“كفى. لدي موعد مع سيدتي الصغيرة الجميلة. سأعود إلى العاصمة كما هو مقرر، في نهاية الشهر.”
“بل سنذهب بعد أربعة أيام من الآن.”
“أربعة أيام كاملة قبل الموعد؟ ستغضب سيدتي الصغيرة مني.”
رغم أن أوليفيا كانت قد سمعت على الأرجح من الكونت كيلدرو، الذي جاء معها، ملخصًا عن الأوضاع السياسية، إلا أنها أصرت على أن تبقى حتى نهاية الشهر كما هو مخطط. وكان جهاردي يعلم تقريبًا سبب هذا الإصرار، لذلك آثر أن يتراجع خطوة.
“أراكِ في القصر الملكي إذن.”
مجرد نزول جهاردي إلى بيريـدروز كان كفيلًا بتهدئة الشائعات عنها. وأوليفيا، التي كانت على علم بذلك، بدت راغبة في إتمام جدولها كما هو.
انحنى جهاردي وقبّل بخفة ظهر يد الملكة. ولاحظ كم بدت يدها نحيلة وهزيلة، لكنه لم يُبدِ ذلك. وعندما رفع جسده، وجدها تبتسم له بابتسامة حانية.
كانت النظرات التي ترمقه بها مليئة بالمحبة. أما القبعة التي تضعها أوليفيا، فكانت هي نفسها هدية جهاردي من بيرلوس.
“جهاردي.”
“نعم، جدتي.”
“هل تسمح لي أن أعانقك مرة واحدة فقط؟”
لم يكن فراقًا أبديًا، لكن أوليفيا لم ترد أن تدعه يذهب بهذه البساطة. متى كبر ذاك الطفل الذي كان في كنفها حتى أصبح بارًا بها ونموذجًا لملك؟ كم هي قاسية عجلة الزمن.
ارتبك جهاردي. فعادةً ما كانت أوليفيا، أمام الآخرين، ملكة متجهمة، صارمة، ومهيبة. أما الآن فقد فتحت ذراعيها النحيلتين، وعيناها مليئتان بالحنين وهي تنظر إليه.
كان هذا الجانب الغريب من جدته يبعث على التردد، لكن إدراكه في أعماقه أن وقتها لم يعد طويلًا جعله يتحرك.
“اذهب سالمًا، ونلتقِ في القصر كما قلت.”
عانق جهاردي أوليفيا عناقًا قصيرًا ثم ابتعد عنها. ورغم أن في عينيها بقايا من الأسى، إلا أنها بدت راضية على نحو ما.
ولأنها لم تكن زيارة رسمية، غادرت سيارته السوداء بلا أعلام ملكية، تسلك الطريق المتعرج خارج بيريـدروز.
—
لم تكن روميا ترغب في المجيء لذلك الموعد كلما تذكرت ما حدث في ذلك اليوم، لكنها لم تفكر يومًا في نكث وعد قطعته. لذا، خطت خطواتها ببطء، وكأن أثقالًا رُبطت إلى قدميها، لكنها تابعت السير.
وبالمصادفة، مرّت بجانبها السيارة التي غادرت لتوها بيريـدروز.
وصلت روميا قبل خمس دقائق من الموعد، وعندما طلبت منها الخادمة الانتظار قليلًا، أخذت تلتفت حولها بحذر، خشية أن تصادف مرة أخرى ذلك الرجل النبيل.
وفيما كانت تنتظر ماري التي تأخرت قليلًا، أخذت تتمشى بقلق قرب حديقة الورود. هناك، من النافذة المفتوحة في الطابق الثاني، تسللت نغمة بيانو هادئة.
رفعت روميا رأسها مأخوذة بذلك اللحن البطيء، ورسمت في خيالها صورة بروسي خلف تلك النافذة المفتوحة تعزف البيانو.
رفعت ذراعيها قليلًا ووقفت على أطراف قدميها. راودها حلم حضور حفل في العاصمة يومًا ما، والرقص مع فارس وسيم. كانت تتحرك ببطء على وقع الألحان، حتى شعرت وكأنها فراشة تحوم بين الورود.
“أنتِ جميلة.”
“آه!”
ارتبكت روميا وتعثرت خطوتها وهي تدور فجأة إلى الخلف.
كانت هناك سيدة مسنة، بطلة الشائعات المتداولة، تبتسم لها بوداعة.
عرفتها روميا على الفور، فانحنت بسرعة.
ما هذا! أن ألتقي وجهًا لوجه بالضيفة العزيزة على بيريـدروز!
وفوق ذلك، لقد كشفت نفسها للتو أمام هذه السيدة، وهي ترقص خلسة في حديقة الورود! احمر وجه روميا خجلًا وسألت بتردد:
“هـ… هل رأيتِ؟”
“كانت رقصة جميلة.”
لقد رأت!
عضت روميا لسانها، محاولة التبرير على عجل:
“ضـ… ضللت الطريق لا غير.”
“يبدو أن آنسة بيرلوس تضل طريقها إلى الحديقة في كل مرة.”
حتى هي أدركت أن عذرها ركيك، فلامت نفسها. غير أن رد السيدة كان مفاجئًا، فارتبكت روميا، بينما غمزت أوليفيا بابتسامة مرحة.
“في المرة السابقة أيضًا، كنتِ ترقصين هنا.”
إذن لم تُكشف اليوم فقط!
شعرت روميا وكأنها واقفة عارية أمام تلك السيدة العجوز النافذة النظرات.
“كنتُ أتساءل فقط، ما الذي يدفع آنسة بيرلوس إلى الضياع في حديقة بيريـدروز والرقص فيها أيضًا؟”
كادت روميا تموت خجلًا، بينما نظرات السيدة الحانية كانت تحمل في طياتها فضولًا لافتًا.
رفعت روميا رأسها بدهشة حين سمعت اسم عائلتها يخرج من فم تلك السيدة الغريبة.
“تعرفين اسمي؟”
“سألت بروسي. قولي لي، من أين تظنين أنني حصلت على هذه القبعة الجميلة؟”
فجأة، وقعت عينا روميا على القبعة التي ترتديها أوليفيا. لقد كانت نفسها القبعة التي رسمتها بنفسها وخاطتها ريتشيتو بخيطها! ارتسمت على وجهها فرحة خفيفة ما إن تعرفت عليها.
“يدك بارعة.”
ابتسمت روميا ابتسامة واسعة لا تستطيع كبحها، وقد غمرتها سعادة مديح سيدة نبيلة تنضح بروح العاصمة.
اعتمدت أوليفيا على عصا خشبية غليظة لتقف، ويبدو أن الوقوف كان شاقًا عليها. فبادرت روميا إلى إخراج منديلها الخاص وفرشت لها مكانًا لتجلس.
في البداية، ترددت أوليفيا من الجلوس على الأرض، لكنها لم تتوانَ بعد أن رأت المنديل المطرز بعناية بيد روميا.
كانت لدى أوليفيا أسئلة كثيرة عن روميا. فطوال إقامتها في بيريـدروز، لم تكفّ الخدم عن الهمس والثرثرة بشأن “خِزي” آنسة بيرلوس. بل إنها رأت بنفسها بعض المواقف.
لكن الشائعات ليست دومًا صادقة.
تذكرت أوليفيا كلمات أولئك الناس، فانعقد جبينها.
أما الفتاة التي جلست أمامها، فلم تكن في نظرها سوى حفيدة صغيرة لطيفة. لقد فهمت إعاقتها الجسدية، فبادرت لتوفير مجلس مناسب لها، بل فرشت لها منديلها الخاص.
إنها فتاة ذكية وسريعة الملاحظة. وجدت أوليفيا نفسها تستمع باهتمام لحديث روميا.
“كنت أتخيل حفلة رقص.”
“حفلة؟”
“لم يسبق أن دُعيت، لكن عندما يحين وقت الزواج، فلا بد أن أحضر حفلًا لأجد شريك حياتي. سأحتاج للظهور لأول مرة في المجتمع. لدي معلمة رقص بالفعل، لكني أتمرن أكثر كي لا أخطئ.”
أظلم وجه روميا فجأة، وكأنها تخيلت نفسها وهي تخطئ. فابتسمت أوليفيا بلطف وقالت:
“لا بأس أن تخطئي.”
“كلا. سيضحك الجميع عليّ. وإن حدث ذلك، فلن أتزوج أبدًا، ولن أتمكن من دخول المجتمع.”
واسترسلت روميا في الحديث مع صديقتها الجديدة حتى باحت بحلمها: حلم لم يتحقق بعد، لكنها عازمة على تحقيقه يومًا ما.
“حلمي هو أن ألتقي زوجًا صالحًا وأبني أسرة سعيدة.”
“ولذلك اختبأتِ في الحديقة لتقلدي بروسي؟”
“…رجاءً انسَي ذلك، سيدتي.”
قالت روميا ذلك بخجل، مروحة وجهها الساخن، وهي تنفخ شفتيها بانزعاج طفولي.
كانت تبدو في عمر مقارب لبروسي، ووجدت أوليفيا متعة في ممازحتها، فقهقهت وهي تراها تحمر خجلًا.
لكن روميا ازداد امتعاضها وقالت بانفعال:
“نحن في بيريـدروز هنا. المكان ليس كبيرًا ولا واسعًا كالعاصمة. سمعتي أصلاً سيئة. من ذا الذي سيريد الزواج بفتاة نبيلة اشترت لقبها بالمال؟ لا أحد! لذا عليّ أن أبذل جهدًا مضاعفًا.”
“زواج، إذن…”
تمتمت أوليفيا وهي تصغي، وقد خبت ضحكتها.
في مثل هذا العمر، اعتادت الفتيات أن يحلمن بالزواج ويغذين أوهامًا رومانسية. لكن الواقع لم يكن رحيمًا. تساءلت أوليفيا إن كان عليها أن تصحح لها حلمها، أم تكتفي بتشجيعها.
“كح! كح! كح!”
فجأة، شحب وجه أوليفيا واهتز جسدها من شدة السعال.
“هل أنتِ بخير؟ لم تتوقفي عن السعال منذ قليل… هل أصابك البرد؟”
ارتاعت روميا، فأخذت تفحصها قلقًا.
“أنا بخير… أهه!”
“سيدتي؟ حقًا أنت بخير؟ ملامحك ليست على ما يرام… يا إلهي، سيدتي!”
تهاوى جسد أوليفيا فجأة.
ارتبكت روميا وهرعت لتفحصها، لكن الملكة كانت فاقدة الوعي.
هل أطلب المساعدة؟ ماذا أفعل؟ ما العمل الآن؟!
تجمعت الدموع في عينيها وهي تلتفت حولها، لكنها لم تجد أحدًا. فقد كانت أوليفيا قد أمرت الحرس بالبقاء بعيدًا لتتمشى وحدها. لم تعلم روميا ذلك، فاكتفت بالدوران في مكانها بفزع.
وضعت يدها تحت أنف أوليفيا، لتكتشف أن أنفاسها بدأت تضعف أكثر فأكثر.
إن استمر هذا، قد يحدث ما لا يُحمد عقباه!
انهمرت دموع روميا.
تجمد جسدها من هول الصدمة والرعب، لكنها تماسكت سريعًا.
إن بقيت هكذا، قد تفارق الحياة أمامي!
مسحت دموعها بسرعة، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم مدّت يديها بلا تردد لتفتح صدر ثوب أوليفيا.
كانت قد رأت الراهبات في الدير وهن يعتنين بالمرضى المسنين، وتعلمت منهن بعض الإسعافات.
وضعت يديها فوق صدر أوليفيا، عند موضع القلب.
“أرجوكِ استيقظي يا سيدتي. لا تموتي!”
تساقطت دموعها على يديها، لكنها واصلت الضغط وهي تقلد ما رأته من الراهبات.
وعندما جاءت الخادمة تبحث عن روميا الغائبة، ووجدت المشهد، هرع فرسان أوليفيا ووجهوا بنادقهم إلى رأس روميا.
لكنها لم تتوقف إلا بعدما عادت أنفاس أوليفيا من جديد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 5"