ارتفعت أصوات الصراخ الحاد. سار كارلايل متتبعاً الضوضاء حتى وصل إلى المكان، وهناك ابتلع تنهيدة منخفضة.
كان الاثنان الغارقَان في أمجاد الماضي غير قادرين على الانفكاك منها يتصرّفان بهيستيريا مألوفة. فكانا يرميان القبعات الموضوعة في واجهات العرض الزجاجية على الأرض، بل وحتى تمادت السيدة بيرلوس بالتشبث بأحد الزبائن الذين كانت السيدة ريتشيتو تستقبلهم، لتطرح عليه سؤالاً سخيفاً عما إذا كان يعرف من هي.
كان المشهد وحده كفيلاً بأن يسبب صداعاً. دفعت السيدة ريتشيتو الاثنين بوجه متجمد صارم وهي تقول شيئاً ما، لكنهما لم يتزحزحا.
“أعيدوا ابنتي! أعيدوا روميا!”
“الفتاة غادرت. منذ وقت طويل!”
“تلك العفريتة الصغيرة تركتنا! أين وكيف تعيش الآن؟ يجب أن أعرف! ريتشيتو، أنت تعرفين!”
“هل فكرتما يوماً بروميا كابنة حقاً؟ ثم هذا المكان مشروع مشترك مع عائلة دوين. أوقفا هذه الفوضى واخرجا حالاً! وإلا سأستدعي حرس العاصمة ليسلماكما للشرطة!”
“آه يا ريك! اسمعي كيف تتكلم ريتشيتو! إن لم نكن نحن والدا روميا، فمن يكونان إذاً؟”
من طريقة حديثها بدا واضحاً أنها ثملة. أما ريك، فقد كانت عيناه زائغتين بالكاد يقدر على الحركة. وكلما تحرك أسقط معه دمى العرض الواحدة تلو الأخرى.
ولم يتحمل كارلايل المشهد أكثر، فتقدم.
“كفى، سيدة بيرلوس. لورد بيرلوس.”
“ها؟ أهذا أنت، الابن الثاني المتعجرف لعائلة دوين؟”
ما إن تعرفت فيوليت عليه حتى جحظت عيناها الزائغتان وأخذت تشير إليه بلا تردد.
“قل لي أين روميا حالاً! وإلا أبلغت عنك كخاطف!”
“السيدة روميا بالغة. تستطيع مغادرة والديها بقدميها، قانوناً وشرعاً.”
“تلك الفتاة كانت دوماً هكذا! لم تنل نصيبها من كل النفائس التي يحصل عليها الآخرون. حتى لو ابتعنا لها أثواباً باهظة الثمن، ما الفائدة؟ لا يليق بها شيء!”
“صحيح، هذا ما حدث.”
كان كلام فيوليت وردّ ريك المساند يثير الاشمئزاز. أبعد كارلايل فيوليت التي أمسكت بتلابيب السيدة ريتشيتو، ثم أخذ يرتب الدمى الساقطة، غير مبالٍ بما يقذفه الاثنان نحوه من سخرية.
“اليوم هما أشد من المعتاد.”
“لا بأس، سأعتني بالأمر.”
حتى السيدة ريتشيتو بدا عليها الضجر. ثم خفضت صوتها، خشية أن يسمعا، وسألت:
“أما زالت أخبار روميا مقطوعة؟”
تجمدت يد كارلايل وهو يهمّ بالتقاط قبعة تساقطت منها الزينة. كانت ريتشيتو تعرف سبب ذهابه إلى ريلنوك وعودته منها، فقد ذهب ليعيد روميا.
لكن كارلايل، لسوء أو لحسن حظه، كُشف أمره على يد جيش كاتاس وأعيد إلى هناك.
ومنذ ذلك اليوم صار مهووساً يجمع كل نشرات ريلنوك، ولم يترك يوماً دون أن يبعث رسالة إلى روميا. لكن عدم وصول أي رد كان دليل على أن السفن بين ريلنوك وكاتاس لم تعد تبحر بانتظام بعد.
“الحرب انتهت، قريباً ستأتي أخبار من روميا. عندما سمعت أن قصر دوق بيلفيروتر، حيث كانت، تعرض للغزو… كدت أموت رعباً…”
كانت كلماتها تبدو كأنها تعبر عن الارتياح لانتهاء الحرب، لكنها لم تحمل في باطنها سوى القلق على سلامة روميا. أجابها كارلايل، وهو يلتقط قبعة صممتها روميا وخرجت بها إلى العالم:
“ستكون بخير.”
“…نعم، بالطبع.”
لم يقل ذلك فقط ليطمئنها، بل كان يخاطب نفسه. فهو لا يزال يتذكر جيداً اليوم الذي فشل فيه في إعادتها وعاد أدراجه إلى كاتاس.
مكانته كـ دوين التي يحسده الناس عليها لم تغن عنه شيئاً في الحرب، بل زادته عجزاً وبؤساً. حتى أنه وجد نفسه يغبط جهاردي الذي رحل إلى ريلنوك لينهي الحرب بيده.
خفق قلبه بعنف في إيقاع مضطرب، وبدأ تنفسه يضطرب.
الجهل بأخبارها كان يخنقه ويبعثر أفكاره. حتى وهو ينفض الغبار عن قبعة سقطت على الأرض، لم يهدأ قلبه.
وأخيراً، اعتدل في وقفته وقال:
“سأرسل من دوين رجالاً. لا تستقبلي هذين المتسولين مجدداً.”
“أتقصدنا نحن؟”
تفاجأ ريك وفيوليت من كلامه وكررا السؤال باستهزاء.
رغم أنه كان يخاطب ريتشيتو، إلا أن نظراته الجادة انصبت على ريك وفيوليت. بدا كأنه سيستدعي المسؤولين لطردهما في الحال إن لم يرحلا.
فارتبك الاثنان أمام صرامته. فقد كانا يظنان أن أقصى ما سيفعله هو طردهما بصفتهما والدي روميا، أما أن تتحرك عائلة دوين نفسها، فهذا قد يجر عليهما اتهامات بعرقلة التجارة أو تخريب الممتلكات.
“حسناً، سنذهب!”
زمجر ريك وهو يغادر بخطوات غاضبة. ولحقت به فيوليت وهي تشعل سيجاراً وتلتقط معطفها.
“لسنا هنا لإزعاج الزبائن! نحن فقط نبحث عن ابنتنا! ابنتي المفقودة!”
ومع ذلك لم تغلق فيوليت فمها حتى النهاية، مضيفة أنها ستعرف حتماً أين روميا. وما إن غادرا حتى عمّ الهدوء في متجر القبعات.
سكن الصمت، ولم يقطعه سوى تنهيدة ثقيلة من صدر السيدة ريتشيتو.
***
“كنت أعلم أنك حي.”
ما إن نزل من السفينة حتى كان الماركيز فانيسا والكونت كيلدرو في استقباله.
“لكن وجهك شاحب للغاية.”
“تتوهم.”
اقترب الماركيز فانيسا بوجه متأثر ليحييه بانحناءة. وتبعه الكونت كيلدرو، رئيس الوزراء، وسائر من حضروا ليؤدوا له مراسم الاستقبال، جميعهم انحنوا أمام الملك العائد سالماً.
كان جسده غارقاً في رائحة البحر العفنة التي التصقت به خلال أيام الرحلة على متن السفينة العائدة إلى كاتاس.
“ألم تعانِ من دوار البحر؟”
“أهذا كل ما لديك لتسألني عنه بعد طول غياب؟”
ضحك وهو يرد، بينما كان الماركيز يلاحقه بسؤال آخر وهو يصعد إلى العربة التي تنتظره.
“إنه حقاً أنت جلالتك.”
ضحك مرة أخرى من السؤال التافه، فتبدل وجه فانيسا الباكي إلى ابتسامة مشرقة. والعجيب أنه في الماضي لم يكن ليلتفت إلى مثل هذه الملامح، لكن اليوم بدت له مفرحة للغاية. وفوق كل ذلك، مجرد وجود فانيسا، الذي خاض الحرب معه، هنا بانتظاره، يعني أنه بخير أيضاً.
“علينا الذهاب بسرعة. هناك الكثير لنبلغك به ونعالجه. حتى لو سهِرنا عشرة أيام لن ننهيه كله.”
أسرع الماركيز في خطاه وهو يرافقه، فانتهز الكونت كيلدرو الفرصة ليضيف:
“وقبل كل شيء، يجب أن يرى شعب كاتاس أن جلالتك بخير. إنهم ينتظرون عودتك بفارغ الصبر.”
جلس في السيارة السوداء التي انطلقت مغادرة الميناء بسلاسة، بينما كان يستمع إلى التقارير عن برامجهما المزدحمة، لكنه مع ذلك لم يشعر بعد أنه عاد حقاً إلى كاتاس.
ولم يتأكد من ذلك إلا عندما عاد إلى القصر الملكي، ليجد آثار روميا في كل مكان، لكنه أدرك مجدداً أنها ليست هنا.
ابتسم بمرارة لنفسه، مدركاً أن حالته أسوأ مما كان يظن.
ما زال لقاءه بروميا في ريلنوك يبدو حلماً.
***
“هل تنوين حقاً الرحيل؟”
انعقد حاجبا إيزابيلا باستياء، لكن روميا كانت عنيدة. فهي إن أصرّت على أمر لا يمكن لأي إقناع أن يغيره.
“نعم.”
كان جوابها حاسماً. وضعت إيزابيلا يدها على جبينها، ثم رمت بنظرة استغاثة نحو الماركيزة الكبرى موندريا التي كانت تحتسي الشاي.
وضعت إيلينا موندريا الكوب بهدوء وقالت ببرود
“إصطحاب أرنيس معكِ لن يكون سهلاً.”
“مع ذلك، يجب أن أذهب.”
“ومتى تنوين المغادرة؟”
“كلما كان أسرع كان أفضل.”
“سأساعدك.”
كانت نظرات إيزابيلا تعني “ثنيها عن ذلك”، لكنها أخطأت الفهم. إذ لوحت بيديها مرتبكة، بينما تجاهلت إيلينا موندريا استنجادها، وأجابت بجدية داعمة خطة روميا
“سأوفر لك أسرع سفينة من ريلنوك إلى كاتاس.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 107"