الساعة الواحدة التي سمح بها جهاردي يوميًّا كانت تُحترم بانتظام. وعلى الأوراق البيضاء الفارغة بدأت تظهر خطوط الإطار، مكوّنةً ملامح القبعة شيئًا فشيئًا. كان ينغمس تمامًا في القراءة، ويُفضِّل بشكل خاص أن يفتح النافذة ليقرأ وهو مستسلم لأشعة الشمس ونسمات الهواء.
وأحيانًا كانت الريح تعبث بخصلات شعره فتجعله يقطب جبينه، ومع ذلك كان يتركها وشأنها على غير عادته.
وبجانب الكتاب كان دائمًا فنجان قهوة لا يبرد أبدًا، إذ يدخل خادمه في اللحظة المناسبة، إمّا حين يفرغ الكأس أو حين تبرد القهوة، ليضع مكانها قهوة طازجة.
لم يكن يحتاج المرء وقتًا طويلًا ليدرك كم هو شديد الحساسية.
واليوم أيضًا، كان عبق القهوة الذي يملأ مكتبه قد تسلّل إلى أطراف فستان روميا.
ولم تنتبه روميا إلى أنّ هيرين تحدّق بها مباشرة، بل أخذت تشمّ كمّها كطفلة، فما كان من إيزابيلا الجالسة بجوارها إلا أن تربّت على كتفها لتوقظها من شرودها.
فانتبهت روميا فجأة، كأنّ عقلها بقي عالقًا في مكتب جهاردي، ثم رفعت عينيها إلى هيرين التي ابتسمت بخفة وأشارت إلى المقعد المقابل لها.
“أحسنتِ عملًا. هل تجلسين قليلًا هنا؟”
كانت هيرين في تلك اللحظة تحتسي الشاي مع ضيفة سرّية. ولم تدرك روميا إلا متأخرة أنّ ثمة زائرة جليلة جالسة هناك، فاقتربت بانحناءة خجولة. خطواتها السريعة المليئة بالحماسة جعلت ابتسامة رقيقة تعلو محيا هيرين.
“أعرّفك إليها، فهي فتاة أعتز بها كثيرًا. إنها ذاتها التي طلبت منكِ عبر الرسائل أن تعينيها، سيدتي.”
ـ “آه، إذن هذه هي الفتاة التي يتحدّث عنها الجميع.”
قالتها السيدة العجوز وهي تهز مروحتها المفتوحة، تتأمل روميا من رأسها حتى قدميها بعين فاحصة.
“نعم، سيدتي. أرجو أن تساعديها بما أوتيتِ من خبرة.”
كانت السيدة في أوج الوقار والعظمة. كادت روميا أن تستسلم لفضولها وتدير رأسها إليها مرات ومرات، لكنها تماسكت. فلم يسبق أن جلست هيرين مع أحدٍ على انفراد لتشرب الشاي إلا في هذه اللحظة، وهذا وحده كان يثير فضولها.
لكنها تذكّرت ما تعلّمته: أن تبقى هادئة لا تُرى ولا تُسمع حتى تُعرّفها هيرين بالضيفة. وسرعان ما جاء التعريف:
“روميا، هذه السيدة نوبريدج. هي التي ستتولى الإشراف على حفل الدبيوتانت الخاص بك. إنّها المضيفة الرسمية للحفل الذي سيُقام لك.”
“دبيوتانت!؟”
ارتفع رأس روميا باندهاش، ونسيت أين تقف ومن أمامها، حتى التقت عيناها بعيني السيدة نوبريدج التي كانت تتمعّن فيها بدقة. فهبّت روميا واقفة تُعرّف بنفسها على الفور.
“أنا روميا بيرلوس. سيدتي، أرجو رعايتك وتوجيهك.”
أمسكت بحافة فستانها كما تعلّمت، وانحنت قليلًا ثم نهضت بخفة.
ورغم أن تحيّتها بدت ناقصة في عينَي السيدة الخبيرة بكثرة ما رأت من سيدات شابات، إلا أنّها قدّرت جهدها، وابتسمت ابتسامة عذبة، تخفي فمها بمروحتها.
“في مثل هذا الوقت من كل عام، تُزهر براعم السيدات الشابات في حفل الدبيوتانت الذي أُقيمه. وستكونين أنتِ أيضًا زهرةً متفتحة بينهم.”
كانت روميا تعلم أن خطاب النبلاء صعب الفهم، فتردّدت ولم تعرف كيف تجيب. عندها أمسكت هيرين بيدها وضغطتها مشجعة.
“إنها طريقتها الخاصة في القول إنكِ جميلة.”
“شـ… شكراً جزيلاً.”
كلمة “جميلة” بدت في سياقها كإطراء هائل. واحمرّ وجه روميا أكثر.
فقد كانت تعلم سيرة السيدة نوبريدج. تلك الأرملة التي ربت ولديها وحدها بعد وفاة زوجها، واشتهرت برعايتها للفنانين، حتى صاروا كبارًا يُشار إليهم بإعجاب، وجمعوا ثروات طائلة بفضلها. حتى في بيريدروز، حيث نشأت روميا، كان اسمها على كل لسان.
فأي شرفٍ أعظم من أن تحضر حفلتها، بل وأن تنال عنايتها مباشرة؟
واصلت السيدة نوبريدج أسئلتها الودودة، لكن روميا المرهَقة بالتوتر لم تعد تذكر كيف أجابت. ولمّا رأت هيرين ارتباكها، سمحت لها بالمغادرة. فانسحبت روميا على عجل، تحمل في قلبها مزيجًا من الفخر والخجل.
لقاء أشخاص تكنّ لهم كل هذا الإعجاب كان دومًا يربكها ويجعلها تتمنى:
“ليتني أشيخ يومًا بتلك الأناقة.”
لقد كان انطباعها الأول عن السيدة نوبريدج نابعًا من القلب.
—
قصر النهار شيئًا فشيئًا، وأوشكت الشمس على المغيب حين رأت روميا رفيقاتها وقد أصابتهن حركة مفاجئة. فسألت ثم جاءها الجواب الذي وسّع عينيها دهشة:
“نزهة بالقارب؟ ألم نذهب مؤخرًا؟”
“لكن يبدو أنهم أرادوا الخروج مرة أخيرة قبل أن يشتد البرد. ثم إن سموّ الأمير سيكون أكثر انشغالًا بعد اعتلائه العرش. فلا عجب أن يولي اهتمامًا خاصًا لسيدتنا.”
“لكن الشمس على وشك الغروب.”
“كان الأمير يخرج أحيانًا إلى البحيرة مع السيّدة عند الغروب.”
ورغم أن بينين أصبحت أكثر برودًا مع روميا بعد حادثة القلادة، فإنها لم تمتنع عن الرد عليها. وبينما كانتا تتحدثان، نادت وصيفة أخرى بصوت عال:
“روميا! تعالي واحملي هذا!”
“حسناً، قادمة!”
وشعرت روميا بوخزة غريبة في مؤخرة رأسها، لكنها تحركت بحيوية لتؤدي المطلوب.
—
كانت بحيرة تلّة إلجينيا أجمل ما تكون عند الغروب. مكان يتردّد عليه العشاق أو المقربون من العائلة الملكية. واليوم بدا الجو مثاليًا، بلا غيوم ولا ضباب، كأن الطبيعة تهيأت خصيصًا. رؤية الشمس وهي تهبط قريبة بهذا الشكل، وتصبغ المياه بلون قرمزي، كان مشهدًا ساحرًا.
تذكرت هيرين أنها زارت المكان من قبل مع جهاردي، فاشتعلت حمرة خجولة على وجنتيها.
“مرّ وقت طويل منذ أن اجتمعنا هكذا، فقط نحن الاثنين.”
“لقد قصّرتُ بحقك.”
“لا تقل هذا. كنتَ مشغولًا.”
“شكرًا لتفهمك.”
كانت كلماته قصيرة ومقتضبة، لكنها أضاءت قلبها. إنه لا يزال كما عهدته: الرجل اللطيف الهادئ. حتى لو كانت مجاملة، فمجرد أنه لم يغيّر معاملته معها كان عزاءً كبيرًا لها.
التفتت، فرأت وجهه وقد تلوّن بضياء الغروب الأحمر. صورة رجلٍ شاب، قوي، ووريث العرش القادم، لا عجب أن تتمناه جميع النساء.
وضمّت يديها إلى صدرها وهي تقول مبتسمة:
“بالطبع، ستكون مشغولًا أكثر مستقبلًا. ولن أسمح لنفسي بأن أكون طفلة مدللة تقول فقط أنها تريد رؤيتك.”
ثم تظاهرت بالتحديق في الأفق كي تخفي نظراتها الطويلة إليه، وقالت بخفة:
“سألتُ المركيز المرافق، وقال إنك ستكون أقل انشغالًا غدًا.”
“نعم، كدتُ أنتهي من معظم المهام.”
“إذن، ما رأيك أن نلعب الشطرنج سويًا؟ لقد تدربت كثيرًا لأجل أن أهزمك هذه المرة.”
كانت تتذكر كل لحظة قضتها معه، حتى هوايته في لعب الشطرنج من حين لآخر. وقد استأجرت معلمًا بارعًا من آل فيلي خصيصًا لذلك.
وأجابها جهاردي بهدوء:
“أنا فضولي لأرى إن كنتِ قد تطورتِ بالفعل.”
“سترى بنفسك. هذه المرة سأفوز لا محالة.”
وما إن سمعت موافقته حتى أطبقت عينيها بسرور، لكن بداخلها ظلّت رغبة خفية في امتلاكه تتأجج. ومع ذلك، لم يكن ينظر إليها.
أدار نظره بعيدًا عنها. تمنت لو كان الغروب هو ما أسر ناظريه. لكن الحقيقة المؤلمة هي أنّ ما خطف بصره كان شيئًا آخر:
‘روميا…’
كانت في القارب الصغير، محاطة بالوصيفات. وصوتها العذب مع ضحكاتها يتسللان إلى أذنيه فيثيران بريقًا مختلفًا في عينيه. وحين لاحظت هيرين ذلك، تظاهرت بالابتسام وأمسكت بذراعه، محاوِلةً صرف انتباهه.
“يبدو أن وجهك شاحب قليلًا. ألم تنم كفاية؟”
كان من السهل عليها أن تعيده إليها، فهي جالسة أمامه مباشرة، بينما روميا في الخلف. وما إن عادت عيناه إليها حتى تعمّدت النظر في عينيه بعمق، كي تُذكّره بأن صرف النظر عنها وقاحة لا تليق به. فلا بد أن يتوقف عن منح تلك الفتاة التافهة أي اهتمام.
“إنها ضغوط العمل فقط. حين تهدأ الأمور سأعود إلى النوم جيدًا.”
“أتذكر الشمعة العطرية التي أعطيتك إياها العام الماضي، عندما كنتَ لا تنام؟”
قطّب جبينه قليلاً، ثم أومأ.
“قالوا لي إنها أفادتك وقتها. سأعطيك واحدة مماثلة حين أعود.”
“أقدّر لكِ عنايتك.”
“هذا واجبي.”
كلمات مجاملة، لكنها كانت كافية لتملأ قلبها بالبهجة. احمرّت وجنتاها وهي تبتسم، وعيناها الكهرمانيتان تتلألآن وكأنهما تُقيدان الأمير.
إنها هيرين فوتاميا، زينة مملكة كاتاس، التي يشبّهها الناس بالليمون المنعش أو بالشمس الساطعة.
لكن جهاردي، وهو يتأمل وجهها المثالي المهذّب، لم يشعر بشيء. لم يثره جمالها ولا مكانتها.
بل كان ما يسرق انتباهه، دون أن يقاوم، تلك الفتاة البسيطة التي تفوح منها رائحة القروية: روميا بيرلوس.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 26"