أدركت أناتيشا أن المرأة في اللوحة تشبه روميا إلى حدٍّ مدهش. فمنذ اللحظة الأولى التي رأت فيها تلك العيون الخضراء، استرعى انتباهها شعورٌ غريب، إحساسٌ بأنها قد رأتها في مكانٍ ما من قبل، ولم تستطع التخلص من ذلك الإحساس الغامض.

والآن فقط، بدأت تفهم السبب.

كانت تلك المرأة في اللوحة التي لمحتها مرارًا أثناء مرورها في شارع بيردلي، لو كانت ما تزال على قيد الحياة، لكانت بلا شك هي نفسها روميا.

ولو كانت تلك المرأة قد أنجبت طفلًا في حياتها، لكانت ابنتها روميا دون أدنى ريب.

وعندما سمعت أَناتيشا مصادفةً اسمًا مألوفًا في الحديث الذي دار عن شؤون عائلة أخرى، الاسم الذي كانت تفكر فيه منذ مدة، لم تستطع إلا أن تُصاب بالدهشة.

نظرت إلى روميا التي كانت تُقدّم لها الشاي، وعلى وجهها ملامح اعتذار عميق، فحبست الكلمات التي كانت ترغب في قولها.

آخر وريثة من عائلة بيرلوس التي تخلّت عن لقبها الملكي، تُتبنّى لاحقًا لتُمنَح لقبًا مُشترى بالمال، والآن يتكرر الاسم نفسه بيرلوس مجددًا! يا للمفارقة. لم تكن روميا تعلم أن اللقب الذي كانت تظنه مُكتسبًا هو في الأصل إرثها الشرعي، ومع ذلك تقدّمت بطلب لنبذ اللقب.

هدّأت أناتيشا قلبها المندهش، وتناولت كوب الشاي الذي أمامها.

“أفهم الآن.”

“نعم.”

لحسن الحظ، تدخّلت السيدة ريتشيتو في الوقت المناسب، فأجبرت ريك وفيوليت على المغادرة دون إثارة مزيد من الفوضى. لكن أَناتيشا كانت تتمنى في داخلها لو استطاعت الإمساك بهما لتطرح عليهما سيلاً من الأسئلة.

فقد يكون بينهما قرابة دمٍ بعيدة.

قالت روميا بصوتٍ خافت وهي تضع أمامها صندوق هدية صغيرًا:

“أردت أن أقدّم لكِ شيئًا بسيطًا تعويضًا عمّا حدث اليوم.”

كانت تلك القبعة التي لفتت انتباه أَناتيشا منذ دخولها. يا لحدة ملاحظتها. كادت أَناتيشا تبتسم بسخريةٍ لطيفة وهي تلمس الصندوق، ثم رفعت رأسها وسألت بنبرةٍ مترددة:

“أعلم أن هذا سؤالٌ شخصي، لكن… هل يمكنني أن أسأل شيئًا؟”

“تفضّلي.”

“لماذا لم تحاولي البحث عن والديكِ الحقيقيين؟”

لو كانت مكانها، لبحثت بجنون حتى تعثر على الحقيقة. لكن حسب ما فهمته من حديث روميا، فهي لم تفعل شيئًا قط، بل كأنها اختارت أن تُخفي السرّ الذي أدركته بشأن أصلها.

ربما لو كانت طفلة صغيرة لكان مفهومًا، لكنها كانت بالغة، قادرة تمامًا على البحث عن والديها.

لم تستطع أناتيشا فهم الأمر، فخرج صوتها حادًّا دون قصد. حينها رمشت روميا ببطء، ثم أطرقت برأسها. في نظرتها كان هناك حزنٌ عميق، مزيج من الوحدة والاستسلام، جعل أناتيشا تتوقف عن انتظار الإجابة وقد ارتبكت فجأة.

“إن كان سؤالي قد وضعكِ في موقفٍ محرج، فأنا أعتذر.”

“لا بأس.”

لكن صوتها الخافت الخالي من الروح لم يبدُ بخير أبدًا. ساد صمتٌ ثقيل، حتى إن أناتيشا نفسها لم تجد ما تقول.

ثم، وبعد لحظةٍ طويلة من السكون، فتحت روميا فمها أخيرًا وقالت بصوت منخفض:

“لأنني لم أُرِد أن أكون وحيدة في هذا العالم.”

اتسعت عينا أناتيشا بدهشة كبيرة. كان صوت روميا خافتًا لدرجة أنه يكاد يختفي بين أنغام صندوق الموسيقى الهادئة التي تملأ المكان، لكنه كان واضحًا تمامًا.

“لو لم يكن هناك سببٌ اضطرّهم للتخلي عني، ولو كان والداي الحقيقيان قد تخلّيا عني بإرادتهما، فهذا يعني أنني لست سوى طفلة منبوذة حقًا، وحيدة تمامًا.”

تخيّلت أناتيشا كم كان الألم الذي عانته روميا عظيما — ماضٍ قاسٍ، وتردّدٌ ربما لمئات المرات عند مفترق الطريق ذاته.

“كنتُ أفضل… ألّا أعرف. لو أمكن، إلى الأبد. حتى لو كان والداي الحقيقيان شخصين سيئين، لم أُرِد أن أصبح يتيمة.”

خفضت روميا بصرها نحو ركبتيها، وكأنها تخشى أن تلتقي عيناها بعيني أناتيشا. لم تستطع احتمال مدى هشاشتها وهي تتحدث عن نفسها بتلك الطريقة، فكرهت ضعفها في تلك اللحظة.

لكن في ذلك الوقت، لم يكن أمام تلك الطفلة خياراتٌ كثيرة. وحتى إن لم تستطع أناتيشا تفهّمها، فقد كانت روميا مصمّمة على حماية تلك الفتاة الصغيرة المجروحة التي كانتها يومًا.

حتى لو كان ريك وفيوليت حبل نجاة فاسد، فقد كانا بالنسبة لتلك الطفلة الوحيدة حبل النجاة الوحيد الذي امتلكته.

بصوت هادئ خالٍ من الانفعال، تابعَت روميا كلامها بنبرةٍ متماسكة تسير بانسجامٍ مع اللحن الكلاسيكي الدافئ الذي يملأ المكان.

“حتى لو لم يكونا أهلاً لأن يُسمَّيا والدين، فقد كانا بالنسبة للطفلة التي كنتُها… والديَّ الوحيدين.”

***

“ماما ستذهب الآن.”

قالت روميا وهي تلاعب يدي آرنيس الصغيرتين، اللتان كانتا تتحركان في حضن السيدة ريتشيتو، ثم ابتسمت ابتسامة مشرقة وهي تودعه. أمسكت السيدة ريتشيتو بيد آرنيس ولوّحت بها نيابة عنه.

“قُل عودي بسلام.” 

“كيا!” وكأنّ الصغير قد فهم ما قيل له، أخذ يلوّح بيده في الهواء وكأنه يردّ التحية. عند ذلك، انفجرت ضحكة روميا والسيدة ريتشيتو في الوقت نفسه.

يوماً بعد يوم، لم يخلُ البيت من الضجيج، ومع ذلك كانت حياتهما أكثر امتلاءً بالابتسامات بفضل وجود آرنيس وحده. أحست روميا فجأة بقيمة هذه اللحظة، واحمرّت وجنتاها وهي تعبّر للسيدة ريتشيتو عن امتنانها.

“أنا ممتنّة لكِ دائمًا، سيدتي.”

“ولِمَ تشكرينني؟ بل أنا من ينبغي أن يشكركِ لأنك لم تتخلّي عن حلمكِ رغم إنجابكِ لآرنيس.”

حملت السيدة ريتشيتو الطفل بمهارة بذراع واحدة، وبالذراع الأخرى التقطت رسالة من على الطاولة وقدّمتها إليها.

“أليست هذه هي الرسالة المقصودة؟”

“نعم، هي.”

“سمعت أنّ الحراسة هناك مشدّدة جدًّا، وأنكِ لن تتمكّني من الدخول دون هذه الدعوة. لا تضيّعيها.”

“نعم، لن أفعل.”

سعت روميا لتوسيع معرفتها الأكاديمية واكتساب مهارة احترافية في التصميم، فكتبت إلى المصمّم الشهير الذي لطالما حلمت بالعمل معه، ديمون إدلينغ. ورغم أنها أرسلت ثلاث أو أربع رسائل من قبل ولم تتلقَّ أيّ ردّ، فإنها لم تستسلم، بل واصلت حتى أرسلت سبع رسائل في المجمل، لتتلقى أخيراً جواباً منه.

قال في رسالته: “لقد رأيتُ ما يكفي من شغفك، فإن كان لديكِ ما تتساءلين عنه، تعالي إلى قصرِي ومعكِ هذه الدعوة، اليوم في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحًا.”

كانت الرسالة قد وصلت قبل يومين، لكن روميا حين رأت اسم المُرسِل، شعرت بسعادة غامرة، حتى إنها قفزت في مكانها دون أن تفكر في فتح الرسالة.

كان ديمون إدلينغ مصمّمًا شهيرًا لدرجة أن تحديد موعد معه يحتاج إلى انتظار عام كامل. وقد برع في تصميم القبعات والملابس والأحذية على حد سواء، ورغم أنه من مواليد كاتاس، إلا أنه حاز شهرة عالمية واسعة. عروض الأزياء التي يقيمها لم تخْلُ يومًا من الحضور، كما أن الحصول على تذاكرها كان صعبًا جدًا، لذا لم يكن أمام روميا سوى متابعة تصاميمه من خلال المجلات والكتب.

أن تصبح تلميذة لشخصٍ كهذا! غمرها شعور جارف من التأثر والانفعال.

علّقت حقيبتها بثقة، وودّعت السيدة ريتشيتو وآرنيس للمرة الأخيرة قبل أن تغادر المتجر مسرعة. كان قصر إدلينغ يقع على مسافة من العاصمة، لكنها كانت تعرف الطريق جيدًا — ستستقلّ عربة إلى محطة القطار ثم تنتقل إلى وجهتها هناك. كانت قد راجعت الخريطة مرات كثيرة حتى حفظتها عن ظهر قلب، فبدأت تصطفّ عند محطة العربات رقم 13 عندما سمعت صوتًا مألوفًا يناديها.

“روميا.”

“كارلايل!”

نزل كارلايل على عجلٍ من السيارة واقترب منها. لم يكن قد زار المتجر منذ مدّة، وقد علم من مساعده أن روميا تلقت دعوة من ديمون إدلينغ، فجاء بنفسه ليراها قبل ذهابها.

“أتذهبين إلى منزل السيد ديمون إدلينغ؟”

“نعم!”

“إذن اليوم هو يومكِ الأول.”

“أجل، أظن أن عليّ أن أدرس أكثر من أجل تطوير عملنا.”

“أنتِ متميزة بالفعل، لكن يبدو أن طموحكِ لا حدود له، وهذا ما يُخيفني بعض الشيء.”

وأشار كارلايل إلى السيارة خلفه قائلاً:

“دعيني أوصلكِ بنفسي.”

“لا بأس، العربة ستصل بعد قليل.”

“لكنه يومٌ مميز، أليس كذلك؟ من الأفضل أن تصلي مبكرًا في اليوم الأول، فذلك يترك انطباعًا جيدًا.”

كان كارلايل يعرفها جيدًا، ويعلم أنها لن تقبل بسهولة، لذا راح يقنعها بلطف حتى ظهرت على وجهها علامات التردد.

“أ… أتظنّ ذلك؟”

“في أي ساعة طلب منكِ الحضور؟”

“في الحادية عشرة والنصف.”

رفع ساعته ونظر إلى الوقت بدلًا عنها، ثم فتح لها باب السيارة الخلفي قائلاً:

“لنَرَ… الآن العاشرة تمامًا. عادةً ما يكون من الجيّد الوصول قبل الموعد بساعة.”

“ماذا؟ لكن إذا استقللت العربة والقطار فسيستغرق الأمر أكثر من ساعة!”

“النبلاء يصلون قبل الموعد بساعة، أما النبيلات فيُفضّل أن يصلن قبل الموعد بساعتين.”

حين سمعت ذلك، ترددت روميا قليلًا ثم جلست في سيارة عائلة دوين. كانت تظن أنها غادرت في وقت كافٍ، لكنها لم تستطع كبح قلقها من احتمال التأخر. لم تكن تريد أن تُعرف منذ أول يوم بأنها “المتأخرة”.

ومع ذلك، ما زال في نفسها تساؤل لم تجد له جوابًا، فعبست قليلًا وهي تقول:

“لكن في هذه الحالة… ما فائدة تحديد موعدٍ من الأصل؟”

–

تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى