هزّت اليد الصغيرة الظريفة الجرسَ الذي ناولته روميا. بدا أن الصوت الصادر منه أثار دهشته، فانفجر ضاحكاً ضحكةً صافية بريئة لا تشوبها بلا شائبة.
آرنيس. وبينما كانت روميا تكرّر ذلك الاسم في داخلها مرارًا، احمرّت مآقيها. لم يكن يهمها لو تشابكت خصلات شعرها البنيّ المتموج بفعل نسيم البحر، ولا لو أرهق أذنيها صوت البوق البحري المدويّ؛ فقلبها كان يخفق بعنف ولكن لسبب آخر.
وبين صفوف الكاتاسيين الذين لم يتمكنوا من العودة إلى وطنهم خلال الحرب، كانت روميا تقف لتخاطب إيزابيلا، التي كانت تنظر إليها وتعضّ شفتيها.
“سنلتقي مجددًا، أليس كذلك؟”
“سيكون كذلك.”
“ستقبلينني حتى في ذلك الحين، صحيح؟”
“……ألا بد أن تعبّري بهذه الكلمات؟”
رغم لهجتها بالغة الجفاء، ابتسمت روميا برفق. وعلى الرغم من تذمّرها بالكلام، إلا أنّ إيزابيلا في النهاية فتحت ذراعيها لتحتضن روميا، التي لطالما اعتبرتها كأخت صغيرة.
“نعم. سأشتاق إليكِ.”
أومأت روميا وهي بين أحضان إيزابيلا مطمئنة. تلك التي كانت تكرهها في وقت ما، صارت اليوم أقوى سند لروميا من أيّ شخص آخر.
فمن دون مساعدتها، لما استطاعت الخروج من كاتاس، ولما تمكنت من إنجاب آرنيس بسلام، ولما قدرت على حمايته حماية تامة وسط حرب قاسية.
ولأن كلّ ذلك ما كان ليكون ممكنًا لولا إيزابيلا، فقد احمرّ وجه روميا وهي بين أحضانها. حتى عندما حاولت أن تكبح دموعها، اجتاحها حزن هائل.
“على أي حال…… منذ الأزل تبكين بسهولة.”
حتى في عيني إيزابيلا، التي أطلقت لسانيها زفرة مستنكرة وهي تنظر إلى روميا الضعيفة، تلألأت دمعة خفيفة. ولطول وداع الاثنتين، كانت إيلينا موندريا قد اقتربت بدورها لتلقي تحية الوداع.
“اعتني بنفسك.”
“شكراً لكِ، سيدتي.”
“بل أنا التي عليّ شكرك. القبعة التي صنعتها لي أستعملها جيدًا. لقد أعجبتني كثيراً.”
“سأصنع لكِ أخرى فيما بعد.”
“إلى ذلك الحين، عليّ أن أبقى بخير. كي أتمكّن من ارتداء القبعة التي أبدعتها أناملك الماهرة.”
إيلينا، التي لم تعرف قطّ المجاملة في مديحها، لم تبخل بكلمات المحبة وهي تخاطب روميا. وعندما لمست خدّ آرنيس الطريّ المستكين في حضن أمّه، انطلق منه صوت “آوونغ!” تبعته ابتسامة مشرقة باتجاه إيلينا.
الأطفال الآخرون كانوا غالبًا ما ينفجرون بالبكاء عند النظر في وجهها الذي بدا مخيفًا لهم، لكن هذا الكائن الصغير المحبوب لم يفعل سوى أن يبتسم لها ابتسامة عذبة.
‘كيف لا ينجذب القلب إليه أكثر؟’
شدّت إيلينا موندريا يد آرنيس الصغيرة بحرارة وهي تحدّق فيه بعينين دافئتين.
***
عاد الملك. الذي اعتُقد أنه مات، والذي غرق الجميع بسببه في حزن عميق، عاد ليزيح المأساة التي ألقت بظلها مرة أخرى على كاتاس. عاد بوجه سليم، ليعلن برويّة بقاءه حياً.
شعرت شارون، التي كانت تراقب من بعيد، بقبضتها تنغلق بشدة.
تبددت الغيوم السوداء التي خيّمت على كاتاس بفضل الشمس التي عادت لتسطع. الشعب ابتهج بعودة الملك، وموجة الرثاء تحولت إلى هتاف حماسي للعرش القائم.
وما إن رأت شارون جيهاردي، الذي طالما كرهت وجهه اللامبالي المكلل بابتسامة خفيفة وهو يردّ على هتافهم، شعرت بدمائها تغلي عكس مجراها.
غادر إيدن منذ زمن المكان عاجزًا عن كبح غضبه، أما الوزراء الذين تمنّوا في قرارة أنفسهم موت جيهاردي فقد طأطؤوا رؤوسهم بوجوه مذهولة.
هكذا انقسمت المعسكرات بوضوح، فارتسمت السعادة في فريق والحسرة في آخر. وقفت شارون ببطء تاركة خلفها الهتافات الموجّهة لجيهاردي.
رؤيته لا تجلب سوى الغضب. فرصة لم تصلها قط، وتلاشت قبل أن تبلغها يدها. واقع مرير حيث أضاعت الفرصة التي تاقت إليها مرة أخرى أمام عينيها. لقد كانت بحاجة إلى وقت تبقى فيه وحدها.
***
لم يتغير شيء. في أثناء احتضاره، لم يقم الذين صدّقوا أن الملك مات بأي شيء يُذكر. بعد أن انتهى الموكب وانقضى العرض الاستعراضي، عاد جيهاردي إلى القصر الرئيس، وألقى نظرة خاطفة على كومة الأوراق التي بقيت أمامه.
كان يظن أن هناك من يتربّص بغيابه، لكنّ قلة الاستعداد والبطء في تحركهم أظهرت بوضوح ما الذي كان يثير قلقهم حقًا.
ارتسمت ابتسامة جافة على شفتيه. وإن كان لم يُظهر شيئًا قبل وصوله، فإنه الآن، وقد أدرك أنهم لم يفعلوا شيئًا مع يقينهم بموته، شعر أنهم ليسوا إلا بشرًا في النهاية.
“لقد خافوا من التغيير.”
كان ذلك بالضبط ما أشار إليه المركيز فانيسا.
“لم يمض وقت طويل منذ عودة الملكة أوليفيا إلى رحاب الرب. جلالتك تسلّمت العرش لتواصل سلالة كاتاس، لكن حتى ذلك رأوه تغييرًا غير مريح بالنسبة لهم.”
“لو أنني متُّ وصعد شخص آخر إلى العرش، لواجهوا تغييرًا آخر، ولهذا تردّدوا.”
“نعم.”
كما خمن فانيسا، كان هذا هو السبب الذي منع الأميرة شارون من فرض سيطرتها الكاملة على القصر.
فهي، منذ صغرها، كانت ذكية، وتدرك جيدًا ما إن كانت شمسها في الأسرة المالكة في طريقها للأفول أم للبزوغ.
شعر جيهاردي بسخرية ممزوجة بالضيق. إنهم لا يقبلون التغيير بسهولة، ومع ذلك فإن مكانته تقتضي أن يكون أكثر حساسية للتغيير من أي شخص. ولم يسبق له أن شعر بثقل هذا العبء كما شعره في ذلك اليوم.
ابتسم ابتسامة جافة، واقفًا عند النافذة يتأمل القصر الذي غشيه الظلام. عدد من المصابيح المتلألئة كانت تضيء المشهد الملكي جمالاً.
تلك اللحظة، أزاح ذكرى صغيرة ما بقي من أفكاره. الكائن الذي طالما كره الليل الداكن، ولم يتمنَّ سوى قدوم الصباح، الذي يبكي ليلًا ويبتسم في الصباح ببراءة.
روميا. لقد وعدها بأن يعود ليأخذها. متى سيتمكن من الوفاء بذلك؟
تمنى جيهاردي ألا يكون الأوان قد فات، ثم التقط ورقة من الكومة أمامه ليقضي ليلته ساهرًا في إتمام عمله.
***
وصلت روميا إلى ميناء ميرفِين، فنزلت ببطء تاركة خلفها السفينة التي أقلتها. كانت الرياح البحرية عاتية، لكن ما شغلها لم يكن أن تطير قبعتها المشدودة بخيط، بل أن ينكشف الغطاء الملفوف حول آرنيس. فأحكمت ضمّه إليها من جديد. الهواء القارس الذي كادت تتجمد بسببه عند الرحيل لم يعد له أثر، بل استقبلتهما أشعة شمس دافئة وسماء صافية خالية من الغيوم، حيث انعكس ضوء الشمس على شعرها البني المتموّج كالأمواج.
‘أخيرًا وصلت.’
نظرت روميا بعينين يغمرهما شعور جديد إلى أرض كاتاس التي وطأتها من جديد.
كانت خطواتها حائرة في وجهتها، لكن في مشيها لم يكن ثمّة تردّد.
“آرنيس. هنا المكان الذي وُلدت فيه والدتك.”
“ووونغ-!”
“نعم. يعجبك أيضًا؟ والدتك أيضًا تشعر بسعادة.”
لاعبت روميا قليلًا آرنيس الصغير الذي كان هادئًا بين ذراعيها، تبادلت معه نظرات وضحكات، محاولةً أن تخفّف من توترها خوفًا من أن يتعرف عليها أحد.
وانضمت مع آرنيس إلى الصف الطويل عند موقف العربات. انتظرت طويلًا، ومع ذلك لم يحن دورها. وعندما بدأت تشعر بالإرهاق بسبب حملها آرنيس وأمتعتها معًا، التفتت إليها امرأة شابة تبدو في مثل سنها بعد أن لمحَت آرنيس، وخاطبتها أولًا
“إلى أين تذهبين؟”
“آه…… إلى العاصمة.”
“أنا أيضًا في طريقي إلى العاصمة لأزور عمي. هل تودين الذهاب معًا؟”
حدّقت روميا فيها للحظة مندهشة من عرضها المفاجئ. كانت المرأة قد ربطت شعرها الأحمر بعناية، ورغم ملامحها اليافعة، بدت أكثر نضجًا في كلامها وحركاتها من روميا. لاحظت روميا أن برفقتها خادمة، فترددت قليلًا، لكن المرأة بادرت بالكلام مرة أخرى
“من الصعب أن تجدي عربة في ميناء ميرفين. لكونه في الداخل، يتردّد السائقون من القدوم إلى هنا. يستغرق الخروج وقتًا طويلًا أيضًا.”
“ولكن…”
“لا بأس. أنا أعشق الأطفال كثيرًا.”
وبينما بدت روميا في حرج من قبول لطف غريبة، ناولت المرأة متاعها للسائق وأومأت لها أن تصعد سريعًا.
“قد يطول انتظار العربة التالية. التنقل مع طفل ليس بالأمر السهل.”
“……شكرًا لك.”
لم تستطع روميا أن ترفض أكثر، خاصة بعدما بدأ آرنيس، الذي كان هادئًا حتى الآن، يضجر. أمسكت بيد المرأة المجهولة وصعدت معها إلى العربة، وجلست قبالتها مرتبكة.
وما إن جلست حتى بادرتها المرأة بسرور وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة لتقدم نفسها.
“اسمي رِيود نيل أَناتيشا.”
“نيل؟”
“نادرًا ما يستخدم الناس الاسم الأوسط هذه الأيام، أليس كذلك؟”
ابتسمت أناتيشا برقة، وتبادلت معها نظرات ودودة. تذكرت روميا أنها لم تعرّف بنفسها بعد، فأسرعت تعتذر وهي تنحني.
“سيدة ريود، أنا روميا بِـ……، روميا فقط.”
كان عليها أن تختار، بين لقبها كابنة أسرة نبيلة تحمل اسمًا بلا سلطة، أو بلا لقب على الإطلاق. في تلك اللحظة، كان الخيار واضحًا. ورغم أن بعض العامة يرثون ألقاب آبائهم، تذكرت روميا ريك وفيوليت وهزّت رأسها.
بينما كانت روميا غارقة في أفكارها، جاءها صوت المرأة المقابلة مفعمًا بالحيوية:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 108"