رَكع لانت أرضًا من تلقاء نفسه وتمدّد على بطنه متوسلًا النجاة.
اعترف بخطئه، وطلب الغفران ولو فقط لكي يحافظ على حياته.
الرجل الواقف أمام عيني لانت بدا بعيدًا كل البعد عن كونه الملك المثالي في الشائعات، أو “الحاكم الفاضل لكاتاس”.
لم يكن في نظره سوى شخصٍ بلا رحمة، قاسٍ، لا يرسم لمستقبله إلا صورة عنقه يُخترق وكرامته تُسحق تحت قدمي ذلك الرجل.
وهذا بالذات كان أكثر ما يُجيده جيهاردي.
حتى من دون أن يفعل شيئًا، يجعل الآخرين يريدونه.
يكفي أن ينظر إليهم ببرود، فيتحركون كما يريد، كأنما قدَرهم أن يفعلوا ذلك.
ظلّ يستمع طويلًا إلى اعترافات لانت المتكررة، وكأنه على وشك أن يمنحه الرحمة هذه المرّة ويتجاوز عنه، مُصغيًا بكل تركيز.
ثم انفرجت شفتاه.
“روميا.”
“نعم؟”
روميا، التي كانت تراقب الموقف بصمت من الخلف، لم تكن تتوقع أن يناديها، فأجابته فورًا.
أجابت وكأنها تعوّدت على ذلك، لكن داخلها كان في ارتباكٍ وهي تحاول طرد هذا الشعور الغريب الذي ولّدته أفعاله.
‘لماذا أشعر هكذا؟’
نظرت روميا إلى ظهره بعينين متسائلتين.
تحرّك جيهاردي ببطء شديد، بخطوات طويلة، متوجّهًا إلى ظهر لانت الممدّد أرضًا.
“آاااااااااخ!”
مع أول وطأة، انفجر لانت في صرخةٍ هائلة، إذ شعر بألمٍ ثقيلٍ يسحق ظهره.
وكأن صخرةً ضخمةً تهوي على عظامه ومفاصله كلّها، حتى كاد أن يختنق من شدّة الألم الذي انتشر من ظهره إلى كامل جسده.
لم يتردّد جيهاردي.
استمع في البداية وكأنه قد يعفو عنه، لكنه ما إن ضعفت توسلات لانت حتى وضع قدمه على ظهره، ومرّ فوقه ببساطة، كما لو لم يكن سوى طريقٍ غير مستوٍ.
كأنه لم يعتبر أنّه وطأ إنسانًا من الأساس.
بسرعةٍ وقعت الأحداث، فلم تستوعب روميا ولا الحاضرون ما جرى.
وبعد أن هبط من “ارتفاع ظهر لانت”، التفت جيهاردي نحو روميا.
ثم قال لها بصوتٍ عذب، لم يعرفه سواها:
“إدعسي.”
“……عفوًا؟”
كان صوته رقيقًا، لكن كلماته لم تكن كذلك أبدًا.
ظنّت أنّها أساءت السمع.
فأعادت سؤالها، لكنه، خلافًا لعادته في كره تكرار الكلام، كرّر جملته هذه المرّة بلطفٍ غريب.
مدّ يده ببطء، كأنه يقول أمرًا بديهيًّا:
“إدعسي وامشي… إلى هنا.”
في تلك اللحظة، اختبرت روميا ما معنى أن يتوقّف الزمن.
كأنّ العالم كلّه يدور حوله وحده، حول هذا الرجل.
***
“يبدو أنّ الشائعات كانت خاطئة.”
“حقًّا. هذا أمر جلل.”
أومأ الكونت كانيون بعنف مؤيّدًا كلام غيرويك، وكذلك فعل كارلايل وهو يستمع عن قرب.
نظر كارلايل إلى المكان الذي اجتاحته العاصفة للتو.
لانت حُمل خارجًا على يد طبيب من بيت غيرويك، أمّا الفاعل الذي فرض العقاب القاسي فقد أخذ موضوع الحديث معه ودخل قاعة الضيوف المميّزين.
حتى إنّه، قبل ذلك، تبادل حديثًا قصيرًا مع غيرويك كما لو أنّ شيئًا لم يحدث، بوجهٍ هادئ ومطمئن.
في حفلات غيرويك، كان من عادة العائلة جمع الشخصيات المهمّة على مائدة عشاء خاصّة، وغالبًا انتقل الاثنان إلى هناك.
وعندما عاد غيرويك بعد مرافقة الضيوف، استأنف حديثه مع كانيون قبل بدء الوليمة.
“ألا ترى ذلك أيضًا؟”
“بالطبع، هذا تصرّف لا يقوم به إلا رجل واقع في الحب. فقد أُهينت امرأته.”
“لكن يبدو أنّ جلالته نفسه لا يدرك الأمر…”
عند هذا الهمس، أدار كارلايل وجهه بعيدًا.
لم يعد يرغب في سماع المزيد.
شعور فارغ، خانق، اجتاحه من رأسه حتى قدميه؛ شعورٌ أقرب إلى هزيمة فطرية، كما لو أنّه سقط في سلّم الغرائز قبل أن يُشهر سيفه.
‘أشعر أنني انهزمت حتى قبل أن أبدأ.’
سواء كان ذلك نعمة أو نقمة، فالأمر أنّ روميا بيرلوس لم تكن تعلم.
لم تكن تدري إلى أي حدّ يصبح الرجل في الحبّ تافهًا وصغيرًا، أو إلى أي حدّ يصير قاسيًا ومخيفًا.
خرج كارلايل إلى الشرفة، فصفعته برودة الليل.
الأضواء المبهرة من قصر غيرويك كانت تلمع حوله، ومن القاعة ارتفعت مجددًا أصوات الناس وضحكاتهم.
شدّ كارلايل على حافة الشرفة بيده، يتأمّل كلّ ذلك.
***
بعد مغادرة غيرويك وبقائهما وحدهما، شعرت روميا بانزعاجٍ خانق.
لم تطأ ظهر لانت كما أمرها جيهاردي، لكنها مرّت بجانبه وكأنه غير موجود.
لم يُعجبه ذلك، لكنه رأى في هذا ما يخصّ “طبيعة روميا بيرلوس” التي لا تستطيع التخلّي عنها، فتجاوز الأمر سريعًا.
والآن، في صالون الضيوف الذي أعدّه غيرويك، كان الاثنان يجلسان في صمتٍ ثقيل.
كلمات لانت الوقحة التي اخترقت الباب لم تمرّ عليها بلا أثر، لكنها كانت معتادة، متبلّدة.
أيام قليلة فقط هي التي لا تسمع فيها الشتائم خلف الأبواب.
في الماضي، كانت تثور وتغادر أو تدمع عيناها، لكنها تعلّمت أنّ هذا العالم لم يُخلق ليكون رحيمًا معها.
وكانت واثقة أنّ جيهاردي، الذي عاش حياته تحت الأضواء، يعرف ذلك أيضًا.
لذا لم تفهمه أكثر.
“لماذا فعلتَ ذلك؟”
“لست مضطرًا لأن أشرح لك كلّ تصرّف أقوم به.”
لم يكن سلوكه سهل التفسير.
لم يكن من عادته أن يقف في صفّها.
فهو رجل لا يبدي اهتمامًا بالآخرين، ويجد ذلك مضيعةً للوقت.
فكّرت روميا طويلًا، لكنها لم تستطع تقبّل فعله.
“الناس سيُسيئون الظن.”
نظر جيهاردي إلى ساعة الحائط التي تتحرك عقاربها بهدوء.
‘أترين؟ إنه حتى يملّ هذه اللحظات.’
هو رجل لا يحتمل أن يضيع وقته هكذا، وهذا ما زاد ضيقها.
عضّت روميا شفتها، ثم قالت ما لم تجرؤ أن تقول قبل قليل:
“……قد يظنّون أن جلالتك تحبّني.”
“أليس هذا في صالحك؟ هكذا تستطيعين أن تستغلّي اسمي أكثر في تجارتك.”
شعرت وكأن أحدًا يخنقها.
عيناه المطفأتان، المملولتان، ومضة فيهما جعلتها ترتجف.
لم تستطع ترتيب مشاعرها المتشابكة بسهولة.
وكأن دوامة صغيرة تحرّكت في عينيه.
فكّرت فجأة أنّه، رغم معرفته بأنها بدأت تجارتها مع كارلايل، لم يحاول يومًا منعها.
بل قال سابقًا إنّه لن يمنعها.
ظنّت أنّه لا يهتم بمن تلتقي وماذا تفعل.
لكن الآن، المشاعر التي أظهرها كانت ثقيلة جدًا عليها.
ولأنها لم ترد أن تنهزم أمامه، قالت أخيرًا:
“هذا أجري… كما تراني اليوم.”
كانت مجرد إجابة عناد.
دفعت بنفسها إلى الهاوية، محاولةً كسر الموقف.
ومع ذلك، كان في كلماتها أيضًا مرارةٌ تُذكّره ألا ينسى بؤسها.
لكنها، رغم ذلك، شعرت أنّ عينيه المظلمتين تسحبها إلى أعماقٍ سحيقة.
كان لا يزال ينظر إليها.
ففتحت فمها دون وعي:
“ستعيش وحيدًا طيلة حياتك، يا مولاي.”
كرهت نفسها لأنها ما تزال تأمل فيه.
التقطت نفسًا عميقًا، وأضافت:
“لأنك كاذب.”
هكذا قالت داليا كانيون من قبل: “ستعيشين وحيدة.”
وكذلك كان جيهاردي.
ابتسم ابتسامة خفيفة، وأخذ معصمها وقبّله.
قبلةٌ كانت أشبه بوسم ملكي، فعلتها رغبة التملّك.
وبرغم أنّها قذفت في وجهه كلامًا كأنه لعنة، رأى في عينيها دموعًا على وشك الانفجار، فحاول مواساتها:
“لا بأس. ستكونين بجانبي.”
“…….”
كان وجهه يقول بوضوح: “يكفيني أن أملكك وحدك.”
فتردّدت روميا عن قول المزيد، وأغلقت فمها.
حينها ربّت بخفة على معصمها وسأل:
“ستبقين بجانبي، أليس كذلك؟ لا تنسي كيف تكونين حكيمة، روميا.”
لم يكن سؤالًا.
لم يكن يطلب، بل يفرض.
حرّكت روميا شفتيها المرتجفتين:
“قد أموت فجأة في يومٍ ما.”
“لا تتفوهي بالكلام المشؤوم.”
“أعني فجأة. قد أمرض، أو…….”
قطّب جبينه وهو ينصت إلى كلامها الطويل.
كان ممسكًا بمعصمها، لكنه بدا هشًّا في يده الكبيرة.
فشدّ أصابعه أكثر حتى أحسّت بالألم من قوته.
عندها ضيّق عينيه وقال:
“ما دمتِ لا تتركيني، سيكون كلّ شيء بخير.”
فهو، في النهاية، كان يعيش في عزلة قاسية مهما حدث.
وإن بقيت روميا بيرلوس إلى جانبه، عندها فقط…… كان كل شيء مقبولًا لديه.
التعليقات