حين يكون المرء في أكثر حالاته بؤسًا، ويصادف أكثر شخص لا يرغب في لقائه، أهي عقوبة من الله؟

عينا روميا اتجهتا ببطء نحو صاحبة الصوت.

هيرين فوتاميا.

ما إن التقت نظراتها بنظرات روميا حتى ابتسمت ابتسامة خفيفة.

من صورتها المتدفقة بالكمال والأناقة والهيبة، شعرت روميا أنّها تمشي في فردوس يختلف تمامًا عن عالمها.

وجهها المفعم بمرح غامض بدا كافيًا ليُحطِّم روميا المنهارة أصلًا.

“لقد وصلني رد من والدتك، السيدة بيرلوس. لقد اختارت واحدة من العائلات الثلاث التي قدمتها لها في المرة السابقة. آمل أن يعجبك الأمر أيضًا.”

لم تسمع روميا بوضوح ما كانت تردده شفتاها الوردية.

الشيء الوحيد الذي بدا جليًّا هو وجه هيرين فوتاميا وهي تستمتع برؤيتها عاجزة عن التصرّف بأدنى لياقة.

صوتها البهيج المصطنع والمشحون بالحلاوة كان اليوم بالذات يخترق أذن روميا بقسوة، رأسها بدأ يدور.

لو كان شخصًا آخر رأى روميا بمظهرها البائس لطلب المساعدة من غيره، أمّا هيرين فلم تُبدِ أي اكتراث، واكتفت بالابتسام برقة.

“روميا. مثلما أقوم بواجبات عائلتي، أليس من المفترض أن تقومي أنتِ أيضًا بواجبات عائلتك؟ لقب بيرلوس لا يمكن أن يبقى مجرّد قشرة فارغة إلى الأبد. يجب أن تصبحي حقًا من النبلاء. أليس هذا ما كنتِ تتمنينه دائمًا؟”

حارقة.

جسدها الذي فقد الإحساس ارتجف فجأة، ثم أحسّت في أسفلها بحرارة رطبة.

شعور بغيض جعل روميا تُبعد عينيها عن هيرين المبتسمة وتخفض رأسها.

الفستان الأصفر الفاتح، الذي قال جيهاردي يومًا إنه يليق بها، كان يتلطخ تدريجيًا باللون القرمزي الداكن.

***

“تباّ.”

لم يظهر عليه أنّه عاجز عن ضبط غضبه، فلم يُسمع صوت ارتطام مكتبه بقبضة غاضبة ولا ركلات هستيرية للأثاث.

ومع ذلك، كان من السهل على إيرل كيلدرو، الذي خدمه طويلًا، أن يلحظ أنّ مزاجه في غاية السوء.

حين سمع جيهاردي من هيرين فوتاميا أنّ روميا انهارت، أدرك بصورة عامة ما جرى.

وضع قلمه جانبًا، وشبك يديه.

“…إن كنت قلق، يمكنك الذهاب إليها يا جلالتك.”

أخيرًا كسر إيرل كيلدرو الجوّ الخانق بحديثه، لكن جيهاردي هزّ رأسه.

“إنها بخير، فلا داعي.”

“لكن مع ذلك…”

لم يستطع إيرل كيلدرو إكمال كلامه.

الإشاعة عن أنّ روميا بيرلوس فقدت طفل الملك كانت تنتشر كالنار في الهشيم في كاتاس.

لا بد أنه يدرك ذلك أيضًا.

كان من حسن الحظ أنّ روميا بيرلوس بخير، لكنّ إيرل كيلدرو لم يكن يعرف كيف سيتصرف الملك وقد فقد طفلًا لم يكن يعلم بوجوده أصلًا.

مسح جبينه بمنديله المعهود.

كما هو الحال دائمًا، لم يكشف وجه الملك الهادئ أي شيء يمكن استشفافه.

تلاشت النظرات التي كانت متجهة نحوه ببطء.

ظلّ جيهاردي جالسًا بلا حركة طويلًا، غارقًا في التفكير.

وأخيرًا، حين تحرّك، لم يتجه لعمله كما قال لإيرل كيلدرو، بل توجه مباشرة إلى حيث كانت روميا.

***

لطالما عرف أنّها حمقاء، لكنه لم يتوقع أبدًا أنّها ستخفي عنه وجود طفل.

شعر كثيرًا بتلك الغرابة التي صدرت عنها، لكنه ظنّ أنها كانت فقط تتحيّن الفرص لتبتعد عنه.

أنها تتربص لتغادر.

لكن لم يكن الأمر كذلك.

جيهاردي، مصدومًا ومذهولًا، أطلق ضحكة ساخرة لأول مرة في حياته.

حقًا، من طبعها أن تحاول حلّ كل شيء وحدها دون طلب المساعدة حتى النهاية.

راح يعبث بالقلم المحفوظ في جيب سترته بدلًا من ربطة العنق، ثم أطال النظر في وجهه الجامد في المرآة.

لم يفكر يومًا في نسلٍ له، لكن لمجرد أن تكون روميا بجانبه، أو أن يكون هناك طفل يشبهها، خطر له أن ذلك قد يملأ حديقته القاحلة بشيء من الحياة.

لكن إلى هذا الحد فقط.

لم يتمنّ يومًا طفلًا بينه وبين روميا، ولم يفكر في الأمر أصلًا.

لقد كان دقيقًا في تجنّب الإنجاب، لأن آخر ما يريده هو طفل يشبهه، كما أنّ وجود ابن غير شرعي من محظية كان كفيلًا بأن يهز مكانته.

ولهذا، كان هذا اليوم تجربة غريبة، لن تتكرر ثانية في حياة جيهاردي.

لم يكن من النوع الذي يترك شؤونه جانبًا ليهرع بسبب سقوط “مجرد محظية”.

لكن حين سمع أنّ روميا بخير، شعر بالارتياح، غير أنّ توقيعه المبعثر أمامه فجأة أثقل صدره.

حتى كتابته التي كانت دائمًا صادقة ومستقيمة مثله، لم ترُق له هذه المرة وقد تجاوز الحبر خانة التوقيع.

وضع القلم، واستغرق في التفكير.

حتى حين سأله مساعده بخفة: “هل حقًا لن تذهب؟” لم يتحرك.

ظلّ يسأل نفسه عمّا يجب أن يفعله الآن، وعن هذا الشعور الذي يعصف به، هل هو فقط بسبب توقيع خرج عن حدوده؟

بطبيعة الحال، لم يكن كل شيء يسير كما يريد.

خاصة حين يتعلق الأمر بروميا، كان من الصعب عليه أن يحكم عقله.

فأزاح كل أفكاره جانبًا، ونهض ببطء.

الطبيب أخبره أنّها شربت شايًا من أوراق زهرة “يوليسيس”، فتسبّب لها في النزيف.

هل هي حزينة الآن؟

هل روميا غارقة في الحزن؟

عيناه الباردتان اتجهتا إلى قصر “فريجيا”، الذي لا يُرى من القصر الرئيس.

لقد تجاهلت كل تحذيراته وارتكبت تلك الفعلة، وذلك ذنب لن يكون هيّنًا أبدًا.

تحولت نظراته الحادة كأنها موجهة مباشرة إلى شارون.

شاي أوراق “يوليسيس” كان مشروبًا اعتادت النساء اللواتي التقى بهن دوق ليزارد أن يحتسينه.

***

“جسدك…”

“لا أريد… التحدث عنه.”

“حسنًا، إذن.”

“…”

استدارت روميا بجسدها لتعطيه ظهرها.

كان واضحًا أنه يعرف كل شيء، فلم تستطع النظر في وجهه.

أغمضت عينيها خوفًا من أن يغضب لكونها أخفت الأمر عنه، لكن ما سمعته منه لم يكن سوى إجابة هادئة.

وبظهرها نحوه، سألت بصوت خافت:

“ألست غاضبًا؟”

“لا أرى سببًا للغضب.”

“…لم أستطع أن أحافظ عليه.”

كانت كلماتها المقتضبة تحمل معاني كثيرة.

وتوقّف يد جيهاردي، التي اعتادت أن تربّت على ظهرها، فجأة.

“في النهاية، أنا التي شربته.”

“…”

“أتدري ما الذي ارتكبته اليوم؟”

كان صوتها مشوبًا ببكاء خافت.

لم يخطر ببالها لحظة أن رجلاً مثله لن يلحظ الأمر.

عضّت شفتيها لتمنع دموعها من الانفجار.

“أعلم.”

قال كلمة لم يكن ينبغي له قولها.

حتى هي لم تعرف بالضبط ما الذي ارتكبته، فكيف له أن يعرف؟

ابتسمت روميا بمرارة، واستدارت نحوه.

كان الأمر مجحفًا.

دائمًا ما كانت البداية والنهاية عنده هو.

غطّت دموعها بابتسامة وقالت:

“كنتُ أحمل طفل جلالتك، لكنني عدتُ وحيدة.”

“إن كان الأمر مؤلمًا، لستِ مضطرة للحديث.”

“قالوا إن شرب ذلك الشاي سيعيد كل شيء كما كان، قبل أن ألتقي بجلالتك.”

لم تعبأ بحديثه الذي قطع كلامها.

رمقته بعينين فارغتين كأنهما تلومانه.

بينما نظر جيهاردي إلى أغطية السرير المتجعدة والمليئة بمشاعرها المكبوتة، زفر تنهيدة واهنة.

“أنتِ تعرفين أكثر من أي شخص آخر أنّ هذا مستحيل.”

“ولهذا السبب الأمر مروّع أكثر. رغم علمي أنه مستحيل، شربته على أمل أن يحدث.”

غطت يده الكبيرة يدها التي كانت تشدّ الأغطية.

كانت لمسته رقيقة، كأنه يحذرها من أن تؤذي نفسها.

لكن وجه روميا تجمد.

شعرت أن يده، التي تغطي يدها فقط، كانت تسحق جسدها كله.

لم تكن مجرد يد فوق يد، بل قيدًا يكبل أطرافها.

“كل مآسي حياتي كانت دومًا بسببك يا جلالتك.”

كان هناك وقت، حين كانت رؤيته تملأها بخفقان لذيذ.

كان في حلمها الكبير لونًا يضيف الحيوية إلى أوهامها.

لم يكن بوسعها سوى الهرب، لأن وجهها كان يحمرّ لمجرد النظر إليه، ولسانها ينعقد أمامه.

كانت تختبئ خوفًا من أن يسمع أحد دقات قلبها المتسارعة.

استعادت روميا تلك الأيام، وابتسمت ابتسامة جافة وقالت:

“أنا أكرهك يا جلالتك.”

وفي خضرة عينيها، التي أحبها، كان الغضب الصامت يتلاطم.

“أكرهك إلى حدّ أنني أرغب بالهرب بعيدًا جدًا عنك.”

هرب.

ضيق عيناه حين سمع الكلمة.

مد يده فجأة، وأمسك خصلة من شعرها الطويل المتدلي على كتفيها.

“آسف، لكن لا يمكنك.”

“ولمَ لا؟ أليس بوسعي أن أهرب؟ لقد قلتَ إنك لا تستطيع أن تتركني حين طلبت ذلك، ففكرت أن أهرب على الأقل.”

واجهته بوجه بارد يعكس قلبها المنحرف.

روميا بيرلوس، التي لم تستطع يومًا قول مشاعرها بصراحة، بل أخفتها خوفًا، بدت كالميتة.

لكن الآن، وهي تقف بجرأة في وجهه وتصبّ غضبها عليه، بدت غريبة حتى على نفسها.

“إن لم يكن بوسعي أن أهرب، يا جلالتك…”

تحدّثت روميا وهي تحدق في سواد عينيه الخالي من أي ضوء.

كأنها تنجذب إلى ظلمة بلا قاع.

“إذن، تخلَّ عني.”