كانت كلماتها قاسية النبرة، لكنها في تلك اللحظة كانت تعتني بها بلا شك. أحسّت روميا في قرارة نفسها بالامتنان نحوها، ثم بدأت ببطء تقلّب جسدها. لم تستطع أن تستلقي بشكل مستقيم، ولم يكن بوسعها أن تجلس مسنِدة ظهرها إلى الجدار، لذا لم يكن أمامها سوى اختيار الوضعية التي تراها أفضل ما يمكن.
كانت مجرد حركة صغيرة يتبعها ألم شديد. أطلقت روميا أنفاسًا متقطعة بصوت متهدّج وسألت:
“أليست السيدة إنسانة حنونة وعطوفة؟ لم أعتقد قط أنها من يمكن أن تقف متفرجة بينما أُجلَد هكذا…”
“هيه!”
صرخت إيزابيلا بغتةً وكأنها إنفجرت غضبًا من كلمات روميا التي تمتمت بها ووجهها غائص في الوسادة. ثم بدا أنها أدركت سوء حالة روميا، فمدّت يدها إلى رأسها الذي كان يخفق بألم.
كل كلمة تقولها هذه الفتاة، تجعل الدماء تغلي في عروقها…
من المذهل أن يكون الغباء الذي يثير الضيق إلى هذا الحد مكروهًا بهذه الصورة. زفرت إيزابيلا تنهيدة قبل أن تقول ثانيةً:
“أنتِ حقًا… كما يُقال، من أسرة ثرية صعدت فجأة، لا تعرفين شيئًا.”
“…”
“كلمات أصحاب المقام الرفيع قد تكون أخطر من البندقية أو السيف.”
ظلت روميا تعبث بالمرهم الذي أعطته لها بيدها دون أن تستخدمه، فما كان من إيزابيلا إلا أن انتزعته منها سريعًا. كانت تتوقع أن الثوب قد تمزّق وصار كخرقة، لكن حين فتحت الجروح ورأت ما فيها، بدا المشهد أبشع مما تصوّرت، حتى أن نفسها أخرجت آهة مكبوتة، غير أنها لم ترد أن تفضح مشاعرها. جاءت بالماء والمنشفة المبللة، وبدأت تُنظّف جروح روميا ببطء، على خلاف صوتها الحاد قبل قليل.
“شكرًا لك…”
بصوت خافت كما لو كانت تحتضر، شكرتها روميا. فكّرت إيزابيلا أن تدع كل شيء وتغادر، لكنها عادت وجلست حيث كانت، وأخذت تضع المرهم على الجروح.
“كلمات أصحاب المقام الرفيع تختلف عن كلماتنا. في طيات كلماتهم أشواك.”
“أشواك…؟”
“نعم. لا يجوز أن تنخدعي بلهجتهم الرقيقة. فإذا أمعنتِ النظر فيها، قد تجدين معاني مرعبة تقشعر لها الأبدان.”
“…”
“أتظنين أنهم يبتسمون بوجهك ليحافظوا على آدابهم معنا؟ لا. إنما يفعلون ذلك لأنهم يريدون ذلك. وإذا أرادوا أن ينقلبوا إلى القسوة، فلا يحتاجون سببًا خاصًا. يكفي أنهم يرغبون في ذلك، فذلك من حق مكانتهم.”
وما إن أغلقت إيزابيلا غطاء المرهم حتى ناولت روميا الأنبوب من جديد وقالت:
“لا تعقدي آمالًا. أصحاب المقامات الرفيعة جميعهم هكذا. السبب في أن السيدة اكتفت بالمشاهدة، هو أنها في موضعٍ يخولها ذلك. فخلف طباعها الرقيقة، هناك وجه آخر أشد قسوة.”
غطت روميا رأسها بالوسادة من جديد بوجه عابس.
على الرغم من أنها عملت مدةً في القصر الملكي كخادمة، ظل عالمهم عصيًّا عليها. منذ البداية لم يكن في متناولها، ولا قابلاً لأن تحتك به. كان محزنًا أن ترى طموحاتها الأولى تتضاءل يومًا بعد يوم.
صحيح أن هيرين، تبعًا لوصية الملكة الراحلة، لن تحرمها من حدث ظهورها الأول، لكن أن تبقى حياتها معلقةً بإرادة غيرها وتنتظر بضعف، كان أشد وقعًا وإيلامًا.
إيزابيلا، وقد لاحظت تغير ملامحها إلى الحزن، كادت تغادر لتتركها ترتاح، لكنها عادت فأغلقت الباب خلفها، ثم استدارت نحوها.
“وأيضًا…”
تحركت شفتاها مرات عدة كأنها تريد أن تقول شيئًا عسيرًا، ثم بدا لأول مرة على وجهها تعبير من العذاب.
“لماذا لم تقولي شيئًا؟ أنتِ كنتِ تعلمين أنها أنا.”
لم تشعر إيزابيلا بتأنيب الضمير. لقد كان السبب في قدومها المفاجئ للإقامة في القصر، أن بيتها أخذ ينهار شيئًا فشيئًا، والظروف المالية ازدادت ضيقًا، فلم تجد خيارًا إلا هذا.
إعتزازها بنفسها كان عظيمًا، فلم تستطع أن تفشي أن أسرتها في خطر. لأن مجرد قول ذلك كفيل بأن يجعلها هدفًا للسخرية، ونقطة ضعف تستغل ضدها.
وفي خضم هذا الحال، كان عقد الياقوت العائد لهيرين ما أفقدها صوابها. فقد كان هدية من دوق عظيم، ولو باعته لربما سددت به ديون أسرتها كلها وأعادت مجدها. امتدت يدها إليه دون وعي.
لكنها لم تستطع فعل شيء حياله، خوفًا من أن يُكتشف أمرها فتصير مطرودة من مجتمع الطبقة العليا إلى الأبد، أو ربما تُعاقب بالموت.
وحين علمت هيرين باختفاء العقد وبدأت تبحث عنه، سارعت إيزابيلا وأخفت العقد الذي سرقته تحت وسادة روميا. لم يبدُ الأمر مهمًّا، فهي من أسرة ثرية حديثة العهد، ولن يضيرها إن عانت بسببها.
على أي حال، كانت روميا في نظر الجميع شوكة في العين، ومكروهة بلا استثناء.
لكن ما إن خطر ببالها أنها قد تموت بالفعل، ارتعبت.
وفوق ذلك… كان هناك سؤال لم يفارق رأسها:
لماذا؟ لماذا ظلّت روميا بيرلوس صامتة مع أنها عرفت الحقيقة؟
“أنا التي خبّأت العقد تحت وسادتك، وأنا التي سرقته. وأنتِ كنت تعلمين كل ذلك، أليس كذلك؟”
نظرت روميا إلى وجهها الشاحب بصمت، وفتحت شفتيها ببطء. حتى لو خرجت من بينهما شتائم بحقها، كانت إيزابيلا مستعدة أن تسمع. حتى لو لعنتها وهددتها بالوشاية إلى السيدة الآن، فقد عزمت إيزابيلا أن تركع لها لأول مرة وأخيرة، وتتوسل إليها بكل إخلاص.
لو كان ذلك سيكفي لإغلاق فم روميا إلى الأبد.
لكن روميا، وقد قرأت ملامحها الغامضة، ابتسمت فجأة وقالت:
“لابد أنّ كانت لديك أسباب. إذا كانت إيزابيلا التي أعرفها، فلا بد أن لها عذرًا وجيهًا. حين رأيت العقد باقياً في مكاني أيامًا، فكرتُ: أجل، لقد استسلمتِ للحظة من ضعف وارتكبتِ فعلًا لا يجوز، لكن في النهاية ستعيدين العقد إلى مكانه. لم أتوقع أن تتركيه على سريري لتُلصقي التهمة بي.”
“طبعًا! كان عليّ أن أنجو بنفسي أولاً!”
“سأختار أن أصدق أنه كان لديك سبب جعلك مضطرة.”
“إلى أي حد تنوين أن تظلي ساذجة؟”
تنفست إيزابيلا بعصبية، كأنها اختنقت من الحديث مع روميا. أما روميا، فاكتفت بهز رأسها متعبة، وهي تمسح وجهها الشاحب ببطء.
“أنا لا أكرهك يا إيزابيلا.”
لقد شعرت بالفعل بعقدة الذنب التي تثقل قلب إيزابيلا تجاهها.
فتاة بريئة لا تعرف دهاء الدنيا. تلك كانت روميا بيرلوس، بكل وضوح.
وهذا بالضبط ما كرهته إيزابيلا فيها: ذلك القدر من البراءة. فالبراءة والسذاجة ليس بينهما سوى شعرة، وما يُسمى بالبراءة ما هو إلا الغباء في ثوب حسن.
لقد صرتُ مدينة لها…
مع جسدها الملطخ بالدماء، ومع أنها كانت ضحيتها، قابلتها روميا بابتسامة مشرقة كاشفة عن أسنانها البيضاء. فابتلعت إيزابيلا مرارة في حلقها.
الحصول على قلوب الناس كان دومًا أمرًا يسيرًا. كان يكفي أن تهديهم نوادر الأشياء ذات القيمة، حتى يقفوا في صفك على الفور. وكلما أظهرت لهم مظاهر الرفاهية التي تحياها، ازداد عمق العلاقة.
علاقة مبنية على المصلحة البحتة. ومنذ طفولتها، عرفت إيزابيلا بالفطرة كيف تحسب الأمور، ما دامت ابنة أسرة نبيلة. لم تكن بحاجة إلى من يعلّمها، إذ إن معظم من اقتربوا منها لم يروها هي، بل رأوا أسرتها.
أما روميا أمامها، فمهما كرهها الناس، كانت لا تفقد سذاجتها الفطرية.
وربما كان ذلك لأنها من أسرة ثرية حديثة العهد. ومع ذلك، سلّمت إيزابيلا بالهزيمة أمام روميا.
روميا لم تكن صاحبة طبع جميل بقدر ما كانت ساذجة، لكنها جعلتها مدينة لها حقًا. وكان اعترافًا عسيرًا، لكن لا مفر من الإقرار به. فنهضت إيزابيلا بحذر.
العيون الخضراء الصافية التي تبعتها أخبرتها أن لا تقلق وأنها لن تؤذيها.
لم تُظهر روميا أي استياء أو تذمر، مما جرح كبرياء إيزابيلا بلا سبب.
“في هذه الحادثة… أنا من ينبغي أن أكون ممتنّة لك.”
“ها؟”
“أسرتنا لا تنسى مَن تُدان له بشيء. رد الجميل واجب مقدس عندنا.”
انعقدت ملامح وجه روميا الصغير متقارب القسمات، إذ لم تفهم.
“لكن لا تعيشي هكذا دومًا. ستتألمين بلا شك.”
وحين لم تبدُ عليها علامة الفهم، رفعت إيزابيلا يديها استسلامًا وتوجهت نحو الباب. قد يكون ذلك فضولًا لا داعي له، أو قلقًا زائدًا، لكنها رأت أن من حق روميا، وقد عانت بدلًا عنها، أن تسمع هذه النصيحة على الأقل.
“لا تنظري إلى شجرة لا يمكنك تسلّقها. قد تحلمين ما شئت، لكن إن داس الأمل عليك فسوف يجيء من بعده بؤس أعظم.”
لكن بقي التساؤل، هل يا ترى استوعبت تلك الفتاة مقصدها؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 20"