حين علت الضوضاء حولها بسبب الوافدين المتأخرين، خطت روميا مع كارلايل بشكلٍ طبيعي نحو ركنٍ هادئ. وللمرة الأولى، صارت بنفسها تعطي الكأس الفارغ للخادم وتستبدله بكأس شامبانيا جديد.
كان وجهها المتورد — ربما لأنها لا تُجيد شرب الكحول — يبدو شديد الجاذبية. أمّا كارلايل فحاول جاهدًا أن يخفي سخونة وجنتيه، بينما اتجها معًا نحو الشرفة.
طوال الطريق راحت روميا، كطفلة تدلّل نفسها، تبوح بأحاديث لم يكن يسهل عليها قولها لغيره:
“أحدهم قال لي إن استخدام موهبتي في التجارة ترفٌ لا يليق بي. وإنّ النبيل الحقيقي لا ينخرط في الأعمال.”
ولأن أثر الشراب غلب عليها، لم تُتح لها فرصة لتستغرب صمت كارلايل. كل ما أرادته هو أن تجد من تُلقي إليه بتنهّدها المكبوت.
ولسببٍ ما، شعرت أنّ كارلايل بالذات سيصغي لها جيّدًا.
“هل هذا ما يعنيه أن يكون للمرء صديق؟”
خُيّل إليها أن إيزابيلا قد تكون كذلك أيضًا، لكن بينهما جدارًا لم تستطع تحطيمه قط.
وبلا وعيٍ منها، راحت تتحدّث أكثر:
“رفضتُ عرضك السابق لأجل حلمٍ آخر كنتُ أطاردُه.”
ظلّ كارلايل صامتًا يصغي، يكبح اندفاع مشاعره المفاجئة. لكنّه في النهاية تكلّم:
“هل صار تحقيق ذلك الحلم أصعب؟”
“نعم… لقد ابتعد كثيرًا عني.”
هبّت ريحٌ باردة بينهما، لتترك على وجهها الأبيض — المضيء تحت أضواء الشرفة — حمرةً داكنة أوضح. غير أنّ صوتها الهادئ الذي تبع كلماتها حمل نبرةً مريرة خفيفة.
ثم التفتت إليه فجأة، وهي مستندة إلى الدرابزين:
“هل ما زال عرضك قائمًا؟ العرض الذي قدّمته لي آنذاك؟”
كان اقتراب كارلايل من روميا الليلة بغرض إقناعها فعلًا. وقد تركت القبعة التي صمّمتها لحفل التتويج في نفسه أثرًا كبيرًا.
لكنّه لم يتوقع أن تمدّ هي يدها أولًا. لقد بدت له وكأنها على وشك التبعثر مع كلّ هبّة ريح، حتى وإن لم يتأرجح في الهواء سوى طرف فستانها.
وجهها المرهق، بظلاله الكئيبة، زاد شعوره بأنها على وشك الانهيار إن لم يلتقطها أحد. وزاد الأمر حدّة كونها واقفةً على حافة الشرفة، وهو ما جعل المشهد كله أكثر خطورة.
ومع ذلك، ما أسر نظره أكثر من أي شيء آخر هو ملامحها العنيدة — شفاه مطبقة بعزم، وملامح صلبة تنضح بالإصرار.
لقد رأى كارلايل في حياته الكثير من الجمال النادر والفاخر خلال سنواته في التجارة، لكن روميا، وهي واقفة بهذا الشكل، كانت لوحةً خالصة الجمال.
ولو كان قد شرب أكثر قليلًا، لربما أفلت زمام عقله ومدّ يده نحوها في تلك اللحظة بلا تردّد.
لكنه ابتلع أنفاسه المكتومة، وكعادته ابتسم لها بلطف:
“بالطبع. نحن صديقان رائعان، أليس كذلك؟”
* * *
“رؤساء العائلات بانتظاركم في الخارج يا جلالة الملك. نبلاء الوسط الذين دخلوا الساحة السياسية سيأتون لتقديم التحية. بعد إنهاء اللقاء الرسمي معهم، يمكنكم العودة إلى القاعة الرئيسية وقبول المجاملات بروحٍ ودّية، ثم يُختتم برنامج اليوم.”
كان المستشار يعدد برنامج الحفل، بينما جلس جهاردي متململًا. وما لبث أن انتصب فجأة واقفًا.
كان يقف في إحدى قاعات الطابق الثاني من قاعة كينزي، التي تُخصَّص عادةً كاستراحة للعائلة الملكية حين تُقام الحفلات الكبرى، بحيث يمكنهم منها التوجّه مباشرةً إلى قاعة الولائم.
رفع المستشار رأسه بدهشة، إذ إن الملك تحرّك قبل أن ينهي تقريره:
“جلالتكم… إلى ما تنظرون؟”
كان جهاردي واقفًا أمام النافذة الزجاجية العريضة، يطلّ منها على الحفل الدائر في الأسفل. عيناه تجوبان القاعة بحثًا حثيثًا، كأنّه يفتش عن شخصٍ بعينه.
ارتبك المستشار، وشرع يقلب أوراقه على عجل تحت وطأة النظرات الثقيلة للملك. لكن جهاردي ظلّ محدقًا في زاوية من زوايا القاعة.
هناك كان شابٌّ من آل دُوين — الابن الثاني — يقف إلى جوار زهرةٍ يافعة لم تكد تتفتح: روميا. هي نفسها تلك الفتاة التي كانت تأتيه كل ليلة، متعلّقةً به بحنانٍ ودموع، الفتاة التي احتجزها تحت لقب محظيته.
على وجهها الأبيض ارتسمت حمرةٌ ضاحكة، بدا أنها تستمع لشيءٍ يبهجها. أما نظراتها إلى كارلايل دُوين فقد كانت رقيقة على نحوٍ لم يَرق له البتّة.
لا إراديًا مدّ يده يعدّل رباط عنقه، الذي كان مشدودًا أصلًا بإتقان.
***
“روميا! لقد بحثت عنك طويلًا. ها أنتِ هنا!”
صوتٌ مفعم بالحيوية ناداها حين عادت روميا إلى القاعة بعد أن افترقت عن كارلايل. كانت هيرين تركض بخفّة نحوها، لتقبض على يديها. دَفء يدَيها كان مفرطًا، حتى بالمقارنة مع الهواء البارد الذي كانت روميا تستنشقه في الخارج.
“آه… سيدتي.”
في لحظةٍ تلاشى أثر الخمر من رأسها حين رأت هيرين. كانت أمام شخص لا يُسمح لها بالخطأ معه مطلقًا. فورًا ضمّت يديها باحترام.
قالت هيرين بابتسامة متألقة:
“الأميرة شارون ترغب في رؤيتك.”
“ماذا؟”
لم تكن علاقتها بالأميرة تتجاوز بعض اللقاءات العارضة وهي تخدم إلى جانب هيرين. لم تكن ترفع رأسها إليها ولا تفكر بها يومًا.
لكن بمجرد أن سمعت اسم شارون، دبّ القلق في قلبها. ومع ذلك، جذبتها هيرين بمرحٍ وهي تواصل:
“بالمناسبة، لديّ أنا أيضًا طلب منك.”
وهكذا، بدا أنّها ستأخذها إلى الأميرة شخصيًا. لم تملك روميا إلا أن تتبعها بخطواتٍ ثقيلة، وأسنادها مشدودة من التوتر.
وصلتا إلى حيث كانت شارون محاطة بسيداتٍ ذوات مكانة رفيعة. انحنت روميا بعمق فورًا، متوجّسة من جولة جديدة من التحديق والفحص.
ابتسمت الأميرة، تلوّح بمروحتها:
“إذن، أنتِ هي. ابنة أسرة بيرلوس.”
كانت جلستها شامخة متكبّرة، كما لو أنها تضع العالم كله تحت قدميها. تحت هذا الحضور الملكي الساحق، أحسّت روميا أنها لا تعدو عن كونها ذرة غبار على سجادة القاعة.
إنه شعور مختلف عن رهبة جهاردي، لكنه كان يفتتها بذات القدر.
“تشرفت بلقائكِ، يا صاحبة السمو الأميرة. أنا روميا بيرلوس.”
“بعد نصف شهر، هناك مناسبة غاية في الأهمية. أريدكِ أن تصنعي لي القبعة التي سأرتديها حينها.”
توهج قلبها لحظةً، فقد بدا أن موهبتها نالت اعترافًا حتى من أميرة العائلة المالكة. لكن سرعان ما أثقلها العبء الجديد — سلّمٌ آخر شاهق أمامها، وهي لم تكد تصعد الدرجة الأولى بعد.
ثم إنّها كانت ترتجف من فكرة ما قد يحلّ بها إن أخفقت.
خفضت رأسها أكثر، وأجابت بخجل مرتعش:
“لستُ واثقة من مهارتي بعد… أظن أنّه سيكون من الأفضل ترك الأمر لحِرَفيي القصر المختصّين بالقبعات.”
“لا. أصرّ أن أتولى أمري عندكِ. أثق بأنكِ ستبدعين فيها بقدر ما أبدعتِ للملك.”
“يا صاحبة السمو… أنا…”
لكن كلماتها تلاشت أمام نظرات شارون، التي كانت مليئة بالرجاء القاسي. رغم أنها سمّتها “طلبًا”، إلا أنّ روميا فهمت أنها أوامر لا يمكن رفضها.
حينها أمسكت هيرين بيدها، تكسر الصمت الثقيل بصوتها المشرق:
“لا ترفضي يا روميا. أتريدين إحراج صاحبة السمو الأميرة؟”
كان صوتها مرحًا، خاليًا من القلق. أغمضت روميا عينيها بإحكام.
كما قالت لكارلايل، فقد تخلّت روميا عن حلمها في العثور على زوج مناسب لتتزوّجه وتُرسّخ مكانة عائلتها.
فـ”كورتيسان الملك” كانت حرفيًّا مُلكًا للملك، لا أكثر ولا أقل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 40"