رفعت روميا بصرها بصمت طويل نحو الرجل الذي نبش جراحها قبل أن تلتئم. في صوته الرتيب الخالي من العلو والانخفاض، وفي عينيه الهادئتين التي تحدق بها مباشرة، لم يكن هناك أثر لندم أو ذنب.
“كنت أتمنى لو أن جلالتك قد متّ.”
حتى مع هذه الكلمات القاسية، لم يبدُ عليه أي رد فعل. وكأنها كلمات توقعها منذ البداية، بل بدا مرتاحًا أكثر.
لم تصدق ملامحه وقد انقشعت عنها أخيرًا مشاعر قديمة عالقة، وصارت أكثر صفاءً كمن يقف تحت أشعة الشمس. لم يوبخها حتى على كلماتها المتغطرسة.
فتحت روميا جفنيها ببطء، تسوّي أنفاسها المضطربة. بدا وكأن الزمن قد توقف.
على العكس، كانت هي من ندمت على إطلاق تلك الكلمات. كأن قلبها يُعتصر، وكأن أحدًا ينتزع فؤادها بسكين.
مع أنها كانت، وبكل شوق، تأمل أن يتألم هو أيضًا مثلها.
ربما أدركت روميا حينها أن رجاءها لم يكن سوى أمنية عابثة لا جدوى منها، فعضت شفتها السفلى تكتم ألمًا صامتًا.
“ألن يكون كذبًا لو قلت إنني لم أكرهك؟”
خرج صوتها متهدجًا غير مرتب، لكن هذه المرة أيضًا، اكتفى جيهاردي بالنظر إليها بعينين هادئتين، بوجه بدا كأنه يتألم أكثر منها.
***
“أغو، أحسنت صغيري.”
كانت روميا تهدهد أريس لينام، تربت على ظهره وتدلله. كان أريس ينام عادة من دون تذمر، لكنه مؤخرًا صار كثيرًا ما ينقطع نومه. ونتيجة لذلك كانت روميا تستيقظ كثيرًا في الفجر.
حتى انها دمعت وهي تتثاءب دون وعي. كان صوتها متعبًا، لكن كلماتها الموجهة لأريس بقيت رقيقة.
“عليك ألّا ترهق أمك كثيرًا. انظر إلى وجه أمك، لقد صار باهتًا.”
تنهدت إيزابيلا بجوارها وأطلقت كلمات عتاب مقلقة، لكن عينيها الممتلئتين بالحب وهما تنظران إلى أريس في حضن روميا، قالتا شيئًا آخر.
كانت إيزابيلا، في كل مرة ترى أريس، تشتعل غيظًا وهي تتذكر وجهًا معينًا، لكن لم يكن بوسعها أن تكره تلك الروح الصغيرة الثمينة فقط بسبب رجل اسمه جيهاردي كاتاس.
لولا تلك الحدقتان الداكنتان، لكانت ابتسامته وملامحه العابسة كلها تشبه روميا، وهذا على الأقل كان عزاءً.
وبينما كانت إيزابيلا تحتسي عصير المانجو البارد، تابعت روميا وهي تمشي ذهابًا وإيابًا حاملة أريس، غارقة في التفكير.
كانت روميا أحيانًا، عندما تحدق في أريس نائما، تتخذ تعابير مُرّة. لا بد أن ذلك بسبب عينيه المغلقتين. فمن الواضح من كانت تتذكر حين تحدق فيهما. كانت تلك التغيرات في وجهها، من نظرة حب إلى نظرة حزينة، مجرد شوق لم يُنطق به.
‘هي أيضًا حقًا…’
زفرت إيزابيلا تنهيدة وهي تمضغ بقايا مانجو لم تُخلط جيدًا في العصير.
ثم رمقت الباب المغلق وكأنه عدو، بعينين جاحظتين غاضبتين. بدا وكأنها لا تحتمل هدوء ذلك الباب.
وكان ذلك طبيعيًا. فبعد أن نجا من الموت، وعاد محظوظًا ليلتقي بروميا، ورغم أنه علم بأنها أنجبت طفله، لم يُظهر جيهاردي أي بادرة سعادة أو حتى دهشة حين نظر إلى أريس.
‘أليس الملك أبًا أيضًا؟’
توقفت إيزابيلا عن الغضب فجأة وضحكت ساخرة دون صوت. حتى هي نفسها استغربت من كونها الآن في صف روميا بيرلوس، تلك التي نبذتها هي والجميع قديمًا.
وأثناء مراقبتها روميا وهي تميل بجسدها حتى انثنت ركبتيها، تهدهد أريس برفق، انفجرت إيزابيلا مجددًا بضحكة صامتة سرعان ما مسحتها.
متى اعتادت كل هذا؟
لا بأس بنصيحة بسيطة. لا بأس بتوجيه عتاب. وفي النهاية، ألم تكن هي من ساعد روميا على الفرار من كاتاس؟
نهضت مستسلمة بابتسامة تقول إنها لا تستطيع كبح فضولها وتدخلها. كان من السخيف أن تحاول مقاومة قلبها.
ربما كان ذلك هو السحر الفريد الذي تملكه تلك الفتاة. العينين التي لا تكف عن الالتفات إليها.
ذلك الصفاء النقي الذي لا يمكن في النهاية تجاهله، والذي أرادت هي أن تحميه، بينما أراد آخرون أن يلوثوه.
“هل نام؟”
“نعم. لقد غفى للتو.”
سألت وهي تلمح أريس وقد هدأ صوته، فأومأت روميا برأسها مرتاحة.
تحدثتا عن يومهما، عن الطعام اللذيذ الذي تذوقتاه مؤخرًا، وعن اختلافات ثقافة ريلنوك وكاتاس.
لكن وسط هذا الحديث المتدفق، لم يكن هناك أي ذكر لجيهاردي كاتاس.
***
في الآونة الأخيرة، كان أريس يحاول التقلب على بطنه، فلم يعد ممكنًا إبعاد النظر عنه ولو لحظة. كان ينقلب، ويناغي، ويضحك، ويبكي، ويتدلل أكثر فأكثر يومًا بعد يوم.
روميا كانت مرهقة من رعاية طفلها، أما جيهاردي فقد ذهب إلى العاصمة للقاء إمبراطور ريلنوك، لذلك لم يتح لهما أن يلتقيا كثيرًا.
اليوم تحديدًا، سمعت أنه عاد متأخرًا بعد الظهر إلى مقاطعة موندريا ليستريح هناك.
وبالطبع، لم تستطع رؤيته لأنها لم تحضر عشاء الماركيزة موندريا بسبب انشغالها بأريس، لكنها رأت أن ذلك أفضل.
فكلماتها التي غرست فيه يومها، تلك التي ارتدت عليها لتثقب صدرها بعمق، ما زالت عالقة في بالها.
ومع ذلك، كانت تعلم أن هذه مشاعر لا يمكن إنكارها بمجرد تجاهلها.
تأكدت روميا أن أريس قد غفى بعمق، ثم أسرعت تلتقط شالها وخرجت إلى الحديقة، خشية أن تفوته.
كانت تعلم أن جيهاردي، منذ أن جاء إلى موندريا، لم يترك عادة التنزه ليلًا في الحديقة. مرّت بجوار أرجوحة صنعها العم سانشيز بعناية.
وسرعان ما رأته تحت ضوء القمر الهادئ.
“لما تخرج ليلًا فقط؟”
وكأنه شعر بوجودها منذ البداية، أجاب بهدوء دون أن يتفاجأ.
“النهار حار، الشمس قاسية.”
“…تقرأ كتابًا؟”
كانت هي من شعرت بخيبة لعدم رفع بصره عن الكتاب إليها. بدا وكأنها تفاجأت بعدم وصول حتى نظرة عابرة منه.
“لم أقرأ بارتياح منذ زمن طويل.”
“إنها مكتوبة بلغة ريلنوك.”
“تعلمتها في الطفولة.”
لم يكن جيهاردي يبدو منزعجًا من مجيئها المفاجئ وحديثها، بل كان يجيب بصدق وهدوء.
وجدت روميا عزاءً بسيطًا في ذلك، فجلست بجواره وسألت.
في الحقيقة، كان هذا السؤال يشغلها منذ سمعت أنه عاد من العاصمة إلى موندريا.
“…متى سترحل؟”
خفق قلبها بعنف. كان جواب هذا السؤال الذي أبقاها يقظة طوال الليل مهمًا جدًا.
“غدًا.”
وعندما أدركت أن الأمر أقرب مما توقعت، لم تعرف روميا هل تبكي أم تبتسم. أطبقت شفتيها في وجه مرتبك.
لم يكن جيدًا أن تكتئب لمجرد أنه سيرحل، مع أنها لن تذهب معه.
من اختفى دون أن يترك أثرًا… يا لحماقة روميا.
وبينما توبخ نفسها بعادة قديمة، كانت تعبث بأطراف الرمال بحذائها.
فجأة، سمعت صوت إغلاق كتاب إلى جوارها، ثم جاء صوته قاطعًا الصمت.
“أرنيس.”
“…”
“إنه اسم أريس.”
تذكرت فورًا حديثهما عن أسطورة “آرويسبي”. رفعت روميا عينيها المرتبكتين إلى جيهاردي، فرأته يضع الكتاب جانبًا وينظر إليها.
“إنه أيضًا اسم طفلي.”
‘أرنيس’. رغبة حارة. أمنية متلألئة.
لم يكن مجرد أنه أطلق الاسم على أريس، بل بدا كهدية غير متوقعة. عيناه، وكأنه يقول ما يود قوله شخصيًا لها، كانتا هادئتين لكنها ملحّة.
كان ذلك الإصرار الموجه نحوها بعد زمن طويل، لكن لم تعد تشعر بالرعب أو الانكماش كما في السابق. كانت مشاعرها المتشابكة تمزق قلبها، ونبضاتها العنيفة تغمر جسدها كله.
ولم تجب روميا المذهولة، فمد جيهاردي يده يرفع خصلة من شعرها المنسدل وقال:
“سأعود لأصطحبكِ من جديد.”
“…”
“أنتِ وأرنيس.”
“…”
“أحبك.”
حبست روميا أنفاسها مندهشة عند ذكر اسم أريس، ثم شهقت وتراجعت إلى الوراء.
وجهه الخالي من التعبير كان باردًا، لكنه حين نطق بكلمة “أحبك” بدا لها وكأنها لحظة دافئة رقيقة.
وبقيت روميا عاجزة عن الكلام منكمشة في مكانها، فكرر جيهاردي كلامه.
“أنا جاد.”
“…كاذب.”
“كاذب أم لا… أنتِ الوحيدة التي استطاعت أن تراني على حقيقتي، وأنتِ تعرفين جيدًا.”
نعم، تعرف. وهذه المعرفة الواضحة كانت هي المشكلة. عضّت روميا شفتيها تكتم دموعًا كادت تندفع.
الكلمة التي طالما أرادت سماعها مرة واحدة من أعماق قلبها…. الآن، يقولها ببساطة، بلا مبالاة، وكأنها أمر هيّن. مما جعل ارتباكها يتضاعف.
وأثناء ابتعاد روميا عنه ببطء وهي لا تزيح عينيها عنه، ابتسم جيهاردي بخفة وقال مجددًا:
“أحبكِ، يا روميا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 105"