تفتّت الزجاج إلى شظايا مبعثرة على الأرض، لكن أياً من الوصيفات اللواتي كنّ بجانبها لم يجرؤن على الانحناء لالتقاطها، بل ارتجفن مرتعدات.
عينَا شارون الممزّقتان الغاضبتان كانتا حادتين إلى درجة مرعبة.
“هذه القبعة ليست نفس التصميم الذي تلقيته أول مرة!”
“ذ.. ذلك… أنا أيضًا لا أعلم…”
“إن لم تكوني تعرفين أنتِ، فمن يعرف إذن؟! هل تلك الحقيرة أدركت خطتي وحاولت أن تسخر مني عمداً؟!”
صوتها الصاخب الحاد اخترق طبلة الأذن.
كل واحدة منهن انكمشت جزعًا، وانحنت رؤوسهن أمام سلوك شارون العنيف.
من بينهن، السيدة فرانشه، وصيفة شارون المقربة، كانت ترتجف بوجه شاحب، لأنها تعرف جيدًا مدى بطشها وخشيت من العاقبة القادمة.
في يوم الموعد، أرسلت روميا بيرلوس قبعة مختلفة تمامًا عن تلك التي قالت إنها التصميم المتفق عليه.
القبعة لم تكن قريبة مطلقًا من القبعة الباذخة متنوعة الألوان التي طلبتها شارون.
‘أيعقل أن تلك الحقيرة تعرف ما هو اليوم؟’
عضّت شارون أظافرها الحادة وهي تطحن أسنانها.
كانت مجرد فتاة ريفية ساذجة، يستحيل أن تحفظ المناسبات الملكية السنوية عن ظهر قلب.
لكن القبعة السوداء المزينة بالدانتيل الأسود كانت بوضوح قبعة مصممة خصيصًا للمراسم التذكارية، وكأنها تعلم ما الذي سيجري اليوم.
‘إذن… إنه أنت يا جيهاردي!’
لقد كان خطأها أن تحكم عليها بكونها فتاة غبية لا تعرف كيف تستغل جيهاردي.
بقية المحظيات لم يجرؤن على استفزاز أسيادهن خوفًا من أن يفقدن عطف الملك، فاعتقدت شارون أن روميا من نفس الفئة.
بل حتى لو سألته، لم يخطر لها أن ذلك “الوحش عديم المشاعر” قد يشرح لها بنفسه.
ضحكت شارون بسخرية وهي تجلس أمام المرآة، مضطرة إلى ارتداء القبعة التي جلبتها روميا بيرلوس.
‘إذن ليست مجرد لعبة نارية تلتهب ثم تنطفئ، بل شيء آخر…’
“تبًّا.”
خرجت من فم الأميرة همهمة بعيدة كل البعد عن الرقي.
لكن لا عجب، فالقبعة التي انعكست في المرآة لم تخالف القوانين مطلقًا، بل أظهرت أناقة وانسيابًا في المنحنيات جعلتها متألقة.
وبرغم غضبها، إلا أنها اضطرت للاعتراف أن روميا تملك موهبة مرعبة.
لكن مثلما استفادت سابقًا حين انفردت بالماركيز فانيسا، فإن هذه القبعة وحدها جلبت لها مكسبًا لا يُستهان به.
ارتدت شارون قفازاتها أخيرًا وأمسكت حقيبتها.
‘في الأصل أردت استغلال بيرلوس لتشويه سمعة جيهاردي…’
فهل عليها الآن أن تمدح ابن شقيقها الذي منحها بفعلته فريسة أثمن؟
ضحكت شارون وهي ترفع شفتيها بخبث.
‘إن ظللت ألاحق آل بيرلوس بإصرار، فسوف يتدحرجون بأنفسهم إلى القاع.’
فتحسّنت حالتها المزاجية بسرعة.
***
“هذه محطة دُويْن.”
كان يومًا قد خفّت فيه وطأة البرد المستمر.
هبوب الريح كان بارداً، لكن تحت أشعة الشمس كان الجو دافئًا.
روميا ضمّت معطفها جيدًا وهي تحدّق في الحشود المتدفقة بمحطة دوين المزدحمة.
خلف برج الساعة الشامخ، كان الناس يسرعون الخطى.
وفجأة جاءها صوت كارلايل الناعم من جانبها.
“المحطة الحمراء مكان جذاب حقًا.”
“لكن الناس هنا كُثر لدرجة أن السير يكاد يكون مستحيلًا.”
المحطة المكسوة بالطوب والطلاء الأحمر القاني بدت أخّاذة الألوان.
مكان صاخب لا يمكن سحب النظر عنه.
كارلايل كان يفخر بمشاريع السكك الحديدية لعائلته.
فهي أولى الأعمال التي أطلقها بمساعدة والده، ولهذا لمعت عيناه بالحب وهو ينظر إلى محطة دوين.
كان رجلاً بشغف لا يقل عن روميا نفسها.
“جميع المحطات الرئيسية في كاتاس تدور حول محطة دوين.”
أخرج تذكرة كان قد حضّرها سلفًا من جيب سترته.
“اليوم سنجرب ركوب القطار.”
“القطار؟!”
اتسعت عينا روميا متفاجئة من الجدول غير المتوقع.
ولاحظ كارلايل من رد فعلها أنها تركب القطار لأول مرة، فبادر مطمئنًا:
“لا تقلقي. سنذهب فقط إلى محطة أوروساي، تبعد ساعة واحدة، ثم نعود مساءً.”
مسافة ساعتين ذهابًا وإيابًا لم تكن بعيدة.
أخذت روميا التذكرة بحذر، وقلبها يخفق كطبل.
لم تستطع كتمان سعادتها، فصرخت كطفلة مبتهجة:
“هذه أول مرة أركب فيها القطار!”
كان من المستحيل إخفاء حماسها.
ابتسم كارلايل بلطف مشجعًا تجربتها الجديدة.
“إذن ستكون رحلة ممتعة جدًا.”
تصرفها المتعثر لكن المندفع بدا لطيفًا في عينيه.
المحطة من الداخل كانت شاسعة وفخمة مثلما بدت من الخارج، وأبواق القطارات لم تنقطع.
وصل القطار الذي سيستقلانه، فأسرع كارلايل بمرافقتها، خشي أن تتملكها رهبة التجربة الأولى.
بمساعدته جلست بسهولة في مقعدها، لكنها لم تهدأ، تلتفت هنا وهناك قابضة قلبها.
قرأ كارلايل فضولها بسرعة وقال:
“محطة دوين يستخدمها غالبًا أصحاب المهن المتخصصة كالماليين.”
“سواء عوام أو نبلاء على حد سواء؟”
“كما ترين. ماذا تظنين؟ هل تلك السيدة من النبلاء؟”
نظر إلى امرأة في الصف الأمامي.
تبعت روميا نظره، ثم هزت رأسها مترددة.
هيئتها أنيقة لكن ليست فخمة مثل النبلاء الذين عرفتهم.
“مظهرها لا هو فقير ولا مبالغ فيه… الأمر محيّر.”
“الإجابة: ليست نبيلة. اسمها لوديا هيلين، من عائلة هيلين التي اشتهرت بالتعليم. وهي أستاذة في السنة الأولى بالأكاديمية الوطنية.”
“…أستاذة؟”
“نعم. بل حصلت أيضًا على شهادة في الفيزياء. مولعة جدًا بالدراسة والعلوم.”
كان يشرح وكأنه يعرفها جيدًا.
فتحت روميا فمها مدهوشة من هويتها الحقيقية.
جلست لوديا في مكانها، أخرجت كتابًا وعدسة وبدأت تقرأ غير مبالية بضوضاء المحطة.
‘ليست نبيلة، لكنها سيدة ذات وقار.’
راقبت روميا لوديا باهتمام، ورأت في مسارها المختلف تحطمًا لإيمانها الذي زرعه والداها.
إذ لم يكن الجميع يعيشون وفق “العالم” الذي حُشِرَ في ذهنها، بل هناك من اختط لنفسه طريقه منذ البداية.
‘ربما ذلك الطريق كان أسمى بكثير من مستقبلي المأمول؟’
لاحظ كارلايل عمق تفكيرها ومنحها وقتًا، ثم سأل بعد قليل:
“أتدرين لماذا أروي لك هذه القصة، آنسة روميا؟”
التفتت إليه، ووجهها امتلأ بتعبير معقّد.
وانطلق القطار بصفيره العالي، بينما روميا تبتسم بأسى وهي تحدق في كارلايل، ممتنة لِما يمنحها إياه من مواساة أشبه بالهدية.
لقد كان أول من اعترف بقيمتها واقترب منها دون أن يحرجها لقلّة خبرتها.
لو كانت حياتها صحراء قاحلة، فهو كان أشبه بجرعة ماء من واحة.
كرمه السخي المتكرر جعلها تشعر بالخجل من أن تشكك في نواياه.
وحتى سؤاله الآن دلّ على مدى رقّته.
“شكرًا لك. أمامك، يا سيد كارلايل، أشعر أنني إنسانة ذات قيمة أكبر من أي وقت.”
أراد أن يريها عبر مثال لوديا أنها شخص ذو قيمة كبيرة وأنها ماضية لعمل ثمين.
ابتسمت بعينين دافئتين شاكرة من قلبها.
هو لم يرد سوى ألا يراها منكمشة أو منبوذة كما اعتادت.
عندما فهمت قصده مباشرة، شعر بالارتياح.
كان يخشى أن يتجاوز الحد في مواساته.
وأشار بعدها إلى النافذة.
كانت الأرض خارج العاصمة تكتسي ببطء وشاح الشتاء.
“حين ينقضي الشتاء، يحل الربيع، يا روميا.”
لم تستطع كبح فرحتها وهي تفكر أن مصنع القبعات الخاص بها سيُبنى فوق هذه الأرض القاحلة.
نصحها كارلايل أن تركز على إنتاج قبعات يدوية راقية للطبقة النبيلة والبرجوازية، وفي الوقت ذاته توفر قبعات شعبية لبقية المواطنين، ليعرف الجميع موهبتها.
وبعد تردد طويل، اقتنعت أنها اتخذت القرار الصائب بقبول عرضه.
وعلى الرغم من أن أوروساي كانت أبرد بكثير من العاصمة، إلا أن روميا، وهي تحدق بالأرض التي سيُقام فيها مصنعها، أحست أخيرًا بربيع طال انتظاره بعد شتاء قاسٍ.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 64"