اتكأت هيرين بوجهها على كفها، وهي تحدّق إلى الخارج من النافذة. لم يكن يُرى نملٌ واحد في الحديقة أمام جناح الزنابق حيث تقيم.
لقد مضى وقت طويل منذ أن أرسلتها في مهمّة…
حين تمتمت هيرين بأنه على ما يبدو أن حديث جهاردي مع آل ديفرفيلد قد طال كثيراً، التصقت بجانبها نظرات إيزابيلا المليئة بالقلق.
“آنستي، إبقاء تلك الفتاة قرب سموّه أمر خطر.”
ما إن خرجت نصيحة إيزابيلا الصادقة، حتى بدأ وصيفات أخريات يساندنها بلا تردّد.
“صحيح، الأفضل إبعادها بعيداً، إلى مكان آخر تماماً.”
“أن تعمل ابنة بارونٍ ريفيّة كوصيفة في القصر الملكي… هذا بحد ذاته غير معقول!”
الوصيفات اللواتي لم يُعجبن بروميا من قبل، وحّدن أصواتهن.
“لا تبالغن، إنها وصيّة المغفور لها جلالة الملكة الراحلة، ألا تذكرن؟”
حاولت هيرين تهدئتهن برفق، لكن الحماسة التي اشتعلت لم تهدأ بسهولة.
“لا! روميا خطيرة.”
هزّت إيزابيلا رأسها بحزم.
أن تبلغ بها الانفعالات هذا الحد… لقد أوقفت هيرين تفكيرها عند هيئة إيزابيلا المتحمّسة تلك. كانت تعلم جيداً ما الذي يُخيفهن ويُقلقهن إلى درجة رفع أصواتهن.
لأن روميا كانت جميلة.
حتى بالمقارنة مع نفسها التي حظيت بالعناية طيلة حياتها، فإن روميا كانت تملك وجهاً جميلاً. شعرها البني المموّج وبشرتها البيضاء كانا يبرزان بشكل لافت. وعيناها الخضراوتان اللتان توحّدان الملامح بانسجام، كانتا صافيتين إلى حدّ يُذكّر بنسيم الأعشاب النديّة في الصيف.
وإن لم تكن قد ظهرت بعد في المجتمع الراقي، فمن الواضح أنه ما إن تظهر رسميّاً، سيتسابق الرجال نحوها.
هي لا تدري، لكنها مهما أخفت جمالها تحت قبعتها القديمة البالية يومياً، فلن ينطفئ.
وحين أنهت هيرين خواطرها ورفعت رأسها، كانت الوصيفات ما زلن يثرثرن حول روميا، مُلقين بأبشع الأوصاف عليها، وقد علقت الضغينة في قلوبهن بعمق، ولا سيما حول إيزابيلا.
كنّ يتنازعن فيما بينهن: “أرسلوها إلى ذاك المكان”، “بل إلى هذا المكان”… حتى بدا الأمر أشبه بضجّة. فأدارت هيرين رأسها متظاهرة بعدم الاهتمام بحديثهن.
‘هل تدرك تلك الفتاة؟’
أن كل هذا العداء بدأ فقط بعد أن عادت من مهمة أوكلتها إليها هيرين، نحو ولي العهد.
لقد مرّ أكثر من عشرين عاماً على خطوبتها بجهاردي. علاقة رُتّبت حتى قبل أن يُولدا، عاشت عمرها وهي تستعدّ لتكون ملكة. زوجة ولي العهد، لا زوجة جهاردي وحسب.
في السادسة عشرة، وبعد دخولها مجتمع السيدات، أُحضرت إلى القصر بحجّة دروس العروس. عشر سنوات كاملة قضتها تتعلّم آداب البلاط الملكي وقوانين السلالة الملكيّة. كان زمناً من السعي الدائم لاتخاذ القرارات الحكيمة، ولتصبح ملكة كاملة بلا نقص.
صحيح أن مرور عامٍ واحد فقط هو كل ما مضى منذ بدأت، وهي في القصر، بإرسال التحليات والحلويات لجهاردي، لكنها كانت راضية عن هذا الوضع الدافئ الطريف.
لقد كان رجلاً بالغ اللطف، فكلما أرسلت له شيئاً، عاد إليها في اليوم التالي بهدية صغيرة أو زهرة ردّاً منه.
لكن… الجواب الذي جلبته روميا مؤخراً كان مختلفاً تماماً عمّا اعتادت أن تستقبله من جهاردي.
“هل عدتِ؟”
“نعم، آنستي. آه…! قال إن شاي اليوم كان عابقاً على غير العادة، وأعجبه.”
“هم؟ مَن قال هذا؟”
“سموّ ولي العهد.”
“…”
في البداية، حين أجابت روميا بذلك الاحترام، ظنّت هيرين أن الأمر لا يعدو أن يكون كلمة عابرة.
‘مستحيل…’.
لكن سرعان ما هبط إلى صدرها شعور ثقيل ومعقّد. خليط بين القلق والارتباك، في نقطة وسطى غريبة جعلت قشعريرة تسري في عمودها الفقري.
“آنستي… سموّه…”
“نعم، ماذا عن سموّه؟”
“لم يتناول الشطيرة التي أرسلتِها.”
حينها فقط، أثارت انتباهها تلك العينان المتهدّجتان، التي هبطت للأسفل كأنها هي التي تتألم أكثر.
‘من تكونين أنتِ، لتتجرئي و تشفقي عليّ؟’
كادت الكلمات تخرج، لكنها ارتسمت بدلاً منها ابتسامة هادئة على محيّا هيرين، وقررت أن تُظهر سماحة على روميا الأكثر إحباطاً منها.
“قد يحدث. ربما لم يرغب بتناولها، أو لم تعجبه. لا تحزني كثيراً، روميا.”
فهي راشدة، وفي مقام السيدة النبيلة، وعليها واجب الرحمة والعفو. روميا مواطنة من كاتاس أيضاً، يجب أن تضمّها برعايتها.
لكن لا ضرورة أن تبقى هذه الحقيقة عندها وحدها. من الليدي ميريج إلى إيزابيلا، لم تترك هيرين وصيفة دون أن تهمس لها في أذنها:
“ولي العهد قال لرومايا إن الشاي كان عابقاً فأعجبه. في المرة المقبلة أجعلي العطر أقوى.”
“ويبدو أنه لم يتناول شطيرتي. حتى أن رومايا كانت حزينة.”
كانت تعرف تماماً أي مصير ستؤول إليه روميا من مجرد كلماتها هذه، لكنّها لم تتوقف. فمن عمل طويلاً في القصر الملكي يدرك طباع ولي العهد. والتغيير الذي جاءت به روميا لم يكن خافياً.
‘وكيف لا أنتظر بفضول؟ ما الجواب الذي ستجلبه المرة المقبلة؟’
ابتسامة هيرين نحو البوابة المقوّسة أخذت تبرد شيئاً فشيئاً.
لم تدع نفسها تنجرف وراء مخاوف الوصيفات. فهي ابنة فوتاميا، وخطيبة ولي العهد لا يمكن أن تتغير.
جهاردي بحاجة إليها. أهدافهما واحدة ومصالحهما مشتركة. رفيقا عمر، وشريكا حياة. كانت تعرف أنه لن يخونها أبداً.
فولي العهد رجل يشبهني تماماً.
ذلك الإيمان كان صلباً. ومع ذلك، لم تكن تستسيغ التغيير الذي جلبته روميا معه.
‘ما هذا الذي أفكّر فيه الآن؟’
رفعت هيرين ذراعها عن النافذة واقفة فجأة. فأطبقت الوصيفات أفواههن على الفور.
“آنستي؟”
وقفت إيزابيلا التي تحظى بمكانة خاصة لديها، فسارعت هيرين بابتسامة ونفت الأمر.
“آه، فقط شعرت بخدرٍ من الجلوس طويلاً بالوضع نفسه.”
ابتسمت مطمئنة، فتنهدن كلهن بارتياح.
كانت نظراتهن قلقة: لعلّ آنستهن انزعجت لأن روميا ذهبت إلى ولي العهد.
لكن هيرين تجاهلت ذلك، ونادت:
“لينزي، هلا جلبتِ لي صندوق المجوهرات؟ هذه الأقراط ثقيلة، أودّ أن أبدلها.”
“نعم، آنستي!”
وبينما هرولت لينزي، خلعت هيرين بيديها الرقيقتين أقراطاً ضخمة أنهكت أذنيها. وما إن تخلّت عنها حتى شعرت بخفة، وكأن ثِقَل الأفكار عن رأسها قد انزاح أيضاً.
إن كان ولي العهد يُبدي اهتماماً بروميا، فهو أمر عابر. كما في كل بيوت النبلاء. وحتى لو كانت صاحبة ذلك التغيير…
فما هي إلا بيلروس.
ابنة أسرة اشترت لقبها بالمال. حديثة النعمة. بيلروس صانعة القبعات. بيلروس المتعطّشة للتفاخر.
وما إن أنهت هذه الفكرة حتى غمرتها نشوة غريبة، وانقشعت عنها الهموم.
—
“كم انتظرتِ؟”
“لا بأس، يا سموّ الأمير.”
“لم أسألكِ إن كنتِ بخير.”
“…تجاوز الثلاثين دقيقة قليلاً.”
ما إن حظيت أخيراً بالإذن، بادرها ولي العهد بسؤال كم انتظرت. ارتبكت روميا، إذ لم تكن ترغب بالكلام معه خارج مهمّة آنستها، وأجابت على عجل. لكنه ابتسم بخفوت، وأجبرها أن تُصحّح جوابها بدقّة.
شعرت بحرارة الخجل تكسو وجهها، فسارعت تضع الوردة البيضاء من يدها.
“إنها هدية الليدي لك، يا مولاي، كي تعزّيك عن فقدان صديقك. أرجو أن تتقبّل مشاعر آنستي.”
حين وضعت الوردة التي بدأت تذبل في يدها، أحست روميا كما لو أنها تخلّصت من حمل ثقيل.
ثم تراجعت خطوتين إلى الوراء. رفع بصره إلى الوردة، يتأملها ببرود، بلا أي تعبير.
ساد صمت قصير. رفع جهاردي الوردة البيضاء المهيّأة بعناية، وقال:
“في كاتاس، حين يتبادل العاشقان مشاعرهم، يرسلان وردة. حسب الحالة والوجدان والموقف، بلونها المناسب.”
وأخيراً فهمت روميا لماذا كانت الوردة بالذات. أخذت تحدّق بالبيضاء وهي تفقه رمزها. كانت قد سمعت أن النبلاء يعبّرون بالزهور، لكن لم تعلم أن للوردة كل هذا المعنى.
“لون مناسب.”
ناول الوردة للخادم القريب. فبادر الأخير وأحضر مزهرية فارغة ووضعها فيها.
ثم التفت جهاردي إلى روميا، وقال ببرود:
“يمكنكِ الانصراف.”
أمر صريح بالطرد. انحنت في تحية، واستدارت. لكن قدماها لم تطاوعاها.
‘لماذا يلوح ذلك الوجه في ذهني الآن؟’
ذلك الوجه المرهق الضجر أمام ديفرفيلد. أرادت أن تتأكد، إذ أنكرت على نفسها هذا الشعور.
“سمعت أنه كان صديقك، الفقيد.”
عادة، كانت ستفرّ بعيداً دون أن تنظر خلفها. لكن اليوم، فجأة، اندفع منها شجاعة غريبة. وحين التفتت، وجدت جهاردي يحدّق فيها بوجهه الهادئ المعتاد.
جبهة مرتبة، فم مغلق بإحكام. لا يشبه أبداً هيرين التي بكَت حتى احمرّت عيناها.
خرج صوتها مرتجفاً:
“هل أنت حزين؟ كثيراً… حزين جداً؟”
كانت تريد أن تمحو كل علامات الاستفهام من رأسها. حتى لو كان سؤالاً متجاوزاً، عليها أن تسمع جوابه.
قرأ جهاردي في عينيها تصميمها. ومع أنه سؤال مفاجئ يستدعي الارتباك، ظلّ ثابتاً كبحر ساكن.
ثم حرك شفتيه:
“لأن موهبة من كاتاس لم يُتح لها أن تتألق، ورحلت صغيرة… أجل، أظن أنني حزين.”
“…”
“لقد كان أمراً ملكياً. ذهاب يوليان إلى حرب هارودن.”
“…”
“وعلى أحدهم أن يتحمّل المسؤولية.”
حتى بعد أن سمعت الجواب، لم يزُل الضيق عن صدرها. بل خارت قواها.
أين اختفت عاطفته؟ ألا يحزن حقاً لموت صديقه؟ بروده كان مخيفاً… لكنه لو تظاهر بالحزن الكامل لكان أشدّ التباساً عليها، هي التي اعتادت أن ترقب الآخرين من بعيد.
ذلك الجواب البارد أثار غيظها. وجه بلا حزن يتلو الكلمات الصحيحة… كان ظلماً.
وفجأة اجتاحها خوف أعمق: أي وجه يختبئ خلف قناع هذا الرجل؟
وانفلتت منها الكلمة:
“كاذب.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 12"