي بأن تصبح امرأة الملك. كل ما فعلته وهي مسنودة إلى جهاردي كاتاس كان صناعة قبّعات وترتيبها في صالونها ودعوة الضيوف إليها.
لقد كانت فتاة غبية لا تعرف كيف تستغل الأوراق التي أُعطيت لها بدهاء.
لم تكن سوى بيرلوس عاجزة لا تستطيع فعل شيء أمام جهاردي، لكنها كانت قادرة على أن تُغيّر رجلًا كاملًا.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي هيرين وهي تستحضر في ذهنها عيني روميا اللامعتين المميّزتين. ثم حين عادت لتنظر إلى جهاردي، تأكّدت أنّها لم تكن مخطئة.
فذلك الوجه الذي يطغى عليه الخوف والرهبة أكثر من الحب كان دومًا يُظهر أنّها تتمنّى الإفلات منه.
روميا لم تكن تملك سعةً تحتمل المشاعر التي تتجاوز قدرتها.
وكان من المدهش أن يُغلق ذلك الملك المتعجرف فمه فجأةً في صمت إثر كلمات هيرين.
***
لم يستغرق الأمر طويلًا حتى ظهر الشرخ بين العائلة الملكية وفوتاميا إلى العلن.
بدأت معركة قانونية شرسة، حيث استعان كل طرف بمحامٍ وأخذوا يُحدّدون المسؤوليات. وبات جوّ القصر كئيبًا، حتى بين وصيفات جناح الزنابق.
“هل انتهى الأمر بمشاجرة؟”
“نعم.”
“جلالتك من ألحق الضربة القاسية بكبرياء فوتاميا، أليس كذلك؟”
ابتسم جهاردي بصمتٍ ردًا على كلمات المركيز فانيسا. لم يكن من المألوف رؤية تلك الابتسامة، التي لا تظهر إلا في المناسبات الرسمية، تتكرّر الآن في هذا المكتب الكئيب.
كان المركيز فانيسا يُدرك تغيّر جهاردي أكثر من أي شخص آخر.
‘لا أعلم أهو أمر جيّد أم سيّئ.’
جال بنظره في المكتب، ثم عاد إلى جهاردي الذي بدا مرتاحًا وحده خلافًا للرأي العام المشتعل. كان قد هرع إلى هنا فور سماعه أنّ دوق فوتاميا طلب لقاءً مع جهاردي بعد سماعه خبر الفسخ. لكن على غير توقّعاته، كان المكتب ساكنًا وهادئًا، عكس طبع الدوق الناري. أثار ذلك دهشة فانيسا، وهو يتأمل المكتب النظيف.
كيف لدوقٍ فقد شرفه وكرامته حين أصبحت ابنته، التي رباها كجوهرةٍ ثمينة، حديث الناس، أن يبقى ساكنًا؟
وما لا تعرفه هيرين فوتاميا أنّه كان هناك عقدٌ سرّي بين الدوق والعائلة الملكية، بخصوص زواجها من جهاردي، رتّبته الملكة أوليفيا الحذرة مُسبقًا.
“لا حاجة للتوجّس. عادةً ما يُبدي آل فوتاميا غضبهم برقيّ.”
“إن كان الأمر مع السيدة، ربما، لكن ليس مع الدوق.”
“لقد كُسرت مزهرية كنتَ تسقيها أحيانًا، لكن ليس بسببي.”
“…….”
فقد المركيز كلماته فجأة. ولمح عندها المزهرية المكسورة في أحد الأركان، لم تُرفع بعد.
“فكرتُ أن تركها لك لتُنظّفها بنفسك، سيكون ذلك أفضل.”
رفع المركيز يده إلى رأسه المثقل بالصداع.
***
كانت روميا تُحدّق بشرود في ظهور الوصيفات اللواتي يتحركن بنظامٍ صارم، ثم سألت أخيرًا:
“ماذا تفعلن الآن؟”
لكنهن، وكأنهن اتفقن مسبقًا، لم يُجبن. فبادرت آنا، وقد بدا عليها التردّد، وهمست بحذر:
“إنها هدية من جلالته لسيدتي.”
الكلمة “هدية” بدت حلوة، لكنها لم تُلامس قلبها.
‘مكافأة، هكذا مجددًا.’
ارتجفت رموشها الرفيعة.
لكن روميا لم ترتكب حماقةً بكشف ما يعتمل في صدرها أمامهن، وهنّ أعين وأذان جهاردي.
تقدّمت بخطوات ثابتة وأمسكت بثوبٍ مُعلّق على المشجب.
“جميل.”
“أتحبينه؟”
سألتها آنا، التي تبعَتها، بوجهٍ مُشرق وقد استبشرت برؤية روميا تُبدي اهتمامًا. حتى ذلك الاحمرار الخفيف على وجنتيها الباهتتين جعل قلب آنا يطمئن قليلًا.
“أعجبني. إنها هدية من جلالته، أليست كذلك؟”
أومأت آنا برأسها وهي تُشبك يديها. ثم وقفت روميا أمام المرآة، تُقلب الثياب بصخب، قبل أن تختار فستانًا من المخمل البني.
“هذا سيكون مناسبًا، أليس كذلك؟”
“هاه؟”
“الجو بالخارج بارد، أظن أنه سيكون دافئًا جدًا إن ارتديته.”
“أتنوين الخروج؟”
اتسعت عينا آنا وهي تسأل. لقد صُعقت من إعلان روميا رغبتها بالخروج، بعد أن ظلت حبيسة غرفتها طويلًا. لكن روميا لم تُفصح عن وجهتها، واكتفت بابتسامةٍ لطيفة.
***
أخفت روميا غاية خروجها عن آنا، وانكمشت من شدّة البرد الذي لم تعهده منذ زمن.
كان الهواء البارد ينفذ عميقًا إلى صدرها فيؤلمها.
“إلى مكتب البريد، من فضلك.”
كانت تضم في صدرها رسالة ردّ إلى إيزابيلا، لم تجرؤ على إرسالها من قبل.
كانت تعلم أنّ عليها أن تعود قبل أن يرجع جهاردي، لذلك كان وقتها ضيّقًا.
دفعت أجرة العربة، فانطلقت ببطء. ومع أن السائق نبّهها أنّ الطريق مُثلج وسيحتاجون للذهاب برويّة، لم تجد روميا بُدًّا من التنهّد والرضوخ، وأغلقت النافذة.
ثم، وهي تُلقي نظرات خاطفة عبر الطريق الجانبي الذي ما زالت الثلوج تُغطيه، سحبت الستارة لتمنع نفسها من رؤية الخارج.
‘ليت الشتاء ينتهي سريعًا.’
لقد كان الشتاء قاسيًا على روميا كما هو اسمه. ذلك الرجل، الذي بعثرت برودته حياة امرأةٍ كاملة، كان شبيهًا بالشتاء في قسوته وبرودته. كانت روميا تُصلّي بحرارة ألا يعرف أبدًا أنّها تُحاول الهروب منه.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 81"