غمر شعورٌ من الانزعاج مجهول الاسم جسدَه كلّه. غطس جهاردي في حوض الاستحمام المليء حتى حافته، ثم ارتشف من كأس النبيذ الذي صبّه له الخادم. ولدى رؤيته وريقات الورد المتناثرة هنا وهناك على سطح الماء، تبادر إلى ذهنه – بشكل غريب – الوردة البيضاء التي جلبتها روميا.
تلك الوردة الناصعة، القادرة على أن تتلون بأي لون كان.
كلّما نظر إليها، اجتاحه حافز قوي ليكسوها بنفسه لونًا آخر. وأثار فضوله إن كانت تلك الأعين الخضراء الثابتة ستبقى كما هي حتى بعد أن يصبغها بلون عكر قاتم.
لم يكن سوى خاطرٍ عابر، إحساس قصير المدى لم يولِه شيء من الاهتمام، ولم يُبدِه علنًا. غير أنّها – تلك الفتاة التافهة – كانت جريئة بما يكفي لأن تجعله يغرق في تفكير جاد.
فقد كان غريبًا حقًا أن هناك من يحدّق فيه وكأنه يقرأ مكنون قلبه المظلم الذي لم يستطع أحد ممن جاوره لعشرين عامًا أن يلمحه.
في البداية استوقفته ملامحها الشفافة حتى حدّ الإحراج، وبعد ذلك بات من المضحك كيف أنها تنظر إليه بشغف طفولي لتكتشف عبره شيئًا ما.
لقد اعتاد على النساء اللواتي يتطلعن إلى مكانته وسلطته، غير أنهن لم يجرؤن قط على كشف دواخله كما فعلت روميا.
وهكذا، فإن روميا بيرلوس حقًا غبية. كان يتساءل متى ستكشف أخيرًا عن وجهها الحقيقي أمامه. غير أن ذلك الأمل تحطّم كليًا منذ اليوم الذي جاءت فيه ممسكة بوردة بيضاء.
سؤالها المتناقض: “ألستَ حزينًا؟” وهي على يقين أنه غير حزين، كان كافيًا لإرباك جهاردي الذي لم تهزه أي أمور أخرى.
لم يسبق له أن كشف عن مشاعره الحقيقية بسبب القناع الذي ارتداه طويلًا، لكن روميا وحدها أحدثت ضوضاء في حياته الرتيبة المتكررة.
حتى الآن، ما زال يفكر في تلك الفتاة.
—
بعد عودتها من البحيرة، عاشت روميا أيامًا كئيبة. لكنها سرعان ما تحسّنت حين وصلتها رسالتان من السيدة ميراج.
إحداهما كانت من فيوليت، تخبرها بأنها ستأتي إلى العاصمة قبل أيام قليلة من حدث ظهورها الأول. أما الأخرى فكانت جوابًا من السيدة ريتشيتو.
تسألها بتفصيل إن كانت بخير، وإن كانت قد اعتادت على حياتها الجديدة، وتبدي قلقًا حانيًا عليها. ارتسمت ابتسامة على شفتي روميا بينما تقرأ تلك الكلمات الدافئة.
“روميا، يكفي هذا. اذهبي.”
ارتعدت روميا فجأة مثل طفلة ضُبطت وهي تسرق الحلوى، حين سمعت صوت إيزابيلا بينما كانت منهمكة في قراءة الرسائل. فقفزت واقفة.
طالما عاملنها إيزابيلا وصديقاتها بعداءٍ وازدراء، لكنها مع ذلك كانت تخضع لهن وتتصرف كأنها مجرد خادمة. كان ذلك يُزعجهن. صحيح أنها ولدت من عامة الشعب، لكن كان عليها أن تدرك أن سلوكها المتدني يلطّخ سمعة هيرين.
نقرت إيزابيلا بلسانها باستياء. لم تكن روميا بطيئة الحركة، لكنها لم تكن سريعة أيضًا. كان في تصرفاتها دومًا شيء من البطء، ومن الغرابة، ومن التكلّف غير الطبيعي.
وهذا ما كان يثير ضيق إيزابيلا دائمًا، فخاطبتها بلهجة جافة.
انحنت روميا برأسها موافقة، إذ لم تنتبه إلى تلك التفاصيل الصغيرة لانشغالها بمراقبة الآخرين.
“سأكون أكثر حذرًا.”
“وهل تتغيرين بين ليلة وضحاها؟ يكفي. اذهبي واستريحي قليلًا. الليدي ذهبت إلى نادي الثقافة، ولن تعود قبل مدة.”
كانت قد رأت ليندزي وهي تحمل حقيبة هيرين، فلا بد أنها كانت تستعد للخروج.
أدارت إيزابيلا ظهرها بسرعة وغادرت بعد أن أنهت كلامها.
أما روميا، وقد بقيت وحيدة، أخذت تفكر مليًا في النصيحة التي لم تتوقع قط أن تسمعها من إيزابيلا التي كانت تعتقد أنها تكرهها كليًا.
—
أما جهاردي فكان يمضي قدمًا بنجاح. كان شعب كاتاس ينظر إليه كملكٍ شابٍّ واعد بكل إعجاب. مجرد كونه ينجز تلك الجداول المرهقة دون خلل، أكسبه ثقة عظيمة من شعب الإمبراطورية.
وقد تغيّرت الطوابع البريدية الرسمية في كاتاس لتصبح بصورته. وصارت أحاديثه وعاداته الشخصية موضع اهتمام الناس.
لقد باتوا أخيرًا مستعدين للانفصال عن ظل الملكة الخالدة أوليفيا، واستقبال سيّد جديد بحق.
“ليت الأمر يتم قبل أكتوبر.”
“عادةً ما تستغرق التحضيرات للتتويج ثمانية أشهر، مولاي…”
لم يمضِ سوى شهرين على جنازة الملكة، ورغم أن التحضيرات للتتويج تسير بسرعة فائقة، إلا أن الوقت لا يزال يضيق. تنهد فانيسا سرًا، مدركًا ما كان ينتظر موظفيه من ضغطٍ خانق.
أصرّ جهاردي على تقليص المدة. لم يحدث أن جرى تتويج ملك في غضون شهرين فقط، لكن بالنسبة إليه كان الأهم هو حذف الطقوس غير الضرورية وتسريع العملية لتثبيت استقرار كاتاس.
ذلك الاضطراب، ذلك الغموض المرهق الناجم عن الوقوف على حدود ضبابية، جعله مصممًا على إزالة كل ما يثير نفوره في أسرع وقت.
وبينما كان يراقب فانيسا وهو يغادر، تذكّر روميا من جديد. جميع من يواجهونه كانوا يرتجفون ويهابونه، وذلك طبيعي. وقد قرأ فيهم دومًا خوفًا مشوبًا بإجلال.
“لكن لماذا، روميا بيرلوس؟”
قطّب جبينه. مهما فكّر لم يستطع فهم حقيقتها.
كانت ترتجف كغيرها خوفًا، ثم فجأة تتلألأ عيناها بالإعجاب. ذلك التناقض بين الرهبة والتوق هو ما يراه في الجميع، غير أن روميا أظهرت شيئًا مختلفًا.
“شكّ.”
نظراتها الزمردية كانت مزعجة، وكأنها ترى من خلف القناع المتقن وجهه الحقيقي.
وكلما استشعرها، اجتاحه تعب شديد. شعر أنه سيكره الأخضر والبني معًا حتى يعثر على الجواب.
خرج فانيسا، وأخذ جهاردي جولة قصيرة. لمح أوراق الخريف المتساقطة على الأرض، بعضها لا يزال أخضرًا. دسّ بقدمه إحداها بلا رحمة حتى يخفي اللون الأخضر تحت حذائه. شعر بالراحة أخيرًا.
تنفّس بعمق، ثم رفع رأسه. لكنّ عينيه القاسيتين لم تهدأ حدّتهما. ما زاد حِدّته تلك العيون البنية التي وقعت عليها عيناه فجأة.
توجه جهاردي إلى الحديقة الصغيرة المزروعة بأزهار التوليب التي أحبّتها أوليفيا في حياتها. كانت تلك البقعة متاحة للجميع: له، لهيرين، ولأي أحد في القصر.
وهناك، عند شجرة غرستها أوليفيا بيدها في يوم الشجرة العالمي، كانت روميا تغطّ في نوم عميق متكئة على جذعها.
حتى لو كانت في مكان بعيد عن أنظار الناس، كيف لها أن تكون بهذه الغفلة؟
“تشه….” تمتم وهو ينقر بلسانه.
كان رأسها مائلًا يكاد يسقط، وعلى ركبتيها بطانية دافئة. فوقها دُفتر صغير وقلم رصاص مصقول، كأنها غفت فجأة أثناء الرسم.
أزاح جهاردي يدها قليلًا وحدّق في الدفتر. كان رسمًا لقبعة.
“ترسمين كل يوم إذن.”
كان في الصفحات التالية آثار رسومات متكررة. نامت والطلاء الأسود على يديها. نظر جهاردي إلى يديها المتسختين، وشعر فجأة بعطش غريب.
ماذا لو انتزع منها القلم وأعطاها شيئًا آخر تمسك به؟
لو أن تلك الأصابع البيضاء النحيلة لم يلطخها السواد…
انسابت أفكاره، فانتقل نظره إلى شفتيها نصف المفتوحتين. في البداية رآها نائمة بفمٍ مفتوح، فازدرى المشهد وسخر منه.
لا يعجبه شيء فيها: لا غفلتها التي تجعلها تنام في أي مكان، ولا لا مبالاتها غير اللائقة، ولا عفويتها، ولا نومها بفمٍ مفتوح. كلها عيوب ونقائص.
لكن…
تلك الشفتان نصف المفتوحتين بالكاد تسعان إصبعًا.
جثا على ركبته إلى جوارها، يحدّق بها. وفجأة انتفض واقفًا وقد راوده خاطر شرير.
لو أنه ملأ تلك الفتحة الضيقة تمامًا بشيء ما…
“جنون.”
تلاشى صوته في الفراغ، لم يسمعه أحد غير روميا النائمة.
لم يظن أبدًا أن أول مشاعره الصادقة التي تطفو على السطح ستكون شبيهة بالغضب. غضبٌ خام، عنيف، بلا تزييف.
لم تكن مجرد فرضية، بل اندفاع يسيطر على جسده كله. في تلك اللحظة، أدرك جهاردي أن الجواب الذي بحث عنه طويلًا كان أمامه.
لماذا كانت هذه الفتاة الريفية التافهة تستحوذ على تفكيره ولا تفارقه؟
لأنها، ببساطة، قد لمحَت.
الوجه الحقيقي المختبئ وراء قناعه المحكم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 15"