“قبعة جميلة هي. سمعت أنّ آل بيرلوس عائلة مشهورة في تجارة القبعات.”
كان المقهى يعبق بعطر القهوة الزكي حتى لو جلس المرء صامتًا.
روميا كانت تعبث بكأس زجاجي فارغ وتبتسم ابتسامة باهتة. فقد بدا لها الثناء المباشر الذي ٱطلِق في وجهها غريبًا.
كارلايل دُويْن كان رجلًا مهذبًا غاية التهذيب. عندما ترددت روميا ولم تستطع أن تطلب مشروبها بسبب صعوبة أسماء القائمة، تولى هو الأمر وكأنما عن عناية، فطلب بدلًا عنها.
وحين شعر بأن وجودها في هذا المكان يربكها، بادر هو إلى فتح الحديث بخفة ولباقة ليجعل الجو أكثر راحة.
وفوق ذلك كله، كان أجمل مما توقعت.
“حين التقطت القبعة الضائعة أول مرة، أيقنتُ فورًا صاحبتها، لا بد أنكِ أنتِ من صنعتها بيديك. لأنه ما من أحد سواكِ، آنسة بيرلوس، قادر على تصميم فريد وغير مألوف كهذا بعيد كل البعد عن موضات العاصمة.”
مدّ كارلايل إليها القبعة التي أضاعتها. كان مدحُه أقرب إلى المبالغة، لكن نبرته وملامح وجهه الصافية دلّت على أنه صادق في إعجابه بمهارتها.
فكرت روميا في الأمر وشعرت بالحرج. فطأطأت رأسها فجأة. لم يكن الإطراء شيئًا اعتادت عليه.
كارلايل ابتسم ابتسامة خفيفة وهو ينظر إليها وكأنها بدت لطيفة في عينيه.
“إن لم تمانعي، أودّ أن أرعى موهبتك باسم أسرة دُويْن.”
—
“السيّدة نوبريدج.”
اعتادت روميا أن ترى جهاردي وجهًا لوجه مرتين كل يوم: مرة في الصباح، ومرة قبل أن ينام. وها هي الليلة تحدّق في شمعة عطرية تبعث رائحة خفيفة وهي تحترق، ثم قطعت الصمت فجأة بالكلام.
رفع جهاردي الكتاب الذي كان يقرأه ونظر إليها.
لقد ألف مشهدها في الجهة المقابلة من المكتب، وهي تضيء له الغرفة بوهج الشمعة الواهن. صارت مألوفة في حجرته لدرجة أنه لم يعد يشعر بأي غرابة بوجودها.
حتى السيدة فوتاميا، التي ملّت من لعبتها، لم تعد تُلبسها تلك الثياب الضيقة أو أقمشة النوم الشفافة كما في السابق. لكن مع ذلك، لم يتوقف حضور روميا كل ليلة إلى غرفة جهاردي لتشعل شمعة معطّرة.
وغالبًا ما كانت هي أول من يغفو، غير أن جهاردي لم يعتبر ذلك مشكلة، ولم تتجرأ هي أن تعتذر عن غفوتها قبله، فكلاهما التزم بالصمت حيال ما يحدث في هذه الساعة.
أن تبادر روميا وتكسر الصمت لم يكن بالأمر المألوف.
“الرسّامون الذين نالت أعمالهم رعاية السيّدة نوبريدج، تباع لوحاتهم الآن بأسعار باهظة.”
تساءل جهاردي: إلى أين تريد أن تصل؟ لم يكن يحب المقدمات الطويلة ولا الكلام الملتف، لكنه هذه المرة رأى أنه قادر على الاحتمال، لأن منظر شفتيها وهي تتحرك بهذا البطء له وقع مختلف عليه.
كان قد خرج للتو من الحمّام، فهز شعره الرطب بمنشفة وهو يجيب:
“إنه شكل من أشكال التجارة الفنية. بالفعل، للسيّدة نوبريتش عين خبيرة في هذا المجال. سمعت أيضًا أن هوايتها رسم المناظر الطبيعية.”
“إذن السيدة مارِت، التي كانت تصنع أزياء البلاط منذ عهد الملكة الراحلة…”
نور الشمعة لم يكفِ لإضاءة الغرفة الواسعة، لكنه كان كافيًا ليضيء وجهيهما على المكتب.
كان وجهها يوحي بأنها تكبح كلامًا أكبر مما تقول.
فقاطعها جهاردي:
“روميا، ما الذي تريدين قوله بالضبط؟”
رفعت رأسها ببطء، وكأنها تنتظر أن يسألها ذلك. وتحت ضوء الشمعة الأحمر، بدا وجهها الشاحب وكأنه ازدان بأزهار مشتعلة.
“لماذا لم يفعلوا ذلك بأنفسهم؟”
عيناها الثابتتان تلاقت مع عينيه. لوهلة، شعر جهاردي بقشعريرة تسري في جسده. كان في بصرها عمق غامض وسكون غريب. لم يكن سؤالها بحثًا عن جواب بقدر ما كان ضربًا من الأمل. فأحس بانزعاج غير مألوف.
“سمعت أن لوحات السيدة نوبريدج، التي ترسمها كهواية، تضاهي بجودتها أعمال كبار الرسامين.”
الأمر يزداد التباسًا. لم يستطع أن يمسك الخيط وراء كلامها. تلك المقدمات المبعثرة أخذت تنخر في مزاجه.
‘قالت انها خرجت صباحًا…’
لكن لا أحد في العاصمة لتلتقيه حقًا سوى آل بيرلوس. إذًا من تراه ينتظرها في الخارج؟ فكرة لقائها بشخص لا يعرفه لأول مرة أقلقته بشدة.
صارت روميا تفلت من قبضته دومًا. كلما تقرب منها ليطفئ عطشه، زاد عطشه وتضاعف.
بات شعورًا كنيران تشتعل في دماءه. وكان يعرف تمامًا ما يعنيه ذلك، وإن لم تدركه روميا البريئة الساذجة.
“أنا أيضًا، أصنع القبعة التي سترتديها في حفل تتويجك، يا صاحب السمو… لكن… ماذا لو استطعتُ أن أُظهر عملي أمام عدد أكبر من الناس…”
ذلك الفم الذي لا يكف عن الثرثرة… كيف له أن يسكته؟
مدّ يده وشدّ شعره المبلول بعنف، كابحًا رغبة عارمة اندفعت بداخله. لكن الرغبة المكبوتة لا تولّد إلا الضيق.
“النبلاء وأصحاب الأعمال لا يفصل بينهم إلا فرق ضئيل جدا.”
أغلق الكتاب بصوت حاد ونهض واقفًا. ومع كل حركة، كان رداؤه ينفتح كاشفًا عن جسده القوي، غير عابئ بها.
ارتبكت عيناها وهي تبحث عن موضع آخر تنظر إليه، وذلك أمتع قلبه. هو أيضًا كان يعيش ذات الشعور.
فالكتاب الذي يضعه بين يديه كل ليلة لم يكن إلا غطاءً لعينه عنها. لأيام عديدة لم يتجاوز الصفحة السادسة والثلاثين، لأن كلما فتح الكتاب صباحًا تذكّرها، وكلما رفع عينيه ليلًا وجدها أمامه.
لكنها لم تنتبه، أو تظاهرت بعدم الانتباه.
فتلاشى الانزعاج من ملامحه، واستبدلته راحة غريبة. أعجبه أن تكون ساذجة إلى هذا الحد.
معها، لم يُضطر لإضاعة الوقت في تبادل كلماتٍ لا يُريد قولها، ولا أن يقلق بشأن مشاعر شخصٍ لم يكن حتى مُقربًا منه، ولا الإهتمام بشأن قبوله كملك. وحدها فقط جعلته يتجاوز كل ذلك.
عندها قرر أن يساعدها.
“حتى لو كان لديهم موهبة، فإن واجبهم هو الحفاظ على إرث عائلتهم. ذلك قدر من يلد في بيت نبيل.”
إجابة سهلة، لكن روميا بدت عاجزة عن الوصول إليها.
“آل نوبريدج عُرفوا بجمع التحف والأعمال الفنية وإهدائها لتراث كاتاس الثقافي. كانوا يتبرعون للقصر الملكي، ويأخذون بالمقابل امتيازات أخرى.”
وقع ظل جهاردي على وجهها، فرفعت رأسها لتنظر إليه بعناد ظاهر. بدا مضحكًا في نظره إصرارها على أن لا تخفض بصرها.
فتابع وكأنه لم يلحظ:
“واكتشاف الفنانين الجدد عندهم ضرب من ردّ الجميل أيضًا. يؤمنون أن اللوحة سجلّ يوثق زمنها بصدق.”
“إذن السيدة مارِت…”
“أسرة مارِت كانت منذ زمن بعيد عائلة من المصممين في القصر. بدأوا بصياغة الجواهر، وهم أوّل من زَيَّن الثياب بالأحجار الكريمة.”
كررت بعده كلمة “أوّل…” وكأنها تنقشها في ذهنها.
جهاردي تجاوزها وفتح خزانة زجاجية عند النافذة. أخرج منها شرابًا قويًا وكأسًا، وعاد إلى مجلسه. انسياب الخمر وهو يسكبه كسر الصمت الثقيل. لكن روميا كانت غارقة في كلمة “الأوّل”، بالكاد ترفع بصرها إليه.
“آل مارِت يفتخرون بأنهم يخدمون الأسرة المالكة. ذلك في نظرهم أسمى قيمة من أي شيء آخر.”
انحدر الشراب القوي على حلقه الجاف.
وأخيرًا، عاد إلى سؤالها الأول.
لماذا لم يصنعوا بأنفسهم؟ لماذا لم يُظهروا أعمالهم للناس؟
“لأن عرض مهارتهم أمام العامة لم يكن إلا… تَرَفًا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 33"