كان الصوت الذي سمعته لأول مرة عذبًا لدرجة تكاد تُذيب الأذن. روميا كانت تحدّق طويلًا في الزر البائس قبل أن تتراجع خطوة إلى الوراء بشكل مرتبك. وحين ابتعدت مسافة كافية عن الرجل، رفعت رأسها. غير أن نظراته اللامبالية كانت لا تزال حادة ومُحرقة.
‘ما هذا، إنه يعرف الكلام إذًا’.
ساورها خاطر جاف كهذا. لكنها لم ترغب في الانحناء لالتقاط الزر.
كان الصمت الملتف حولهما غريبًا، يطفو في الأجواء بثقل. الرجل كان ينظر إليها كما لو أنه ينتظر منها قول شيء ما. وكانت روميا هي التي شعرت بالحرج أكثر، إذ وجدت نفسها محاصرة بنظرته الصريحة المباشرة.
ماذا يجب أن تفعل في مثل هذا الموقف؟ لم يخطر لها أي شيء سوى الظلام في عينيها.
هل عليها أن تشكره لأنه نبهها إلى الزر الذي تدلى؟ أم تصرخ فيه قائلة إنه وقح لأنه مد يده إلى ثوبها دون استئذان؟ حبست أنفاسها وأطبقت شفتيها بعناد.
‘أذكر أن أمي زودتني بتعليمات خاصة بالمواقف المختلفة في دروس الآداب عند المعلمة…’
لكن ذاكرتها كانت مشوشة. ومع ذلك أمسكت بطرف فستانها بحذر محاولة تقليل الخطأ قدر الإمكان.
قالت بصوت رسمي:
“أنا روميا بيرلوس، أيها السيد. أشكرك لأنك نبهتني إلى الزر الذي سقط.”
أجاب ببرود:
“آه، بيرلوس.”
كلماته، التي خرجت وكأنه يعرف جيدًا، جعلت عينيها الكبيرتين تتسعان دهشة.
“سمعت أن هناك عائلة صانعي قبعات مشهورة في بيريدروز. وأيضًا يُقال إنهم أصحاب هذا المتجر.”
“بيرلوس… هل تعرف عائلتنا؟”
“حتى لو لم أعرف، فقول “لا أعرف” أمام فرد من بيرلوس يُعد قلة ذوق.”
“آه…”
إجابته كانت محبطة حد الفتور. فملامحها سرعان ما امتلأت بخيبة الأمل. لقد ظنّت أنه جاء من العاصمة بما أنه لا يبدو من بيريدروز، وظنّت أن معرفته بعائلتها أمر يثير حماسًا… لكن قلبها الذي خفق للحظة عاد إلى مكانه خاويًا.
جهاردي رمقها طويلًا قبل أن يرمي بكلمة فجأة:
“فيك الكثير من العيوب.”
“ماذا؟”
“أعني أن حركات يديك مبالغ فيها بلا داع.”
“ماذا تقصد…؟”
“حين القيتِ التحية قبل قليل، أمسكتِ بطرف فستانك بقوة مفرطة. أصابعك كانت مشدودة بعنف.”
روميا لم تعرف كيف ترد على انتقاد رجل تراه لأول مرة. نزلت عيناها إلى أصابعها وكأنها لم تعد تتذكر كيف حيّت.
أضاف بلا رحمة:
“وفوق ذلك، فضولك زائد بلا حاجة. مظهرك كبائعة لا يليق بمستواك ولا بمهارتك.”
حينها فقط أدركت روميا أن تنبيهها بسقوط زر قميصها لم يكن محض لطف منه. فاحمر وجهها حتى أذنيها. خفضت رأسها لتخفي احمرارها، فوقع بصرها على زرها الملقى على الأرض بشكل بائس.
كانت حالتها أشبه بزر ساقط، بعدما وجدت نفسها تُنتقد على مظهرها وآدابها من رجل أنيق في لباسه مرتب في مظهره.
لكن نظرة جهاردي كانت تتجه إلى الموضع الذي سقط منه الزر. مرّت عينه على رقبتها النحيلة، ثم عظم ترقوتها البارز، قبل أن تستقر أسفل قليلًا… فتجمد وجهه على غير عادته بصرامة مهيبة. كان يحدق في صدرها حيث تناثرت خيوط مهترئة بارزة بلا نظام. بقيت عيناه هناك طويلًا، كما لو كان يتأمل قبعات متجر بيرلوس. فاشتعل في داخله ضيق خفي.
—
“قلتُ أنني سأعود آخر الشهر.”
“لم أستطع الاكتفاء بانتظار رسالة. جئت لأرافقك.”
ابتسمت أوليفيا برضا عميق. كان بريقها مختلفًا عن بيريدروز، أكثر إشراقًا، وأقل انسجامًا مع هدوئها الريفي. الرجل الجالس قربها بوجه جامد أطلق كلمات مُرضية لها على نحو غير متوقع.
“كان عليك أن تتجاهل هذر عجوز.”
ضحكت أوليفيا بخفة، لكنه ابتسم بابتسامة قصيرة كأنه يرفض ذلك:
“لقت كتبتِ ثلاث أسطر كاملة تمدحين فيها قبعة الليدي بيريدروز، قلتِ أنها رائعة.”
كانت صحة أوليفيا تضعف عامًا بعد عام، لذا كان ينوي أن يوليها أقصى احترام ما استطاع.
“إنها رائعة حقًا. سمعت أن عائلة بيرلوس من صغار النبلاء في بيريدروز. يبدو أنهم ذوو سمعة طيبة في الجنوب.”
“أعجبتك قبعتهم أكثر من قبعة أحد صانعي القبعات الملكيين؟”
“شاهد بنفسك.”
فكّت أوليفيا غلاف العلبة التي جلبها، وأخرجت قبعة أنيقة ذات طابع كلاسيكي رصين. نزعت قبعتها القديمة على عجل ووضعت الجديدة على رأسها. أسرعت الخادمة ترفع لها المرآة.
“أما ترى كم هي جميلة؟”
“إنكِ رائعة الجمال.”
“حتى وأنا عجوز، تبقى هذه الكلمات موضع ترحيب.”
أوليفيا أُعجبت بانعكاسها في المرآة. مع أن القبعة لم تُفصّل بحسب قياسها، إلا أنها جلست على رأسها كما لو قُدرت لها.
أبعدت نظرها عن المرآة ببطء، ثم التفتت نحوه:
“شكرًا يا جهاردي على تفكيرك في جدتك.”
رفع فنجان الشاي وأومأ برأسه باختصار. كان وقاره خاليًا من الزوائد لدرجة أنها تمنت لو تستطيع أن تتباهى بمن ربّاه، لكنها اكتفت بابتلاع الحسرة.
“نعم… إنه مجرد حفيد بار بجدته. كم أنا حمقاء إذ أقلق حين أرى وجهه اللامبالي أحيانًا”.
وضع جاردى فنجانه بهدوء وسألها:
“لماذا تحبين القبعات إلى هذا الحد يا جدتي؟”
ابتسمت وقالت بحماس:
“لأن القبعة هي المرحلة الأخيرة من الأناقة. ليست الحقيبة، ولا الحذاء، ولا حتى القفازات. إنها القبعة وحدها.”
كان يراقبها وهي تداعب الدانتيل على حافة القبعة فقال بهدوء مسطح:
“أفهم.”
لم تلحظ جفاف صوته لانشغالها التام بالقبعة الجديدة.
“الفستان والحذاء يجب أن يكونا جميلين، زاهيين. الحذاء يكفي أن يكون مريحًا وجميلًا في آن واحد. القفاز رمز التواضع. لكن القبعة… هي التوازن.”
“التوازن؟”
“نعم. لأن كل شيء آخر فخم وباهر، فيجب أن تكون القبعة متزنة: لا مبالغة فيها، ولكن لا بد أن تكون جميلة.”
قهقهت أوليفيا ضاحكة كفتاة صغيرة. لم يفهم جهاردي بالضبط ما تعنيه، لكنه أومأ موافقًا، فازداد ضحكها.
بقيت عيناه معلقتين بالقبعة الجديدة. كانت محاطة بالدانتيل، تنتهي بشريط معقود يتدلى بخيوطه عند العنق. كان ذلك الخيط المترنح يثير ضيقه على نحو خاص.
“متجر قبعات بيرلوس…”
تذكر المتجر الذي زاره في طريقه. وتذكر تلك الفتاة الصغيرة التي تقدمت نحوه ببساطة وبلا تحفظ. كانت تفوح منها رائحة الجلد والدهان الخفيف، وتناسبها أجواء المتجر الدافئة خلف جدار الزجاج.
لمح في ذهنه عيني روميا الصافيتين حين قدّمت نفسها بأنها من آل بيرلوس، فانعقد حاجباه بضيق مباغت. لم يعرف لماذا ساء مزاجه فجأة. كان في نظراتها الخجولة، التي كانت تخطف النظر نحوه خلسة، ما يثيره. وفضولها في عينيها لا يقل قوة.
هي، بشعرها البني المتشابك الرديء، التي كانت تظن أنه لا يراها وهي تحدق نحو سيارته… فتاة مجهولة، تافهة، مجرد فتات.
وهكذا سمّى جهاردي الانطباع الأول عن روميا: “فتات”.
—
كان الجميع يعلم أن زائرًا ثمينًا قدم من العاصمة إلى بيريدروز. لم يعرف أحد من يكون بالضبط، لكن الإشاعات قالت إنه رجل ثري من أصحاب البنوك أو من عائلة فيرينتشي.
روميا أيضًا كانت مهتمة بذلك، لكن منذ أن بدأ الزائر المجهول يقيم في بيريدروز، لم تعد تكترث.
فالعار والمهانة اللذان شعرت بهما يوم لقائها به لم يبرحاها.
لكن تجاهلها له لم يمنع صورته من احتلال رأسها. ملامحه باهتة في ذاكرتها، لكن عينيه الثاقبتين ظلت تطعن قلبها قبل النوم.
‘كان أشبه برجل من عالم آخر مختلف تمامًا عن بيريدروز الهادئة المسالمة…’
احمر وجهها حين خطر بباله. كان قلبها يهبط فجأة حين يوجه نظره إليها. لم يكن متزينًا بجواهر أو يتلألأ بابتسامة باهرة مثل بروسي، ومع ذلك…
لم يكن يملك سوى وجه جامد وعينين حادتين. لكن روميا رأت فيه صورة “الكمال” الذي طالما حلمت أن تبلغه. كان شعورًا بالهيبة لم تعهده من قبل.
“هكذا إذًا… يمكن للعينين وحدهما أن تروض الآخر”.
لا حاجة للكلام أو الحركة. مجرد نظرة منه تكفي ليخضع له حتى أشرس المفترسين. بدا أنه معتاد على ترويض وإخضاع الآخرين.
وأمام إلحاح الذكرى، ذهبت روميا إلى السيدة ريتشيتو. فلعلها تعرف شيئًا عن هويته.
“سيدتي… من كان ذلك الزائر يومها؟ بدا من العاصمة…”
“تقصدين الزبون الثري المجهول؟”
عرفت ريتشيتو فورًا من تقصد رغم مرور الوقت.
“نعم. فمثل هؤلاء نادرون في بيريدروز. لقد جاء في سيارة سوداء. لا بد أنه من العاصمة. هل تعرفين من هو؟”
“آه، يا عزيزتي، كم من الزبائن المجهولين يبحثون عن آل بيرلوس؟ حتى أنا لا أعرف هوياتهم.”
“أنا واثقة أنه جاء من العاصمة! لا بد أن هناك كثيرين مثله هناك: أنيقون، باذخون…”
كانت روميا صادقة في فضولها. صحيح أن نظرته القاسية بعثت في جسدها رجفة وخوفًا، لكن جزءًا منها ظل يرغب في التحديق به خفية. جرحها بالكلمات لا يزال عالقًا، ومع ذلك قلبها يخفق عند تذكره.
ابتسمت ريتشيتو بابتسامة حرجة وهي تنظر إلى بريق عينيها.
لقد كان لدى روميا حلم بالعاصمة. صحيح أنها أحبت بيريدروز بجمالها الطبيعي، لكنها حلمت بعالم أوسع، خشبة مسرح تخصها وحدها، لتصبح سيدة نبيلة بحق.
وبينما كانت تحدق في روميا المتهللة، تذكرت ريتشيتو فجأة فأخرجت علبة صغيرة مزينة بشريط.
“قبعة الليدي الأخرى التي طلبتِ إصلاحها قد انتهينا منها. عليكِ أن توصليها إلى بيريدروز يا روميا.”
تجمدت روميا. صحيح أن مجرد ذكره يرفع مزاجها، لكنها لم تتخيل أن تواجهه ثانية.
“بيريد… روز؟”
“نعم. أنت تعرفين كم تهتم الليدي بيريدروز بالمواعيد.”
لم تكن السيدة ريتشيتو تعرف شيئًا عمّا حدث بينها وبين الرجل، فبدت ملامحها مطمئنة. أما روميا فاستلمت العلبة ووجهها متأزم يكاد يبكي.
كانت قد قررت أن تتجنب بيريدروز حتى يغادر الضيوف من العاصمة، لكن ما باليد حيلة، فقد حان موعد تسليم القبعة الرابعة التي طلبتها بروسي.
ذكرياته وكلماته ما زالت تطعن عقلها، لكن مواجهته أمر آخر.
وبما أن الشائعات تؤكد أن الزائر من العاصمة لا يزال في بيريدروز، فقد وقفت روميا أمام المرآة طويلاً تتفقد ثيابها: هل فقدت زرًا؟ هل ثنايا ثوبها مرتبة؟ كررت الفحص مرات عديدة قبل الانطلاق.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"