كانت السيدة ميريج قد فتحت صندوق أدوية هيرين، ثم اقتربت بخطوات حازمة ووجهها متجمد بشكل مخيف. أما هيرين، فقد انتفخت وجنتاها قليلًا وهي تجيب بفتور على ملاحظات الزائرة التي جاءت متأخرة في الليل قبل نومها.
“لأن دوق فوتاميا يسأل دائمًا عن صحة الآنسة.”
رغم وجهها الجامد، كان صوتها لينًا بلا حدود. وهيرين أيضًا كانت تعلم أنه لا أحد يهتم بها مثل السيدة ميريج، ولهذا عدلت من نبرتها القاسية وأجابت بصوت خافت:
“مهما تناولتُ من تلك الأشياء…”
“هشش، آنستي. في القصر عيون ترى وآذان تسمع. حتى إن لم تنطقي بصوت مسموع، قد يُفهم من حركة شفتيك أمر خاطئ. أنتي أدرى الناس بذلك…”
رغم أن الشفقة في عينيها بدت مضحكة، إلا أن هيرين لم تكره تلك الشفقة، طالما أنها صادرة من السيدة ميريج دون غيرها. فهي كانت السبب في تمكنها من الحفاظ على مكانة خطيبة ولي العهد بهذا الثبات.
مدّت هيرين المشط الذي كانت تمسك به.
“سرّحي شعري.”
“لكن عليكِ تناول الدواء قبل النوم.”
“إن سرّحتِ شعري قبل النوم، سآخد الدواء بعدها.”
“لا بأس، سأرضخ لكِ هذه المرة فقط.”
كانت ميريج في النهاية تلبي دائمًا ما تريده. ففي حين أن الجميع في القصر يضع عليها آمالًا كخطيبة ولي العهد، كانت ميريج الوحيدة التي تراها مسكينة وضعيفة، ولهذا كان من السهل على هيرين استغلال تلك الشفقة لتتصرف كما يحلو لها.
بدأت ميريج تمشّط شعر هيرين الأشقر بانسياب معتاد. وكان يكفي أن تشعر هيرين بلمساتها لتغفو. كادت تغفو فعلًا دون أن تتناول دواءها.
“هل لي أن أسألكِ عن السبب؟”
“أي سبب؟”
سؤال ميريج، الذي قطع الصمت أولًا، جعل النوم يهرب من عيني هيرين.
“روميا. كنتِ تعلمين أن تلك الفتاة لم تسرق عقدكِ الياقوتي.”
“وما أهمية ذلك؟”
توقفت يد ميريج عن التمشيط، فالتفتت هيرين إليها بسرعة. خلف عدسات النظارات، بدت عينا ميريج مدهوشتين. أشاحت هيرين وجهها بتبرّم وأدارت ظهرها.
لم يكن غريبًا أن تعلم ميريج. فهي من يفهم أفكار هيرين أكثر من أي شخص آخر في القصر. وكانت تدرك أيضًا أن سؤالها لم يكن غرضه توبيخًا أو لومًا، ومع ذلك لم يسعد هيرين، فخرج ردها عصبيًا دون وعي.
“في النهاية، اعتذرت لي روميا، ووعدت بألا تفعلها مجددًا.”
عاودت ميريج تمشيط شعرها بهدوء، تلامس خصلاته الذهبية كما لو كانت تتعامل مع حبات رمل ناعمة. لكن تنهيدة ثقيلة تسللت من شفتيها.
“أليس من المقرر أن تظهر أخت إيزابيلا هذه المرة مع روميا في حفل الديبيوتانت؟”
“إيزابيلا؟ آه، أذكر أن لها أخوات كثيرات…”
“لابد أن تكون الابنة الثالثة قد بلغت سن الرشد. أرسلي بعض المال لإيزابيلا ليساعدها في حفل أختها.”
كانت هيرين معروفة بوفائها لأتباعها، ولذلك كانت تنال احترامًا صادقًا من الكثيرين. لكن أن تذكر فجأة أخت إيزابيلا الصغرى التي لم ترها قط، كان أمرًا غير متوقع حتى إن عينَي ميريج اضطربتا.
وكأن هيرين لم تلحظ ذلك، تثاءبت بكسل وقالت:
“إنه بيت قديم عريق، لكنهم يعيشون بالكاد من بعض المشاريع. رغم أصالتهم، مواردهم المالية ضعيفة. فالكونت ليس بارعًا في التجارة.”
“هل تواجه عائلة إيزابيلا مشاكل؟”
“نعم، سمعت أن الكونت أفلس. عند تقديم الابنة الثالثة في الديبيوتانت، قد يُجبرون على تزويجها أو حتى إيزابيلا نفسها لعائلة لا يعرفونها لسداد الديون. أليس ذلك مؤسفًا؟”
انقبض قلب ميريج وهي تسمع الحقيقة من فم هيرين مباشرة. كانت تلك هي مخاوفها الغامضة التي أخذت الآن شكلًا واضحًا. ومع أن هيرين كانت تتحدث عن إيزابيلا بعطف، إلا أن ميريج لم تستطع إلا أن تراها – هي نفسها – أتعس مخلوق.
خرج صوتها مبحوحًا لا يخلو من الانكسار:
“إذن كنتِ تعلمين من البداية من هو الفاعل الحقيقي.”
“لا. لقد عاد عقد الياقوت إليّ في النهاية، إذًا لم يكن هناك لص أصلًا.”
كانت عيناها اللامعتان من قبل قد امتلأتا بظلام قاتم، ظلام لم يكن سوى شهوة التملك والولع اللامحدود الذي تكنّه هيرين فوتاميا لجهاردي كاتاس.
همست بصوت جاف بعد صمت طويل:
“لقد اختلقتُ الأمر.”
حاولت ميريج أن تبدو متماسكة، لكن كلمات هيرين زادت عينيها حمرة خلف العدسات.
“أنا فقط أمارس إحسانًا كمن هي في مكانة النبيلة تجاه المسكينة إيزابيلا. تمامًا كما سامحت روميا حين اعتذرت ووعدت ألا تكرر فعلتها.”
يا للغرابة.
ابتلعت ميريج غصتها. في نظرها، أكثر من يستحق الشفقة كان هيرين نفسها، لا روميا ولا إيزابيلا.
“لقد أعطيتُ الاثنتين فرصًا متساوية. بكل عدل.”
كانت هيرين تدرك جيدًا أنها انساقت خلف مشاعرها التافهة. لكنها لم تشعر بالذنب تجاه روميا، ولا بالضغينة لإيزابيلا. كل ما فعلته هو استغلال الموقف. ففي هذه القصة، لم تر نفسها سوى ضحية. لا مكان للشعور بالذنب أو الغضب. فقط تحذير منهجي و”حكيم” قدمته لكلتيهما.
ارتسمت على وجهها الجامد ابتسامة باهتة. وكلما فكرت أكثر، كلما وجدت سلامًا في مشاعرها تلك. وفي تلك اللحظة، احتضنتها ميريج من الخلف بصمت.
كان ذلك أسلوبها المعتاد في تهدئتها كلما اجتاحتها إحدى نوبات مرضها.
شدّت على ظهرها وهمست قرب أذنها:
“بعد التتويج، سيُقيم ولي العهد أيضًا زفافه المؤجل معكِ.”
“نعم.”
“فلا تقلقي إذن. ملكة كاتاس القادمة لن تكون سوى الليدي هيرين فوتاميا، أنتِ وحدكِ.”
كانت تلك هي الكلمات العذبة التي لطالما أرادت هيرين سماعها.
—
كانت الهالات السوداء تحت عينيها تدل على ليلة بلا نوم.
لم يكن السبب فقط ضيقها بعد لقاء فيوليت، بل لأن دفترها القديم الممزق في حضنها ظل فارغًا لم ترسم فيه شيئًا.
واليوم بالذات كان الموعد النهائي لإتمام تصميم قبعة ولي العهد.
تنهدت روميا بعمق وهي تحدق في وجهها الشاحب في المرآة، ثم انطلقت إلى جناح ولي العهد. لقد حفظت الطريق جيدًا حتى صارت قادرة على سلوكه مغمضة العينين.
كانت الأوراق المتساقطة التي لم يجمعها البستاني بعد تتكسر تحت قدميها حتى وصلت بسرعة إلى مكتبه المعتاد.
هناك، كان الجو مشبعًا برائحة القهوة الطازجة. ألقى عليها التحية القصيرة دون أن يرفع عينيه، منشغلًا بقراءة كتاب تحت أشعة الشمس المتدفقة من النافذة خلفه.
كان صوت تقليب الصفحات إيقاعيًا.
“أ.. أممم…”
ترددت روميا طويلًا، لا تدري كيف تبدأ. في الماضي، كان لديها خطط وأهداف واضحة فلم تتعثر كلماتها. أما الآن، فلا شيء لتقدمه.
“تحدثي.”
لم ينظر إليها جهاردي، كل تركيزه كان على الكتاب بين يديه. وربما كان ذلك أفضل لروميا، فقد جعلها أكثر جرأة لتقول ما أعدّت له في طريقها.
تنفست بارتياح وهمست أخيرًا:
“لم أستطع رسم القبعة.”
عندها رفع جهاردي رأسه ببطء، تاركًا الكتاب، ونظر إليها بعينين حادتين عاينتها من أعلى لأسفل.
“أليس ذلك كلامًا غير مسؤول؟”
“لم يحدث لي ذلك من قبل… أبدًا…”
“يبدو لي أنه مجرد تهرب من المسؤولية.”
لم يكن يحب سماع الأخبار السيئة في الصباح. لم يكن الأمر أنه يقدّس “بداية اليوم بصفاء”، لكنه لم يجد سببًا ليبدأ نهاره بانزعاج.
روميا بيرلوس كانت دائمًا تكسر نظامه. تلك الأيام التي رتّبها بدقة، يفسدها وجود خياطة صغيرة من بلدة نائية، فتاة بالكاد صارت امرأة.
ربما كان عليه أن يستمع إلى نصائح المركيز فانيسا… حين تصلبت ملامحه قسوة، سارعت روميا لتقول بلهفة:
“لديّ سبب.”
ملاحظة:
مصطلح “ديبيوتانت” (Debutante) أصله فرنسي، ويستخدم لوصف حدث ظهور الشابات للمجتمع الراقي لأول مرة، عادة في حدث رسمي أو حفل راقي، مثل حفل تقديمها رسميًا في المجتمع.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 24"