عاد إليها الهدوء والطمأنينة، وروميا لم ترغب في أن تفقد ذلك.
كان أمامها كارلايل يحمل ثِقَلًا يوحي بأنه لن يُخيب آمالها.
لم يمضِ وقت طويل منذ أن عرفته، ومع ذلك كتمت ضحكة حين خطرت ببالها فكرة أنّها ربما أصبحت تتخده سندًا.
كان وجهها قد أشرق من جديد، لكنها بالكاد كتمت المرارة التي تسللت إلى قلبها، ثم فتحت فمها لتتحدث مجددًا:
“يقولون إنّ كل شيء إذا زاد عن حدّه صار سُمًّا.”
لم تُهمل روميا أبدًا الكلمات التي قالتها إيزابيلا قبل رحيلها، تمامًا كما وعدت.
ذلك النصح الذي قُدِّم لها بدافع الشفقة ظلّ لوقت طويل ينهش روحها.
هل الطموح، والأحلام، تصبح سُمًّا إذا جاوزت حدّها؟
حتى عندما حاولت أن تطرد تلك الفكرة بهزّ رأسها، بقيت كلمات إيزابيلا عالقة في قلبها، تلاحقها بإصرار، تلتصق بها التصاقًا لا فكاك منه.
لهذا السبب، قررت روميا طوعًا أن تستغل ذلك السُمّ الساكن في داخلها، رغم إدراكها أن النتيجة لن تكون سوى مزيد من البؤس في النهاية.
كانت عازمة على أن تحافظ بكل ما أوتيت من قوة على ما تملكه، حتى لا تتحطم، وحتى لا تنكسر.
ورغم ذلك كله، رفعت عينيها نحو كارلايل بابتسامة خفيفة.
“لكن السُمّ الذي أحمله أنا… ليس سوى ملك هذه البلاد نفسه.”
تباعدت شفتا كارلايل ببطء.
وكأن تنهيدة قصيرة من نوع “آه” أفلتت منه.
حتى كارلايل كان واحدًا من الذين أشفقوا على بيرلوس، بل بلغ به الأمر أن شعر بالرغبة في حمايتها.
هل بدأ الأمر منذ حفل التتويج؟
كان كارلايل يظن أنّه صار يعرف السبب في التغيّر الطفيف الذي طرأ على أجواء روميا.
“أحتاج إلى مُعين.”
ومن خلال سعيها لجمع أشخاص إلى جانبها بحجة أنّها تحتاج إلى إعانة، كانت تُظهر عزيمة لا تعرف التوقف، حتى لو تعثرت.
“لديّ أستاذة علّمتني في بيريدروز، السيدة ريتشيتو. أنا واثقة تمامًا أنها ستقف إلى جانبي.”
ذلك الإيمان الراسخ بمن حولها لم يكن بعد اليوم ضبابيًّا أو غامضًا كما في السابق.
لقد صار واضحًا، جليًّا.
هل كانت روميا بيرلوس دومًا بهذه الدرجة من الوضوح؟
كان منظر طائر جريح يحاول أن يفتح جناحيه وينهض مثيرًا للاهتمام.
لذلك قرر كارلايل أن يكون هو الآخر واحدًا من معاونيها، لأنه لم يُرد قط أن يرى مصيرًا بائسًا لامرأة جميلة كهذه.
“حتى وقت قريب كانت كاتاس تمر بمرحلة ركود. صحيح أن الملكة الراحلة أنهت الحرب، لكن تبعاتها ما تزال قائمة. الملك الحالي يعمل على تطبيق سياسات متنوعة، وعلينا أن ننضم إلى هذا المسار.”
“ننضم؟”
“لحسن الحظ، أسعار المواد الخام للأقمشة ليست مرتفعة كثيرًا الآن. كما أن المصانع التي كانت قد أغلقت بدأت تُعيد فتح أبوابها. إنه وقت مثالي لعقد صفقات جديدة. لا أحد يعلم متى سترتفع أسعار الأقمشة فجأة.”
“صحيح. إذن فالوقت ضيق بالفعل.”
أومأت روميا برأسها وقد بدا أنها تعلّمت معلومة جديدة من كلام كارلايل.
وكان هو يبتسم بخفوت وهو يراها تُصغي باهتمام.
كان اتساع عينيها كالبدر في كل مرة تسمع شيئًا جديدًا يثير إعجابه، حتى كادت أن تبدو لطيفة.
لكنه تمالك نفسه كي لا يضحك بصوت عالٍ، فأعاد طرفي شفتيه المرتعشتين إلى مكانهما.
لقد كان يظن أنه يكفي أن يستغل قيمتها ليمنحها في المقابل ثروة هائلة تُبقيها صامدة.
فذلك فقط ما يستطيع أن يمنحها إياه.
وما إن أنهى حديثه، حتى ابتسمت روميا بعينيها ابتسامة آسرة جدًا.
***
بعد لقائها القصير مع كارلايل، قصدت روميا الفندق الذي تقيم فيه فيوليت، وهناك التقت والديها بعد زمن.
كان كل من فيوليت وريك كما كانا قبل مغادرتها بيريدروز.
“أحسنت! أحسنتِ يا روميا!”
احتضنها ريك بقوة، ثم انفجر في ضحك صاخب وهو يُغدق عليها الثناء.
رغم أنّها لم تفعل شيئًا يستحق كل هذا الإطراء، إلا أنّه بدا كمن يتفاخر بها وهو يربت على كتفها.
حتى كاد قلبها أن ينقبض من الغثيان.
“لماذا لم تلمحي لي منذ البداية؟ كم وبّختك وأنا لا أعلم شيئًا؟”
ثم تبع ريك عناقٌ طويل من فيوليت.
وظلت روميا واقفة بوجه شارد وسط حماس والديها المبالغ فيه.
امتزجت رائحة السيجار مع العطر القوي، تقترب منها تارة وتبتعد تارة أخرى.
‘هذا مزعج.’
كانت قد توقعت أنهما سمعا الأخبار، لكن أن يظهرا رغباتهما بوضوح هكذا، فذلك كان خانقًا بحق.
ثم جاءت فيوليت بصحيفة يومية ونشرتها أمامها.
كومة من الصحف المليئة بفضائح القصر كانت مكدّسة، وكان كل من ريك وفيوليت يتصرفان وكأن الأمر مناسبة سعيدة تستوجب الاحتفال، ناسفين بذلك سنوات معاناة روميا.
“عليك أن تكسبي قلب جلالته دومًا. من يدري؟ قد تصيرين ملكة هذه البلاد.”
تمادَت فيوليت في خيالاتها حتى تجاوزت الحدود.
كانت أطماعها بلا نهاية، وكان بريق عينيها المفعم بالجشع يخنق روميا.
“سيدتي.”
أرادت أن تفتح فمها لتردع فيوليت، لكن الكلمات لم تخرج بسهولة.
وفجأة جاء صوت مألوف من خلفها.
“همم. ما الأمر؟ هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟”
لقد كانت ريتشيتو، التي رافقت ريك إلى العاصمة، وجاءت مسرعة ما إن علمت بوجود روميا هناك.
صدفةً سمعت كلمات فيوليت المليئة بالغرور المبتذل، فقطعت الحديث في اللحظة المناسبة.
“أود أن أتحدث مع روميا قليلًا، هل تأذنان لي باصطحابها؟”
حين لمحت ريتشيتو روميا متصلبة بين والديها اللذين كانا في أوج حماسهما، أمسكت بيدها من غير تردد.
كانت يدها باردة كما هو لون وجهها الشاحب.
ويبدو أن تدخل ريتشيتو جعل فيوليت تشعر بالحرج من كلماتها، فالتفتت برأسها بتكلف.
“كما تشائين.”
وهكذا انساقت روميا كدمية ورقية بين يدي ريتشيتو، ومع ذلك شعرت بالراحة لمجرد خروجها من ذلك الجوّ المُنفّر.
***
“لقد تورطتِ في أمر خطير.”
أجلستها ريتشيتو في غرفتها على مقعد برفق.
كان مقززًا لها أن ترى والدين لا ينظران إلى ما جرّته ابنتهم على نفسها من مصائب، بل يعتبران الأمر حدثًا سعيدًا.
فكيف بروميا نفسها إذن؟
نقرت ريتشيتو بلسانها في خفية، ثم قدّمت كوبًا دافئًا من الكاكاو.
كان ذلك عادتَها كل مرة، إذ كانت دائمًا تُهديها كوبًا كهذا تعبيرًا عن امتنانها حين تساعدها روميا في الأعمال الصغيرة في بيريدروز.
وحين تعرّفت روميا على الكاكاو عاد بصرها يتركّز من جديد.
كان منظرها مؤلمًا للغاية، حتى أن ريتشيتو وضعت يدها على صدرها وزفرت تنهيدة.
‘كنت أعلم أنها فتاة لا يُمكن حصرها في بيريدروز فقط…’
لكنها أخطأت حين ظنت أنّ موهبتها لا تتعدى رسم القبعات، وأخطأت حين تركت أحلامها الطفولية دون أن تضعها في مسار واقعي.
أخطأت لأنها لم ترشدها، فحدث ما حدث.
لكنها شعرت بالارتياح لأن الوضع، رغم تشابكه، لا يزال قابلاً للتدارك.
لو كان الأمر مجرد كونها ضحية لشهوة ملك شاب، لكان أهون.
أما إن كانت روميا بالفعل قد بدأت ترفع بصرها نحو مكانٍ لا يُمكنها بلوغه…
حينها غلب القلق على وجه ريتشيتو وهي تسألها:
“هل تُحبين جلالته؟”
“…….”
“آه، مسكينة أنتِ.”
لم تُرِد روميا أن تكذب على ريتشيتو.
كانت ترغب على الأقل أن تبقى صادقة أمام شخص واحد.
لذلك اختارت الصمت بدلًا من الكذب.
وربما رأت ريتشيتو في ذلك الصمت جوابًا، إذ غامت عيناها بالدموع.
“لا تكشفي عن ذلك الشعور أبدًا. الرجال… حين تعطينهم كل شيء، لا يتركون لك شيئًا سوى الخسارة.”
وضعت ريتشيتو يدها فوق يد روميا.
كانت كلماتها باردة وحازمة، لكن دفء يدها كان مختلفًا.
لقد انهارت عزيمتها التي كانت قد تماسكت من جديد أمام هذه المرأة التي لطالما اعتمدت عليها وتعلمت منها في بيريدروز.
“لكن جلالته قد يُبادلني الحب أيضًا.”
خرج صوتها المبحوح ممزوجًا بالدموع.
وبدا جليًّا أن كِلتيهما تبكيان على هذه المأساة.
كان أمرًا شائعًا أن يمنح الملك عاطفته لإحدى العشيقات، لكن أن يثمر ذلك عن حب حقيقي فذلك قصة أخرى تمامًا.
ففي التاريخ، لم تكن مكرمات الملوك على عشيقاتهم سوى لهو عابر، مجرد نزوة قصيرة.
وحتى هي تعلم تلك الحقيقة، فكيف بروميا التي لا بد أنها تشعر بها بجلدها.
لم تستطع ريتشيتو إلا أن تأسف لمشهد تلميذتها العزيزة التي لم تلقها منذ زمن طويل.
روميا، بدورها، أغمضت عينيها بإحكام وهي تستحضر صورة جيهاردي الحاني.
حتى لو كانت لمسات يده المليئة بالودّ تحمل شيئًا من الحب، فإنها في النهاية لن تسمع منه كلماتٍ يعترف فيها بأنه يحبها حقًا.
كانت ريتشيتو هي أول من رتّب مشاعرها، فقالت برجاء عميق:
“ذلك لن يحدث، لذا امحي من قلبك كل أمل ولو ضئيل.”
“نعم.”
لم تُخالف روميا، الذكية كما هي، وصيّة ريتشيتو.
ومن المدهش أنّ إجابة قصيرة واحدة كانت كافية لتبعث الطمأنينة في قلبها.
عندها، بدأت ريتشيتو تُبعد عنها شيئًا فشيئًا ثِقَل المشاعر المأساوية.
لم تُرِد أن تغرق في عتمة تلك الأحاسيس أكثر.
لقد رغبت أن تضحك مع روميا كما في السابق وتفضي إليها بما في قلبها.
وعندما تأملتها مجددًا بعد أشهر، رأت أنها قد نضجت كثيرًا.
وبمهارة، حوّلت ريتشيتو مسار الحديث:
“على كل حال… لقد وصلني خطاب يخبرني بأنك ستصنعين قبعات. هل هذا صحيح فعلًا؟”
كان الخطاب باسم “كارلايل دوين”.
لم يطل ارتيابها من الاسم الغريب، إذ سرعان ما دهشت مما قرأت بداخله.
فروميا التي كانت تقول دومًا إن رسم القبعات مجرد هواية تعبث بها بقلمها، ها هي تعلن أنها ستجعل منه مهنتها التي ستسير معها طوال حياتها.
وإذ فهمت ريتشيتو أن ذلك الطريق اختارته روميا بعدما تكسرت أحلامها التي طالما كانت تثرثر بها كعادة، لم تستطع أن تفرح لطلب مساعدتها بلا تحفظ.
“قد ينظر الناس إليك بازدراء أكبر ويحتقرونك أكثر مما يفعلون الآن.”
كل ما كان يشغل بالها أن لا تُصاب روميا بجرح جديد.
فسمعة آل بيرلوس قد تلطخت أصلًا بما يكفي من العار.
لكن الكلمات التالية من فم روميا أثبتت أنها لم تنضج وحسب، بل ازدادت صلابة أيضًا:
“ومع ذلك، سيظل الناس يرغبون في ارتداء القبعات التي أصنعها. ولأجل أن يحدث ذلك، لا بد أن يرغبوا بي أولًا.”
أترى أن ما غيّرها كان ذلك القصر الملكي؟
تساءلت ريتشيتو بدهشة، لكنها أخفت مشاعرها واكتفت بهز رأسها موافقة.
“سأساعدك.”
“…….”
“لا أريد أن أفقدك، يا عزيزتي.”
ثم احتضنتها ريتشيتو برفق، وهي تمسح على ظهرها بحنان.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 52"