حتى بين وصيفات القصر اللواتي كنّ أطول منها قامةً بكثير، لم يكن هناك من تستطيع أن توقف عينَي جهاردي ولو للحظة قصيرة سوى تلك الصغيرة ضئيلة الجسد، بيرلوس.
لم تكن سوى التفاتة عابرة منه عندما لمح وجهها.
كانت فتاة تُعاني حتى من مجرد الانخراط في حديث الأخريات. ما إن تهمّ بفتح فمها لتتكلم حتى تسارع إلى إطباقه، فيغدو وجهها مشوباً بخيبة الأمل على الفور. وحتى حركة الإمساك بالقبعة التي كانت تتطاير بفعل الرياح العاصفة، بدت على نحو غريب مرهقة أكثر من اللازم حين تصدر من روميا.
قالت هيرين بصوت ناعم:
“وبالمناسبة يا سمو الأمير، سأرسل إليك في الفترة المقبلة بعض الشموع العطرية، فهل ستقبلها بسرور؟”
آه… تنهد جهاردي تنهدًا قصيراً وأومأ برأسه. لم يكن أنه لم يستمع إلى كلام هيرين، لكنه شعر وكأن لحظة مهمة قُوطعت دون استحقاق، فلم يرق له ذلك. ومع ذلك، فبصفته خطيبها، لم يكن من اللائق أن يرفض. كان يعرف تمام المعرفة كم للنظرات والآراء العامة من ثِقَل، فاكتفى بهز رأسه بخفة.
لكن… كانت مجرد لحظة أبعد فيها نظره.
وفجأة دوى صوت ارتطام بالماء تبعه صراخ مرتبك آتٍ من القارب المرافق:
“آآه! روميا سقطت في الماء!”
“ساعدونا!”
حتى هيرين التي كانت تركز على الأمير، وجهاردي الذي كان قد التفت نحوها ليسمعها من جديد، كليهما التفّا إلى مصدر الجلبة.
ويا للسخرية! الفتاة نفسها التي كانت قبل قليل تعبس خشية أن تطير قبعتها، وتسخط بصوت خافت، ها هي تسقط في الماء وتصارع أمواجه.
صرخت هيرين في ذعر:
“استدعوا الحرس! بسرعة!”
وأخذت الوصيفات المذعورات يلوحن بأيديهن للحرس الملكي المنتظر عند الضفة.
وبينما عمّت الفوضى المكان، ظل جهاردي ساكناً لا يتحرك، عينيه على روميا التي كانت تخبط وتصارع الماء. لقد وقع الحادث في غمضة عين. كيف له، وهو ولي عهد كاتاس ومُستقبَلها، أن يقفز بنفسه لإنقاذها؟! لم يكن ذلك مقبولاً لعقله ولا ينسجم مع قناعاته.
وكل ما راوده من أفكار وهو يراها تتوسل النجدة وتحاول بكل قوتها التشبث بالأغصان الممدودة إليها، هو: لماذا لم تتعلم روميا السباحة حتى الآن؟ لو كانت قد فعلت، لسبحت بخفة وخرجت بنفسها.
“يا إلهي! ماذا نفعل؟ روميا! هل أنت بخير؟!”
كان الحرس قد قفزوا من قواربهم بالفعل وهم يسبحون نحوها. لن يتأخروا في الوصول. صحيح أنها بدأت لتوها تستسلم وتغرق فاقدة للقوة، لكن موتها لم يكن وارداً.
أخيراً، سحب أحد الحرس جسد روميا المغمى عليها من الماء. عندها فقط تنفّس الجميع الصعداء. حتى إن بعض الوصيفات الشاحبات وجوههن أوشكن على البكاء وطلبن العودة حالاً.
وهكذا بدا أن حادث سقوط روميا بيرلوس في الماء قد أُغلق مؤقتاً. جهاردي لم يقل شيئاً، والقارب الذي يحمل روميا انسحب بسرعة من البحيرة.
عادت هيرين لتجلس، تحاول تهدئة قلبها المضطرب، حين…
صوت ارتطام آخر بالماء!
“سمو الأمير؟!”
تناثر رذاذ الماء البارد على خدها. وضعت يدها على وجهها في دهشة، لكن ما صدمها أكثر من البلل المفاجئ كان شيئاً آخر:
الأمير، الذي كان يراقب كل شيء بصمت، قفز فجأة من القارب إلى الماء!
كان يسبح إلى الأمام بثبات كما لو كان يقصد هدفاً واضحاً. وعندما عاد، كانت يده تمسك شيئاً ما جعل هيرين تعجز عن الابتسام له من جديد.
آن الأوان لتعترف. لم يكن لطيفاً ولا حنوناً معها قط.
حين سقطت روميا في الماء، كان خوفها الأكبر أن يتحرك جهاردي بنفسه لإنقاذها. لو رآه الجميع يفعل ذلك، لانهالت عليها الشفقة من كل حدب، ولما استطاعت أن تحتفظ بمكانتها كخطيبة ولي العهد المحبوبة.
لكن لحسن الحظ، ظل الأمير ثابتاً في مكانه، يراقب بصمت حتى أنقذها الحرس. فاطمأنت، وكادت أن ترتاح.
ولكن… كان ذلك حتى اللحظة التي رأت فيها ما عاد به جيهاردي.
قبعة روميا.
كيف؟ ولماذا؟
ذلك القدر الهائل من العطف، الذي لم يبدِه لها منذ خطبتهما وهما طفلان، أظهره لتلك الفتاة الصغيرة. كم كان ذلك مُهيناً ومُجحفاً بحقها! لم يحدث قط أن ولي عهد كاتاس التقط بيده شيئاً تركه آخر وراءه. لم يكن ذلك هو الأمير الذي تعرفه.
فهو رجل يؤمن أن توكيل الآخرين أيسر وأسرع من أن يقوم بأي شيء بنفسه.
فلماذا… لماذا فعل ذلك؟!
ذلك اليوم انهار كل ما بنته هيرين في قلبها من ثقة وصلابة.
—
بعد الحادث، أصيبت روميا بزكام خفيف لازَمها. نصحتها السيدة ميريج بالراحة، لكنها كانت تدرك أن الاستسلام للفراش سيجعل مرضها أسوأ. كانت منهكة جسديا ونفسيا، لكنها لم تستطع التوقف.
فإن مرضت، ستتأجل مهمتها في صنع القبعة للأمير.
وكان هناك أيضاً سبب آخر يجعلها مكتئبة…
“لم أستطع استعادتها بالنهاية.”
كان الشريط الفضفاض قد انفلت، فطارت القبعة مع الرياح. مالت روميا بجسدها فوق الماء لتحاول التقاطها بيدها، فانزلقت قدمها وسقطت في البحيرة.
وحين أفاقت، لم يكن أحد قد رأى القبعة بعد ذلك.
“هل جرفها التيار بعيداً؟”
كانت تلك أول قبعة تصنعها بيديها، وصاحبتها لوقت طويل جداً. لذلك كانت عزيزة جداً عليها. فقدانها كان موجعاً بحق. لم تعد يداها تجد تلقائياً ملمسها المألوف كلما وضعت يدها فوق رأسها.
كثيراً ما مدت يدها الفارغة إلى رأسها كمن يبحث عن شيء غير موجود، ثم أنزلتها ببطء. حتى النوم لم يكن كما كان: كانت تعلق قبعتها دوماً إلى جانب السرير على مسمار دقّته بيدها. والآن، مع الفراغ الذي تركته، كانت الدموع الحزينة تترقرق كلما وقع نظرها هناك.
—
مضى يومان. وجاءت هيرين إلى روميا بعد عودتها من زيارة فيوليت.
قالت بابتسامة دافئة:
“أشعر أنني لم أعتنِ بك كما ينبغي ذلك اليوم، روميا.”
نظرت روميا إلى انعكاسها في المرآة. ملامحها بدت غريبة ومربكة إلى حد لا يطاق. بينما كانت هيرين، خلفها، تُغدق عليها بعبارات المدح التي جعلتها أكثر ارتباكاً.
قالت روميا بخجل:
“لكنني لا أستطيع ارتداء هذا حقاً.”
أجابت هيرين برقة:
“لطالما أردت أن أهديك فستاناً واحداً على الأقل. وهو يليق بك كثيراً.”
كان ذلك مفاجأة أعدتها هيرين خصيصاً لها. فقد قدمت إليها صندوقاً كبيراً يساوي تقريباً حجم جذع روميا، مزيَّناً بشريط أحمر، وطلبت منها فتحه. دفعت روميا نفسها إلى فك الشريط بدافع الفضول، لتجد داخله فستاناً يختلف تماماً عن ملابسها المعتادة.
قالت هيرين مبهورة:
“رائع، روميا. تبدين كما لو كان اليوم يوم ظهورك الأول في المجتمع.”
لكن روميا ترددت:
“أليست مثل هذه الفساتين تليق بك أكثر يا سيدتي؟”
فأجابت هيرين بحزم:
“إن كنت ستظهرين لأول مرة قريباً، فلا بد أن تتغيري هكذا. كلما تأنقت السيدة، ازدادت بهاءً وجمالاً.”
وقفت روميا تحدق بنفسها في المرآة مطولاً، بينما تتردد في أذنها كلمات هيرين الهامسة.
كان الفستان مكشوفاً للغاية، عند الصدر والظهر، حتى أن الخامة الرقيقة الشفافة أبرزت كل تفاصيل جسدها. لم يكن يثبت على جسدها إلا بخيط رفيع مشدود عند الظهر، بدا وكأنه قد ينفلت في أي لحظة.
ارتسمت على وجهها ملامح الانزعاج، لكن هيرين بادرتها بعلبة أخرى، تضعها في يديها:
“هل تذهبين في مشوار صغير؟ لقد نسيت هذا. إنها شمعة عطرية يجب أن أقدمها لسمو ولي العهد الليلة.”
ترددت روميا مرتبكة:
“إذًا… سأبدل ملابسي وأذهب بها حالاً.”
لكن هيرين ابتسمت وهزت رأسها:
“لا، لا وقت لذلك. يجب أن تصلي قبل أن ينام. إنها شمعة تعين على النوم الهادئ، فلا بد أن تقدميها قبل أن يخلد إلى الراحة. أسرعي، روميا.”
نظرت روميا إليها متوسلة:
“ولكن…”
اقتربت هيرين وربتت على كتفيها العاريتين بلطف، قائلة:
“يمكنك تبديل ملابسك عندما تعودين. أليس كذلك؟”
ذلك الدفء الذي غمر كتفيها جعل روميا تستسلم أخيراً وتومئ برأسها موافقة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 27"