في بيريدروز كانت الجبال والأنهار مبثوثة في كل مكان. ورغم أن الحذاء ذي الكعب كان غير مريح قليلًا، إلا أنّ هذا القدر من الانحدار لم يكن يعني شيئًا لروميا.
بل إنّ ما كان يرهقها فعلًا هو وجود جهاردي.
تلك النظرات الثابتة إليها، وكأنها عارية أمامه، جعلها تخجل وتشعر بالمهانة. لكن ما كان أصعب من تحمّله هو تلك النظرات الباردة التي تُلقي عليها أفكارًا مبهمة في قلبها.
“أنتِ.”
“نعم؟”
بعد أن تفحّص السلة التي قدّمتها له روميا، سلّمها جهاردي إلى معاونه القريب.
“سألتك، هل أكلتِ؟”
ثم تناول البندقية التي كان قد وضعها، وصوّب نحو الهدف. المسافة بدت بعيدة، لكن ما لبث صوت الطلقة أن دوّى والرصاصة أصابت قلب الهدف بدقة.
“آآاه!”
ارتعدت روميا، فقد كان صوت الطلق قويًا من هذا القرب.
“إصابة مباشرة، سمو الأمير.”
قالها المعاون وهو يصفق مبتهجًا، رغم أن الذي أصاب الهدف هو جهاردي، بدا أن المتفرجين من حوله أكثر حماسة وفرحًا.
كان غريبًا كيف لم يطرف له جفن رغم ذلك الصوت القاتل للأذن. أما روميا، وقد رأت هذا المشهد للمرة الأولى، فقد كبحت صرخة تكاد تفلت منها وأمسكت أذنيها المتنملتين.
“يجب أن تجيبي، روميا بيرلوس. سألتك هل أكلتِ.”
لم تفهم لماذا فجأة يهتم بوجبتها. فنظرت إليه بقلق.
“أنا… لم آكل بعد…”
“هل تريدين أن تجربي الرمي؟”
ولما ترددت وأخفضت صوتها، ناولها البندقية مباشرة. كانت أكبر وأثقل بكثير من ذراعيها النحيلتين.
“لم يسبق لي أن أطلقت النار من سلاح… لم ألمسه حتى… أنا لا أجيد التعامل معه.”
عندما رأت البندقية أمامها شحب وجهها وهزت رأسها بسرعة، فأخذها جهاردي ثانية بلا كلمة.
“أتظنين أنه خطر؟”
أجابته وهي تلتقط أنفاسها وقد ألقى نظرة خاطفة نحوها بينما يعاود التصويب:
“لا يوجد شيء أخطر من بندقية بين يدي من لا يعرف كيف يستخدمها.”
ظنّت أن الطلقة ستدوّي فورًا، لكن مرت لحظات من الصمت. رفعت رأسها فإذا به يحدّق بها مباشرة.
“لِماذا… تنظر إليّ هكذا؟”
“لأنك، منذ المرة السابقة، لا تقولين سوى الصواب.”
قطّب حاجبيه قليلًا ثم أمر معاونه ببضع كلمات، فبدأ المحيطون به يتباعدون تاركين مساحة خالية.
وما إن خلى المكان حتى دوّت ثلاث طلقات متتالية.
أذنا روميا القريبة من مصدر الصوت كادت تنفجر من شدتها. وضعت يديها سريعًا على أذنيها، لكن بلا جدوى.
بعد أن فرغ مخزن البندقية، وضع جهاردي السلاح جانبًا وشرع يغيّر المخزن. تجاهل روميا تمامًا وهو يتفقد الذخيرة. ولأنها عرفت بالتجربة أن ذلك التجاهل هو نوع من الازدراء، كتمت الغصة التي كادت تفيض.
كان اليوم هو الموعد الذي تلقت فيه، باسم “روميا بيرلوس”، دعوة لحضور حفل خيري تقيمه السيدة نوبريدج. ومع ذلك، في كل مرة كانت رصاصاته تصيب الهدف، شعرت كأن قلبها نفسه يُمزَّق.
رصاصة وراء رصاصة، كل إصابة للهدف كانت تمزق روحها. وقفت عاجزة، فشعرت بالبؤس على حالها.
لم تصبر أخيرًا، ففتحت فمها وسألت:
“لِماذا تكرهني إلى هذا الحد؟”
التقت عيناهما، وبدا كما لو أنه استغرب السؤال. لكن روميا اعتقدت أن لديها حِسًا صادقًا. فهي اعتادت منذ صغرها على السخرية من مكانة عائلتها الثرية حديثا، فأصبحت حساسة جدًا تجاه العداء.
لم يكن الحكم مبنيًا على ملاحظته الأولى لها في بيريدروز فقط، بل لأنه غالبًا ما نظر إليها بوجه متضايق، متبرّم، وكأن في نظره نفورًا مكتومًا.
سواء حين يثقلها بصمته، أو حين يقيّدها بأساليبه الخفية، كان ذلك أشد من قسوة مضايقات بنات النبلاء.
امتلأت عيناها بالدمع من غصّة تراكمت. وما إن نطقت حتى ازدادت مرارة وحزنًا. رفعت نظرها إليه بعينين دامعتين.
“إنك تبدين فعلًا مثل فتاتٍ لا قيمة له.”
قالها بصوت منخفض، وقد تصلّب وجهه قليلًا.
“فتاتٌ أود أن أحطمه، لكن لا شيء فيه يُحطم أصلًا.”
كانت عباراته غامضة، فارتجف وجهها وكادت تبكي، لكنها تماسكت وأجبرت عينيها على حبس الدموع.
“ألم تعجبك القبّعَة التي اشتريتها المرة الماضية؟”
“لا، بل من أهديته إياها سرّ بها أيّما سرور.”
فإن لم يكن ذلك، فلماذا إذن؟ إن كان مجرد استياء من قبعتها لكان الأمر هينًا. لكن إن لم يكن هذا، فما السبب الذي يجعلها تتحمل كل هذا؟ عند هذا الخاطر، كرهته فجأة.
“أم لأنني لمستُ جسد الملكة الراحلة دون إذن، وتعتبرني آثمة لذلك؟”
“الحكم صدر وانتهى. أنتِ بُرّئتِ يا روميا بيرلوس. بل أنقذتِ حياتها بتصرفك السريع.”
“إذن لماذا، إذن، تكرهني يا سمو الأمير؟”
عضّت شفتها السفلى وهي تحدجه بنظرة حادة. رد بابتسامة ساخرة، وكأن استغرابه أكبر من غيظه.
كان منظرها مثيرًا للسخرية: عيناها دامعتان لكنها تحاول أن تبدو قوية، مثل قطة ترفع فروها لتبدو مهيبة، بينما بدت في الحقيقة كجروٍ منبوذ يتوسل.
خلع قفازيه ونظر إليها مليًا.
تذكر كيف أن أزرارها التي كانت تنفلت في أول لقاء، أصبحت دائمًا مرتبة ومضبوطة في مكانها. لم تعد مهملة، ولا معلقة على وشك السقوط.
انتقل بصره إلى شعرها. حين رآها في محل القبعات كان شعرها متطايرًا متموّجًا، أما الآن فكان مرفوعًا بإحكام. أخيرًا، بدأت تبدو كفتاة راقية.
ابتسم ببرود، وكان عنقها الأبيض مكشوفًا تمامًا. أزعجه الظلّ الذي غطّى بشرتها.
“آه!”
صرخت بخوف حين جذب قبعَتها فجأة إلى الخلف. ومع انكشاف عنقها الأبيض، بدا أجمل. أعجبه المشهد.
انزلق نظره ببطء إلى عظام ترقوتها، ثم توقّف. تذكّر أن موقفًا مشابهًا حدث سابقًا، لكنه أجّل فضوله.
دموعها التي كانت متجمعة قد جفّت، والآن لم يبقَ في عينيها سوى الخوف. وكأنّه وحش يستعد لالتهامها.
ابتسم ساخرًا وهو يحدق في عينيها الخضراء العميقة. أخيرًا أجاب:
“من يدري… لماذا؟”
امتلأت عيناها بالحذر. لم يفعل سوى إمالة قبعتها، لكنها تراجعت كأنها ستُسقط أرضًا. فقهقه بخفوت.
“لا تبدين كمن يصدق إذا قلت إنني لا أكرهك.”
عضّت شفتها وقالت:
“…لأنك عذبتني طوال الوقت. وإن كنتُ قد أسأت الظن… فأرجو أن تسامحني يا سمو الأمير.”
تنبهت فجأة إلى ما قالت، فغمرها الذعر. كان وجهها شاحبًا لكن مليئًا بعدم الثقة.
“لستُ فارغًا حتى أضيع وقتي في مضايقة وصيفة خطيبتي، يا بيرلوس.”
“زلة لسان… أعذرني.”
فأطرقت رأسها أكثر، وهي تشعر بالخيبة. الآن أيقنت أنها سقطت من عينه.
قال ببرود:
“ظننتك تجيدين إدراك الأمور، كما أدركتِ أنني لست حزينًا. لكن خاب ظني.”
خلال إقامتها في القصر، لم تسمع عن ولي العهد جيهاردي سوى أنه حاكم رحيم كريم. كانت تود أن تهزّ من يصفه هكذا وتصرخ بوجهه: هل حقًا هذا المتكبر القاسي هو ذاك الحاكم الرحيم؟
الآن فهمت. نعم، هذا هو السبب.
أغمضت عينيها بعنف. كل ما فكرت به: “لقد انتهيت.” أصبح واضحًا سبب كراهيته لها.
“ومع ذلك، لستُ أقول إنك مخطئة كليًا.”
مرّ بصره البارد عليها مجددًا.
“وربما أيضًا ما أقوله الآن… كذب.”
كان يقف بعيدًا، كأنه يتفرج من علوٍ على العاصفة التي جرّها إليها، تاركًا إياها وحدها في مهبّها.
فشعرت بالقشعريرة. تلك الرهبة الأولى التي أحاطتها به قد تحطمت منذ زمن بعيد.
فهمت أخيرًا: لقد تجرأت وكشفت مشاعره الحقيقية، تلك التي لم يرها أحد. أمر لا يُغتفر.
في يأسها عضّت لسانها. وإذا به يقترب بجرأة، حتى بدا وكأنه سيؤذيها.
“أنا معكِ…”
اقترب حتى غمرتها رائحته.
“فماذا عساي أن أفعل بكِ؟”
كان صوته العميق العذب يهزّ عقلها.
اقتربت يده من وجهها، ثم فكّ عقدة شريط القبعة.
سقطت على الأرض مثل الأزرار التي تناثرت من قبل. لم تنظر إليها حتى.
لأن يده حين لامست عنقها كانت ساخنة، وحين انسابت مع الشريط إلى الأسفل شعرت بقشعريرة، رغم أنه بدا في غاية الحذر.
حبست دموعها. فقد صار حتى هذا الأثر جزءًا من بصماته عليها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 14"