خلف سجن “إلفورديوم”، كانت روميا تشدّ بيديها على قبعتها خشية أن تطيرها الرياح، فلم تستطع أن تتركها. كانت أطراف تنّورتها البسيطة ترفرف بقوّة في الرياح الباردة، وكذلك خصلات شعرها البنيّ المتموّج الذي بدا كأنه شاحب من أثر الشمس، كالشَّعر الأشقر الباهت. السماء صافية، أمّا الرياح فكانت عاتية بلا رحمة.
“الطقس مجنون فعلًا.”
أمامها كانت تقف السيّدة “بيرلوس”، التي جاءت لتأخذها.
“أيّة معاناة هذه، بحق السماء؟ هل هذا عام شؤم علينا؟ إن حدث خلل في تجارة عائلتنا، فسيكون خطأك أنتِ يا روميا.”
أمّها، “فيوليت بيرلوس”، ضربت صدرها بقبضتها محاولة كبح غضبها. أمّا روميا، فرفعت زوايا فمها بابتسامة متكلّفة، ولم تكن مذنبة بشيء، لكن شعورًا بالذنب ظلّ يلوّن قلبها. حاولت ألّا تزيد نار غضب أمّها اشتعالًا، لكن محاولتها تبعثرت سدى.
“أعتذر يا أمي.”
“يكفي أن تعرفي خطأك. ألم أقل لكِ مرارًا إن تلك المعارف السطحية لا فائدة منها؟ أنسب ما يليق بكِ أن تجلسي وتمسكي القلم لترسمي على الورق الأبيض لا أكثر.”
“لكن…”
ولمّا بدت كأنها ستعترض بظلم، ضاقَت عينا فيوليت. وسرعان ما انصبّ غضبها، المتولّد من روميا، على الخادمة المسكينة:
“تحرّكي بسرعة! ألم أقل لك أن تحجزي العربة باكرًا؟ ما الذي تجيدينه أصلًا؟”
“أ.. أعذريني يا سيدتي.”
حين سمعت روميا أمّها توبّخ الخادمة بسببها، آثرت الصمت.
لكن، حتى لو عاد بها الزمن، ما كانت لتختار غير ما فعلت. كانت حياة إنسان على المحك. وأيًّا كان ذلك الإنسان، لرغبت روميا دومًا في إنقاذه.
بمجرّد أن استقرّت في العربة، انفجر من بين شفتي فيوليت سيل من الامتعاض:
“الجلوس في عربة كهذه سيجعل أردافنا أكثر غلظة بلا شك.”
راحت فيوليت تعبث في حقيبتها حتى أخرجت سيجارًا طويلًا ورفيعًا. كانت مدمنة على التدخين، بلا مراعاة للزمان أو المكان. سرعان ما ارتفع الدخان الكثيف متثاقلًا في الهواء.
بدأت روميا تسعل وتفرك عينيها المتهيّجتين، ثم أخرجت رأسها إلى النافذة.
“تِس.”
لم يفُتها نظرة أمّها الناقمة. شعرت روميا كأنها تجلس على شوك.
صحيح أنها بُرّئت بفضل عفو الملكة، لكنّها لطّخت سمعة آل بيرلوس، فلا عجب أن أمّها لم تَرَها بعين الرضا.
وسط هذا التوبيخ والتأنيب المتواصل، حاولت روميا أن تُخمِد حزنها.
“لماذا هذا البطء؟ أما تعلم أن لي موعد غداء مع السيّدة أنداروف اليوم؟”
لم ينقطع صراخ فيوليت وهي تزيح الستارة وتحثّ السائق بنبرة نفاد صبر. اضطُرّت روميا أن تبقى متحفّزة داخل العربة الضيّقة.
“أعتذر يا سيدتي. الازدحام شديد اليوم، لذلك لا أستطيع أن أسرع.”
أجاب السائق بابتسامة عريضة رغم نبرات اللوم.
“أتعلمان ما اليوم؟”
عندها، لان وجه فيوليت قليلًا، ونفخت ساخرًا:
“هُمف. وكيف لا أعرف؟”
لم تكن روميا قد سمعت أخبارًا من خارج السجن. وبالنظر إلى الحشود التي تملأ الشوارع، سألت بحذر:
“ما الذي يجري اليوم؟”
“لقد رحلت جلالتها.”
“ماذا؟!”
“لماذا تتفاجئين؟ يا روميا، أنتِ تعلمين حالتها الصحيّة المتدهورة. بسببه اضطررتِ أن تعيشي حياة السجن التي لم تكن من نصيبك.”
قالت فيوليت بلهجة لاذعة للابنتها المتفاجئة.
“لحسن حظّك أنها غفرت ذنبك قبل أن ترحل. إياكِ أن تكرّري حماقة مدّ اليد إلى جسد العائلة المالكة مرة أخرى! أبدًا! هل فهمتِ، روميا؟”
كرّرت تهديدها بصرامة أكثر من مرّة.
لكن وقع الخبر طغى على التحذير. شعرت روميا أن رأسها صار صفحة بيضاء. الملكة التي أنقذتها بيديها… قد فارقت الحياة.
“لقد ماتت إذًا.”
عضّت على شفتيها، ونظرت إلى أمّها التي كانت تقضم أظافرها متململة وقد أنهت سيجارها، غير مبالية على ما يبدو.
ثمانون عامًا قضتها الملكة في حكم إمبراطورية كاتاس، والآن غابت.
كل هؤلاء الناس اجتمعوا ليشيّعوا رحيلها.
أشاحت روميا بوجهها كي تخفي دموعها المتأجّجة. لم يكن احتراق عينيها إلا انعكاسًا لشعورها الساحق بالعجز والذنب، لأنها لم تتمكّن في النهاية من إنقاذها.
كان الذنب يقبض عليها بلا رحمة.
“أفراد العائلة المالكة دائمًا يبالغون. حتى جنازتهم يجب أن تكون مهيبة.”
كان صوت أمّها باردًا كالصقيع.
ضغطت روميا صدرها المرتجف، خائفة أن يُفضَح أمرها. رفعت عينيها إلى الموكب الملكي الطويل الممتد بلا نهاية.
“بما أن وليّ العهد صار ملكًا، فلابد لعائلتنا أن تلتف إليه.”
واصلت أمّها التفكير بصوت عالٍ، تخطّط وتدبّر.
لكن روميا لم تُعرها اهتمامًا، وألصقت جسدها بالنافذة.
وفجأة، شدّ نظرها فارس في مقدّمة الموكب.
كان ذا شعر حالك السواد، كأنه صِيغ من محض ظلمة الليل، وبشرته ناصعة البياض تلمع تحت الشمس. شفاهه المغلقة تشي بعنادٍ صلب، وعيناه الفارغتان تفيض باللاشيء. لم يكن فيه سوى سواد كثيف، لكن أشعة الشمس أضاءته كأنه إله.
تسمّرت روميا، وفغر فمها مأخوذة.
الخبر الذي أدمى قلبها قبل لحظات، تلاشى أثره تمامًا أمام لمحة واحدة من هذا الرجل البعيد. كان يحمل كل ما تمنّت أن تمتلكه يومًا.
“جهاردي كاتاس.” وليّ عهد الإمبراطورية، والملك القادم.
ولقد التقت به منذ زمن بعيد…
—
“أما زلتِ تتسكّعين ببطء هكذا؟”
“آسفة. قلت إنني سآتي باكرًا لكنني تأخّرت.”
“دائمًا هكذا…”
رمقَتها الخادمة العجوز بنظرة حادّة لائمة. حاولت روميا أن تخفّف الموقف بابتسامة متردّدة، لكن عيني العجوز ظلّتا قاسيتين.
أحسّت روميا بالظلم.
“سمعتِ أن الآنسة بروسي تنتظرك؟ لو تأخّرتِ قليلًا أكثر لكان ذلك إهانة فادحة. ابقي هنا، سأُسلّمها القبعة.”
قالت الخادمة بنبرة اتّهام وكأن روميا هي أصل المصيبة، ثم ابتعدت بخطوات مسرعة.
تنفّست روميا بارتياح حين انصرف نظرها الخانق. مع أن هذه النظرات مألوفة، لكنها اليوم شعرت أنها تخنقها أكثر من أي وقت.
نظرت إلى ساعتها:
“ما زال نصف ساعة على الثانية عشرة.”
تمتمت بصوت متهدّج، لا يسمعه أحد. راحت تحفر التراب بطرف حذائها، تتذكّر كيف وقفت عاجزة أمام الخادمة، لا تقول شيئًا.
رسالة الآنسة بروسي كانت واضحة: أحضري القبعة بين الحادية عشرة والثانية عشرة. لكن من ردّ فعل الخادمة، بدا أنها فشلت مرّة أخرى في التوقيت.
“لكن أي ساعة قصدت؟ الحادية عشرة بالضبط أم ما بينهما؟”
في المرّة الأولى جاءت قبل عشر دقائق، ومع ذلك تلقت اللوم. في الثانية، جاءت قبل عشرين دقيقة، فأخذت الخادمة القبعة وتجاهلتها. اليوم، حضرت قبل ثلاثين دقيقة، لكن ما زال يُعَدّ تأخيرًا!
لغة النبلاء الملتوية كانت عصيّة على فهمها مهما حاولت.
هكذا ستلتصق بها تهمة “المتأخّرة دومًا”. حسنًا أن الآنسة بروسي لم تُعلّق على ذلك أبدًا.
“المرة القادمة سأحضر بالضبط في الحادية عشرة.”
جدّدت عزمها بعد هذه الإخفاقات، لكنها عادت تشعر بالكآبة. إن صحّ كلام الخادمة، فهي قد تأخّرت ثلاث مرات، وقد لا تعهد إليها بروسي بعد الآن بخياطة القبعات.
شاردة، أخذت تتفحّص المكان.
كان قصر “بيريدروز” يملك سحرًا خاصًا، يثير الدهشة في كل زيارة. سمّوه “القصر الأزرق”، وكان يذكّرها دومًا بموجات البحر الزرقاء مثل شعر الآنسة بروسي.
نافورة تتدفّق مياهها، حديقة منسّقة بألوان زاهية، طيور الطاووس التي يربّيها الكونت. ظلّت مأخوذة بتلك المناظر حتى لم تلحظ عودة الخادمة.
“الآنسة بيرلوس؟”
“آه!”
لم تنتبه إلا عندما لمست الخادمة كتفها. قدّمت لها حزمة نقود كمكافأة.
“الآنسة أعجبت بها هذه المرّة أيضًا.”
“أخبريها أنني شاكرة.”
“ويبدو أنها ستوكل إليكِ الأمر مرة أخرى. لكن أرجوك، لا تتأخّري كما اليوم. أنتِ تعلمين أنها تغاضت عن تأخّرك مرارًا.”
التفتت الخادمة قائلة ذلك، وروميا تحكّ خدّها بحرج.
“نعم، سأبذل جهدي المرة القادمة.”
‘ممتنة أنها أعجبت بها على الأقل.’
واستمدّت عزاءها من ذلك. أن يرى أحدهم تصميمها جميلًا كان مكافأة ثمينة.
لكنها حزنت من ردّها الأحمق قبل قليل.
“غبيّة يا روميا!”
شدّت شعرها المضفر بضيق. لم تصدّق أنها وعدت الخادمة شخصيًا بالالتزام. ليست الآنسة بروسي نفسها بل خادمتها! ومع ذلك لم تفعل سوى الإيماء والابتسام بغباء.
أن تقول “سأفعل” بهذه السذاجة؟ كانت تشعر أنها ستدفن نفسها تحت الأغطية وتضرب قدميها غضبًا حتى تفرغ.
بعد طول عذاب، بدأت تمشي ببطء. وهذا بالضبط ما جعلها تحبّ مهمّات بروسي بيريدروز.
لأنها… كانت مُعجبة بها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 1"