ذهب الربيع وجاء الصيف. وما إن بدأ الحرّ الشديد يضرب بقسوة حتى حلّت المأساة على كاتاس.
“لقد وافتها المنية.”
جهاردي رافق أوليفيا حتى لحظتها الأخيرة. بقي بجانبها حتى توقفت أنفاسها. فقد كان بالنسبة لها الحفيد الوحيد، ولأجل كاتاس وكالملك القادم، ففقد أحاطها بكل الاحترام الواجب.
منذ عودتها من بيريـدروز ساءت صحة أوليفيا سريعًا، ولم يمضِ سوى ثلاثة أشهر حتى فارقت الحياة.
أقيمت جنازتها وفق التقاليد العريقة لكاتاس، ووُضعت أوليفيا التي عادت إلى حضن الآلهة في مقبرة “نيتوات” إلى جوار ملوك الأجيال السابقة. وكان المشهد الأخير في جنازتها الطويلة التي امتدت عشرة أيام أن يقف جهاردي محدّقًا بشرود في بتلات الأزهار المتناثرة فوق تابوتها الزجاجي الشفاف.
كانت هناك أصوات بكاء خافتة من حوله، لكنه لم يستطع البكاء معهم. لم يكن قادرًا على الحزن كما يشتهي، إذ ظل يسائل نفسه:
“هل أنا حزين الآن؟ هل أستطيع أن أذرف دموعي بجوارهم وأرتجف مثلهم؟”
وقد تعوّد أن يكبح حزنه دومًا، فاكتفى بالنظر بصمت إلى ظهر كف أوليفيا المليء بالتجاعيد، الذي أفلت الحياة من بين أصابعه.
ولم يجد ما يقوله سوى عبارة واحدة. الكلمات التي لم يجرؤ أن ينطقها في حياتها، تمتم بها خافتًا خشية أن يسمعها أحد:
“شكرًا لك.”
كانت محمّلة بمعانٍ شتى، ولم يجد جهاردي ما هو أصدق أو أنسب منها.
“من اليوم سنشرع في الاستعداد للتتويج.”
لم يكد يبتعد قليلًا عن الناس بعد مراسم الجنازة، حتى بانت أمامه واجبات أخرى.
كان البلاط الملكي في كاتاس منهمكًا في التحضير لحفل تتويج جهاردي، الذي كان في الواقع الحاكم الفعلي للبلاد. وكان عليه بطبيعة الحال أن يتحمل جدولًا مثقلًا لا ينتهي.
“لقد استدعت جلالتها الراحلة رئيس الوزراء كيلدرو قبل وفاتها لتعديل وصيتها.”
“تعديل؟”
“نعم. سيعلن الوصية الكونت كيلدرو بنفسه عما قريب، في دار درينيا.”
“لا يتركون لنا فرصة للراحة.”
كانت وصية أوليفيا، التي لم تُكشف بعد، عاملًا مجهولًا في طريقه لترسيخ مكانته كـ ملك.
ولم يكن غريبًا أن تصبح الوصية موضوع الساعة في ظل انتقال العرش، فقد كان هناك من يشيع بأن الملكة ربما تخلّت عن ولي العهد لتختار بديلًا.
ومع ذلك، حين كان يتحدث إلى المركيز فانيسا، لم يبدُ في صوت جهاردي أدنى شك في قرارات أوليفيا.
فهو لم يعرف القلق يومًا. أوليفيا كانت دائمًا توصيه: “كن ملكًا صالحًا لكاتاس.” وقد أحبّته كما لو كان ابنها، لا حفيدها. ولم يشكّ يومًا في مودتها.
لكن بينما بدا هو مطمئنًا، كان كتفا المركيز فانيسا متصلبين، وكأن توتره أكبر من توتر جهاردي نفسه.
“فلنذهب الآن. الجميع قد وصلوا.”
انتهت لحظة الاستراحة القصيرة، فاتجه جهاردي مع خدمه نحو دار درينيا حيث سيُعلن عن الوصية.
—
“يا، جهاردي!”
أمام دار درينيا، وقبل إعلان الوصية، استوقفه صوت مألوف. وما إن التفت بوجه متضايق حتى اقترب منه رجل يدس يديه بوقاحة في جيبيه.
“أصحيح أن جدتي غيّرت وصيتها؟”
كان هذا أدون كاتاس، صاحب الترتيب الثاني في وراثة العرش. ورغم مكانته، كان حديثه وحركاته أقرب إلى سفلة الشوارع؛ فالجميع في كاتاس يعرف سمعته كزير نساء طائش. ورغم أنه ولي العهد الثاني، لم يصدّق أحد أنه سيصبح ملكًا.
إلا شخص واحد. هو نفسه.
“ألست متشوقًا لمعرفة التعديلات؟”
اقترب أدون هامسًا، يغمره ثقة زائفة، كأنّ الوصية ستقلب حياته رأسًا على عقب.
“مزعج.”
التفت جهاردي إلى المركيز فانيسا:
“كم بقي حتى الموعد المحدد؟”
“نحو عشرين دقيقة.”
“مناسب تمامًا لدخولنا الآن.”
وكان قصده واضحًا: لا تتطفل في طريقي. رسالة مبطنة لأدون وحده. وفقط المركيزة فانيسا أدركت معنى تلميحه وهمست بقلق، إذ كانت تعلم أن ولي العهد لا يرمي بكلمة سدى.
وكان عداء أدون وجهاردي منذ الصغر أمرًا معروفًا في البلاط، حيث كان أدون دائمًا هو البادئ بالاستفزاز والغضب والسخرية.
ألقى المركيز نظرة حوله بقلق، يخشى أن يُسيء هذا الخصام لسمعة ولي العهد قبيل إعلان الوصية.
لكن يد أدون التي وُضعت على كتف جهاردي لم تكد تستقر، حتى التقت عيناهما. فتجمد أدون في مكانه وتراجع بخوف.
“لقد تجعّد ثوبي.”
بهدوء بارد، خرجت الكلمات من فم جهاردي كطعنة. ارتجف أدون وكأن جسده صار دمية خشبية.
ثم أتاه الصوت القاتل:
“بعد أن لوّثت سمعة العائلة باعتدائك على امرأة وطُردت من القصر، ألا يكفيك العار؟ والآن تأتي لتثير الأنظار بدل أن تنعزل وتتوب؟”
احمرّ وجه أدون غضبًا وحرجًا، ولم يجد ما يرد به. فالجميع يعلم أنه قبل أشهر فقط، طُرد من العائلة بعد أن اتُهم بالتحرش بابنة أسرة ديرينيا وهو مخمور. تنازل عن لقبه كأمير، ولم يُسمح له بالبقاء في القصر إلا بفضل رحمة أوليفيا التي أبقت له لقب “دوق ليزارد”.
لكن سمعته كانت قد انهارت بالفعل، ولم يعد مكانه في البلاط إلا خزيًا.
قال جهاردي وهو ينظر إليه بازدراء:
“عليك أن تشكر جدتي لأنها لم تمنعك من حضور الجنازة. هذا وحده فضل منها.”
ألقى نظرة خاطفة على ثياب أدون. لم يكن يرتدي زيّ العائلة ولا بذلة عسكرية، بل ثوب حداد عادي، إشارة إلى أنه حُسب على العائلة دمًا لا مقامًا. وهذا وحده وصمة عار.
أدرك أدون الأمر متأخرًا، فاحمرّ غضبًا وهو يعض على أسنانه:
“أنت… أنت… جهاردي!”
لكنه لم يجد ردًا، وظل صامتًا يشاهد ولي العهد يدخل قاعة الاستقبال، يحلم فقط بيوم يتمكن فيه من إذلاله.
—
أما روميا، فلم تدرك ما خطبها حين وُضعت في سجن “إلفورديم”. كانت سعيدة حين رأت أوليفيا تستعيد أنفاسها بعد سعالها الأخير. لكن ما لبثت أن سمعت بروسي تصرخ “جلالة الملكة!” وهي تجثو إلى جانب المرأة المريضة، لتجد الفرسان الملكيين يطوقونها باعتبارها مجرمة.
“جريمة لمس جسد ملكي بلا إذن.”
تهمة قصيرة وبسيطة، لكنها ثقيلة المعنى.
وكأن الطوفان اجتاح حياتها دفعة واحدة.
في البداية لم تستوعب، لكن حين علمت أن السيدة التي ظنتها مجرد نبيلة من العاصمة ليست سوى ملكة كاتاس المتخفية للاستشفاء، أدركت حجم خطيئتها.
ثلاثة أشهر. ثلاثة أشهر فقط، لكنها بدت أبدية، تحوّل فيها مستقبلها المشرق إلى لون رمادي قاتم.
“بهذه الحماقة قطعتِ صلة آل بيرلوس بالعائلة المالكة! لو تعلمين كم أنفقتُ لأخرجك من هناك، لوقعْتِ ميتة!”
زمجر صوت فيوليت وهي ترافقها في طريق العودة.
“انزلي بسرعة يا روميا. وابدئي بخياطة الطلبات المتأخرة من القبعات. زبائنك الذين يحبون قبعاتك بانتظار عودة مجد بيرلوس.”
لكنها ما إن نزلت من العربة حتى سكت صوت فيوليت. فقد كان بانتظارها مركب آخر يحمل شعار العائلة المالكة.
“آنسة روميا بيرلوس؟”
ارتجفت روميا وقد تملّكها حذر غريزي، فأجابت بصوت واهن:
“ن… نعم، أنا.”
تأملها الخادم الملكي ببرود، كأن منظرها المتداعي بعد الخروج من السجن لا يليق بها. ثم قال:
“هذه وصية الملكة الراحلة أوليفيا. لقد أوصت بأن تُقبَل الآنسة بيرلوس، التي أنقذت حياتها، خادمةً للسيدة هيرين، خطيبة ولي العهد.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"