ارتسم خط منحنٍ ناصع البياض على ظهرها.
جیهاردي أخذ وقتًا طويلًا وهو يمسح على ظهر روميا النائمة بعمق، ثم تمدّد إلى جوارها،
ما زالت دموع شفافة لم تجف بعد على رموشها الكثيفة.
‘الحب.’
لو كان هذا الشعور المبهم والمتذبذب اسمه “الحب”، فذلك حقًّا أمرٌ ساخر.
بكلماتٍ لا تختلف عن اعتراف، جعلها جیهاردي مضطربة، واضطرّ بعدها أن يهدّئها ويواسيها طويلًا حتى تجف دموعها.
والسبب كان بسيطًا:
روميا بيرلوس بكت بسببه.
وكان مجرّد هذا كافيًا ليخنقه.
أحسّ كأن زرًّا مغلقًا حتى أعلى عنقه يخنقه ويكاد يقطع أنفاسه.
خفّف رباط عنقه الضيّق لكنه لم يستطع ازالة ذلك الانسداد الجاثم في صدره.
كان واضحًا أمام عينيه أن رغبته الأنانية في امتلاكها، مقرونةً بقرارات متسرّعة، هي ما جعلها تتحطم بهذا الشكل.
الزهرة التي قُطفت بسهولة فقدت حياتها فورًا، والعطر العذب الذي كان يشمّه وهو يركض حافيًا بين أزهار المروج أخذ يتلاشى شيئًا فشيئًا.
ورغم أن روميا ذبلت حتى صارت كفتاتٍ هشّ لا يمكن الإمساك به، لم يفكر جیهاردي بتركها بسهولة.
حتى لو هربت وتخبّطت، هو سيظلّ يقيّدها حتى لا تفلت منه.
فهو وُلِد هكذا، ورأى أن من حقّه أن يفعل ذلك.
راح يربّت على ظهرها وهو يتذكّر ما حدث قبل قليل.
حين اعترف بوضوح أنه يغار من كارلايل دوين، ظلّت روميا صامتة طويلًا، ثم بدأت تبكي وهي ترتجف.
― “لا… لا، لا. هذا غير عادل.”
― “روميا؟”
خرج صوتها المليء بالإنكار إلى الهواء بلا وجهة.
كانت تهزّ رأسها بعنف لتنكر الأمر، فأمسك جیهاردي بمعصمها، لكنها سرعان ما رفعت رأسها نحوه وهي تصرخ غاضبة.
― “وعدتني ألّا تحبني. أقسمت أنّك لن تحبني أبدًا.”
― “…….”
― “أنا مجرد محظية تقدم لجلالتك المتعة الجسدية، أليس كذلك؟!”
نظرة روميا الغاضبة كانت هي نفسها تلك النظرة يوم صبّت غضبها عليه تحت المطر الغزير.
وجه مألوف لكنه كان من الوجوه التي لم يرد أن يراها أبدًا من جديد.
قطّب جبهته محاولًا تهدئتها، لكنها كانت خارج وعيها.
― “روميا بيرلوس.”
― “هذا كثير جدًّا. أنت تجعلني مرارًا أعلّق آمالي عليك. قاسٍ. شخص شرير. أكرهك. أنت حقًّا مروّع!”
صرخاتها وهي تحاول الانفلات من حضنه كانت تثقل صدره.
كأن كتلةً ضخمة جثمت فوق قلبه.
كانت تبكي وتتفجّر بجروحها بلا وعي، تتفجّر باللوم والمرارة.
حتى بعد أن صرخت وباحت بكل ما بداخلها، ظلّت نبرة صوتها حادّة مشبعة بالدموع المالحة.
ظلّت وقتًا طويلًا تتلوّى وتبكي بصوتٍ مكتوم، ثم تعود لتصرخ شبه صراخٍ مجنون.
‘ليتني أفقد عقلي… ليتني أترك وعيي يرحل.’
كانت روميا تدعو ربًّا لم يكن رحيمًا بها أبدًا، أن يخلّصها من هذا الحبل المشدود الذي تمشي عليه.
لم تعد تريد سماع كلمة “محظية” كتعويذة تنويم.
لم تعد ترغب حتى في الاستمرار بمشروع القبعات الذي اختارته لتحمي نفسها.
لو كان هناك عالم بلا جیهاردي، لما مانعت أن تُنعَت بأنها ابنة ثريٍّ اشترى لقبه بالمال، أو مجرد صانعة قبعات تافهة.
منذ أن اقتحم جیهاردي حياتها الهادئة، لم يعد لديها أرض ثابتة تقف عليها.
قدّمت له شظايا حياتها قطعةً قطعة، حتى كاد قلبها الذي تمنّت أن يظلّ سرًّا مدفونًا يذهب إليه أيضًا.
نظرت إليه بعينين غارقتين في اللوم وسألت:
― “هل تريد أن تتظاهر بأنك تُحبني؟”
‘ماذا أجبتها حينها؟’
كان مشغولًا بمسح دموعها المتساقطة بلا حول، فلم يتذكّر ما قال.
لكن كلماتها تلك ما زالت تنهش داخله بلا رحمة.
“مُحب….”
الكلمة على لسانه بدت حلوة، تلتصق به كالعسل.
إحساسٌ أكثر غموضًا، وكأن روميا أصبحت ملكه تمامًا.
رغبة جامحة أن يمنحها أكثر وأكثر.
حتى لو كان الحب يعني أن يعطي حتى لا يبقى سوى العظم، فقد وجد أنه لا يمانع.
سواء توسّلت بحبٍّ عميق، أو تشبّثت به راجية ألّا يتركها، يكفيه أن يراها تتمسك بوجوده.
ولأجل ذلك، سيظلّ يقمعها ويقيّدها كي لا تنشر جناحيها.
أزاح يده عن ظهرها ببطء، ومرّر أصابعه على وجنتها الناعمة.
“نامي جيدًا… يا روميا.”
“…”
هي لم تسمع، وقد غرقت أخيرًا في النوم.
لكنه اكتفى بتمزيق ذلك الصمت الكئيب بكلماته.
وكان مطمئنًّا قليلًا بأن صوت أنفاسها المنتظمة يملأ الفراغ.
عانق ظهرها بإحكام، ساحبًا جسدها الصغير نحوه بلا فسحة.
حين التصقت أجسادهما تمامًا، أغمض جیهاردي عينيه أخيرًا.
سواء بعينان مغمضتان أو مفتوحتان، وحتى في أحلامه، صورة روميا الباكية لن تُمحى أبدًا.
***
رغم انفجار مشاعرها أمامه، لم يتغيّر شيء في حياة روميا اليومية.
استيقظت في سريره نفسه، استقبلت صباحها المعتاد، جلست معه على موائد الطعام ذاتها، ثم جاءها كل مساء بعد أعماله ليضمّها كما يفعل عادة.
ولأن جیهاردي لم يتطرّق لما حدث ولو بكلمة، وجدت هي أن الكلام أولًا سيكون محرجًا جدًّا.
كان الأمر أشبه بهدوء الليل الذي يسبق إعصارًا.
راحت ترقب عينيه خفية، لكنه كان يتصرّف ببرود وكأن شيئًا لم يحدث، ما ضاعف قلقها.
‘عبث.’
روتينها الذي لم يتغيّر بعد كل تلك الانفعالات منحها يأسًا مضاعفًا.
كانت تنتفض كلما تذكّرت كيف يتصرّف معها جیهاردي بلطفٍ أشبه بعاشق، بينما يؤكد أنه لا يحبّها.
أحيانًا كان يغمرها حنقٌ يدفعها لرمي أي شيء يقع أمامها.
لكن المشكلة الأكبر…
‘لم يحدث.’
حدّقت في انعكاسها داخل المرآة الطويلة.
عيناها الزاهرتان فقدتا بريقهما وسقطتا منهكتين.
‘…لماذا…؟’
انتبهت إلى بطنها البارز قليلًا في جسدها الهزيل.
الملابس الداخلية الرقيقة جعلت انتفاخ أسفل بطنها أوضح.
زفرت باضطراب، ثم أطبقت أسنانها وأدارت وجهها بعيدًا.
لم تجرؤ على مواجهة الاحتمال المنعكس في المرآة.
طوال علاقتها به، كان الحذر من الحمل مشددًا.
باستثناء تلك الليلة الأولى، حين باغتها بلا استعداد، وحين بكت تحته مطلقة أنفاسها الحارّة لأول مرة.
تلك الليلة بقيت قيدًا في قدميها.
أرادت أن تهرب من الفكرة، لكن وجهها شحب كليًّا، وما لبثت أن انهارت جالسة أرضًا بلا قوّة في ساقيها.
لم تستطع أن تبوح لأحد.
ولا حتى لجیهاردي، الذي رمى بها إلى هذا الجحيم.
“الماء جاهز للاستحمام، آنستي.”
التي ساعدتها على النهوض من الأرض كانت وصيفة صغيرة أرسلها جیهاردي لها.
طفلة بلفظها الطفولي تحاول أن تتكلم بوضوح.
“شكرًا، آنا.”
ابتسمت روميا كي تطمئنها، وأسرعت تلتقط سترة لتغطي بطنها.
ربما الصغيرة لم تلحظ شيئًا، لكن لا ضرر من الحذر.
كانت روميا تعرف بالفطرة أن هذا الطفل – إن وُجد – لن يُرحَّب به في هذا العالم.
لا في عالمها ولا في عالم جیهاردي.
‘سامحني، صغيري.’
غطست في الماء الذي أعدّته آنا.
البخار يملأ الحمام.
أغمضت عينيها واستسلمت لسطح الماء الساكن.
جسدها ثقيل، وعقلها يغرق في الضباب.
كذلك كانت محاولة منها لإبعاد التشاؤم الجاثم على صدرها.
طفل لن يرحّب به أحد.
عالم يزدريها ويعاديها.
لم يكن لأي جانبٍ مكانٌ لهذا الكائن.
‘لو كنت وحدي فقط، لكان أسهل.’
لكن فكرة أن ينمو طفل داخلها بدت لا تُحتمل.
شهقت فجأة، تنتفض من نصف غطسها في الحوض.
اجتاحها رعب أن يورَّث طفلها العذاب نفسه الذي عاشته.
‘لا. هذا لا يجوز.’
ضمت بطنها بذراعيها، وأغمضت عينيها بشدة.
كان عليها أن تصبح أصلب.
أقوى.
بل، أقسى.
التعليقات لهذا الفصل " 66"