مشاعر الحب ضحلة لكنها ماكرة. كان من المريح أن يعترف بها، فلماذا لم يبح بها منذ البداية؟
في الحقيقة، كان جهاردي يعرف الجواب منذ زمن. ربما منذ أن أخذت أطياف روميا بيرلوس، التي رفضها بمللٍ لا يُطاق ورغم ذلك لم تنفكّ تلتصق به، تتبعه في كلّ مكان.
تلك الأيام حين كان عبق العشب الناضر يخترق أنفه بعمق، وحين كانت شذرات رائحة الربيع العطرة ترافقه أينما ذهب—لا يعرف متى تجمّعت تلك الشذرات وتماسكَت لتُشكِّل هيئة واضحة.
لم يكن ما راوده من رغبة في امتلاك تلك الفتاة الحمقاء، التي تم التلاعب بها كدمية بين كفّي هيرين فوتاميا، بسبب جمالها. بل فقط لأنها روميا بيرلوس. فقط لأنها هي.
خيط واحد من التفكير الموجز كان كفيلًا بأن يُرتّب الكثير من الأمور.
“أقدم شكري لكم على كل ما قدمتموه طوال هذا الوقت.”
بعد أن قدّم كلمة شكر مقتضبة لأفراد عائلة موندريا الذين خرجوا لوداعه، رفع رأسه. كانت الشمس المحرقة مبهرة، ومن بين الأعين نصف المغلقة برؤيته ظهرت روميا وهي تحمل آرنيس وتطلّ من نافذة.
حين التقت عيناهما، بدا وكأنها تعضّ شفتها السفلى قليلًا، لكنها لم تدر وجهها عنه ببرود. وذلك كان كافيًا. فقولُه إنه سيعود ليأخذها لم يكن مجرد كلام أجوف، بل عهدٌ سيأتي يوم ويحققه.
صحيح أنّه حزنَ كثيرًا لعدم حضور روميا بيرلوس التي ابتعدت عنه مجدداً بعد إعترافه بحبه لها. لكنّه أيضًا كان يعلم أن ذلك عائد إلى شجاعة روميا نفسها. والغريب أنّ هذا وحده كان عزاءً كافيًا.
مجرد أنّ تلك العينين الخضراوتين لم تستطع في النهاية أن تشيح بنظرها عنه، بل أسرته، كان كافيًا.
“عُد سالمًا.”
تقدّمت إيلينا موندريا ممثلةً عن عائلتها وقدّمت وداعها. وردّ جهاردي بالإيماء بهدوء على التحية الرسمية. غير أن إيلينا، وقد أدركت أنّ ذهنه كان مشغولًا في مكان آخر تمامًا، عضّت لسانها بخفة من الداخل.
ربما كان من العسير على الملك أن يدير ظهره لدمه ولمن يحبّ، لكن روميا أيضًا كانت بائسة. فقد هربت منه لأسباب شتى، لكنها في النهاية لم تستطع كبح مشاعرها نحوه.
من خلال مهارتها في صناعة القبعات، أدركت إيلينا موندريا أنّ روميا لم تولد من سلالة نبيلة. لكنها لم تكن تفتقر إلى الذوق أو الرقي أيضًا، وهو ما جعلها تُخمّن مقدار المشقّة التي تحملتها روميا في حياتها.
لذلك لم يكن بإمكانها أن تقول لملك كاتاس الشاب أن يتحمل مسؤولية تلك المرأة والطفل البائس، ولا أن تدفع روميا للّحاق به. لقد كان وضعًا مربكًا.
وعندما طال الصمت، حوّل جهاردي نظره عن النافذة حيث كانت روميا في الطابق الثاني من المبنى الرئيسي.
كان العشرات بانتظار تحركه. وبما أنّه لم يتحرك، ظلّ رجال الإمبراطور أويتوس، وكذلك أفراد عائلة موندريا، في أماكنهم.
وبمجرد أن استدار جهاردي بلا تردد، كان هناك عربة عسكرية تنتظره لتنقله إلى الميناء حيث أُعدت له سفينة لتقلّه إلى كاتاس. رجال الإمبراطور أويتوس تبعوه بخطوات ثابتة.
***
“أتمنى أن تعود سالمًا، يا صديقي.”
عند الميناء، أمام السفينة التي سيصعد إليها، فتح أويتوس ذراعيه مودعًا جهاردي.
“شكرًا لك.”
“بل أنا من يجب أن يشكرك. أليس بحد ذاته أمرًا عظيمًا أنك ما زلت حيًّا؟”
أويتوس، وهو يتأمل جهاردي بملابسه المرتبة، ابتسم بارتياح. حين سمع لأول مرة خبر موته، شعر وكأنه بنفسه قد زجّ بصديقه إلى الهلاك. فاندفع بدموية إلى المعارك، يقتل العدو دون رحمة وكأنه ينتقم له، ولفترة ظلّ غارقًا في الدم، غير قادر على محو أثر الموت من حياته.
حتى بعد نهاية الحرب، حين التمس البعض أن يُعيد على الأقل جثمان ملك بلادهم، لم يتسنَّ له أن يجد جثة جهاردي. وكلما تردّد الخبر، كان أويتوس يتأجج بالذنب والغضب.
لكن حين عاد جهاردي، حيًّا إلى جانبه مع دوق بيلفيروتر، أدرك كم كان غبياً في حكمه.
حين لم يجدوا جثة، كان ينبغي أن يؤمن أنه حيّ، ويسعى للبحث عنه أكثر.
على أية حال، كان أويتوس يحمل عبء الذنب نحوه، ولهذا قبل بسرور أن يساعده على العودة إلى كاتاس.
“سمعت أن يوتار على وشك أن يُعزل، بعد أن تخلّت عنه باقي دول الاتحاد.”
ظلّ أويتوس إلى جانبه حتى صعوده إلى السفينة، يتبادلان الأحاديث التي لم يُتح لهما قولها.
“ستجد أمامك أكوامًا من الأعمال حين تعود.”
لم يُجبه جهاردي إلا بابتسامة لطيفة دون أن يعلّق. وبعد قليل، نزل القبطان وأعلن أن الاستعدادات للمغادرة اكتملت.
“ستعود مجددًا، أليس كذلك؟”
مع هذه العبارة التي تَعِد باللقاء القادم، تذكّر جهاردي روميا. الخُضرة التي لم تلائم أبدًا بحر الرمال الصفراء.
“نعم. سأعود حتمًا، فلديّ أمر لا بدّ أن أنجزه هنا.”
“ماذا؟!”
ارتسمت الدهشة في عيني أويتوس من جوابه الحاد غير المتوقع. وبينما رمش بعينين واسعتين، دوّى صوت صافرة السفينة، معلنًا قرب الإقلاع.
“عليّ أن أذهب. اعتنِ بنفسك.”
قالها أويتوس، ثم أسرع بالنزول من السفينة، وهو يضحك قائلًا إنه لا يستطيع أن يرافقه إلى كاتاس.
بفضل أويتوس، الذي أربكه بضجيجه، قلّت لحظات جهاردي التي كان يمكن أن يقضيها في تأنيب ذاته بسبب روميا.
وحين نزل أويتوس، لوّح له بقوة كما لو كان قد عاد إلى صباه، إلى ذلك الفتى القديم.
***
“كيف يكون حيًّا؟! لقد قضينا شهورًا دون أن نعثر حتى على جثته!”
“أليس ذلك خيرًا؟! كادت الأسرة المالكة المتينة أن تنهار. لو أن جلالته مات بلا وريث، لكان عهد كاتاس الطويل قد انتهى. لا يمكن أن نأتي بفرع بعيد ونضعه على العرش!”
وبينما كان الجدل يحتدم في قاعة البرلمان، كانت شارون تراقبهم من الطابق الثاني، ثم قبضت على مروحتها وألقتها بعنف.
‘ذلك الهوس بالشرعية!’
كانت تودّ أن تهبط فورًا وتكشف السر المتعلق بميلاد جهاردي كاتاس، لكن لم تستطع. إذ ظلّت كلمات السيدة ميشيل تلاحقها كظل، تقبض على كاحليها وتمنعها.
—”الأميرة أيضًا واحدة أفراد عائلة كاتاس الملكية.”
“آه!”
وحين عادت كلمات ميشيل ترنّ في أذنها كصدى، صرخت شارون واضعة يديها على أذنيها لتكتم الصوت.
“عمره طويل بشكل مذهل.”
إلى جانبها، كان دوق سيفير يتأمل بوجه صارم الحاضرين وهو يستحضر عودة جهاردي.
لو تأخّر قليلًا عن العودة، لربما كان العرش له. فمنذ الطفولة لم يجد فيه أي جانب محبّب، وحتى بعد أن كبر بقي بنفس القدر من الإزعاج.
مجرد أن تذكّر عينيه الداكنتين البغيضتين، اللتين كان الجميع يرونهما مهيبتين بطبيعة الحال، غلت دماء إيدن سيفير. وزاد غيظه حين رأى شارون بجواره تمسك رأسها بألم.
“أمي! افعلي شيئًا! لو عاد ذاك الوغد حقًا، هل علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ونراه يعتلي العرش مجددًا؟! لماذا ميّزتنا جدتي عنه دائمًا؟!”
“اصمت، إيدن.”
“لا! لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي! علينا أن نطلب من عمي، أن يضع لنا خطة بديلة على الأقل…….”
“إيدن سيفير!”
ذلك اللسان المتهور لطالما كان مشكلة، يزيد صداعها قوةً. فنهضت شارون وضربت بقبضتها، عندها فقط انكمش إيدن وصمت.
“اخرج! ألم يُمنع دخولك إلى القصر الملكي؟ هل ترفض أيضًا أن يُسمح لك بدخول البرلمان؟! اذهب وشاركهم النقاشات هناك، لعلّك تتعلم شيئًا من الثقافة!”
وأشارت إلى الباب باشمئزاز، فألقى كأس الشمبانيا من يده وخرج مسرعًا من الغرفة. كان في هيئته رجلاً ناضجًا، لكن أفعاله ما زالت أقرب إلى صبي صغير.
حين بقيت وحدها، جلست شارون منهارة، غارقة في التفكير.
في النهاية، لم يبقَ لها سوى خيارين.
هل ستنال شرف الاستيلاء على ما تبقى من هيبة العرش المنهار؟ أم ستبقى عضوًا فخورًا في أسرة ملكية حافظت على سلالة طويلة؟
لم يدم تردد شارون طويلًا. فقد عاشت منذ ولادتها وهي تعرف الأولوية، وتشرّبت حياتها بأفكار الأميرة التي نُقشت في عقلها كغرس لا يُمحى.
لكنها مجددًا، كان عليها أن تدفن أمنيتها القديمة، التي أفلتت من يدها أمام عينيها، في أعماق صدرها.
“في النهاية…….”
أدركت أن والدتها أوليفيا لم تنوِ يومًا أن تمنحها العرش.
حتى لو اكتشفت سر جهاردي، كانت تعرف أنها لن تستطيع كشفه. وأوليفيا كانت تعرف ذلك جيدًا.
لأن أوليفيا هي من ربّتها على هذا النحو.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 106"