لم يكن المجتمعون في ساحة الحشد من جيش كاتاس وحدهم. فما إن وصل جيهاردي إلى ريلنوك حتى بدأ يضع الخطط ليل نهار لاستعادة بحر غاريا وإقليم دنبرغ، اللذين احتلّتهما لوماهوي، ثم حمل السلاح بنفسه.
لم تكفّ أصوات إطلاق النار القاسية عن ضرب أذنيه. وحده، حتى في الليالي الهادئة، كانت الضوضاء المفاجئة والمستمرة للوضع المتوتر تعذّبه بلا انقطاع.
لكنهم حققوا النصر في المعركة البحرية، ودحروا جيش لوماهوي المتبقي في بحر غاريا. لم يبقَ سوى استعادة إقليم دنبرغ المُغتصب، وكان ذلك مسألة وقت فقط. فجيش لوماهوي، المطرود من بحر غاريا، وقع في مأزق محاصرًا من الأمام والخلف بجيشي ريلنوك وكاتاس.
وجاء زائر الى جيش كاتاس، الذي يستعد لما قد يكون المعركة الأخيرة، لم يكن سوى إمبراطور ريلنوك. أويتوس، وهو يرفرف برداؤه الأحمر، ابتسم ابتسامة عريضة لصديقه القديم الذي التقى به بعد زمن طويل.
حتى مع مزاحه العفوي، ظل جيهاردي يجيبه ببرود جامد، لكن الإمبراطور أويتوس بدا معتادًا على ذلك ولم يُعره أي اهتمام.
“ربما حركت نفسي أكثر من اللازم. جسدي كلّه يؤلمني.”
تثاءب مطوّلًا وهو يتمدد ممددًا ذراعيه. فأجابه جيهاردي، وهو يضع بندقيته المصقولة على الفور بجانبه دون مبالاة
“هذا لأنك تهرول حتى بعد إصابتك بالرصاص.”
“بصفتي كلب حراسة فناء الاتحاد، إن استلقيت أرضًا لمجرد أنّ رصاصة أصابتني، سيتعثر كل شيء.”
“أويتوس.”
“ماذا؟ أنا أحب هذا الوصف حقًّا.”
“لا تُظهر إعجابًا مفرطًا بالكلمات التي اخترعها خصومنا لاحتقار ريلنوك.”
“لا يوجد وصف يلائمني أكثر منه.”
ثم استلقى أويتوس، بلا تكلّف، على سرير جيهاردي، وأخذ يتأمل ملامح صديقه التي لم تتغير كثيرًا منذ الطفولة، ثم قال مبتسمًا على سبيل المزاح
“مع ذلك، لقد كدت أشعر بالرعب هذه المرّة. لو لم تصل في الوقت المناسب، لكدنا نتراجع حتى بيلفيروتر. ذاك مكان استراتيجي عندنا في ريلنوك.”
ولو أنّ جيش لوماهوي اخترق بيلفيروتر، لكان ميزان النصر تغيّر. فهناك رعايا أبرياء للإمبراطورية لا يمكن سحقهم بالمدافع، وكان دوق بيلفيروتر، وهو بمثابة ذراعه اليمنى، سيتكبّد خسارة فادحة لو هُزم.
“يبدو أنهم تصدّوا ببسالة أيضًا في بيلفيروتر.”
“دوق بيلفيروتر ليس بالهيّن. على أي حال، هو كلبي الآخر الذي ربّيته. تزوّج مؤخرًا. حاولت جهدي أن أثنيه عن المشاركة في الحرب وقلت له: اكتفِ بحماية منزلك.”
برغم أنّه يستعمل كلمات همجية يلوكها السوقة، إلا أنّ أويتوس كان في جوهره يُظهر اعتناءً بوزيره. وأضاف أنّه إن أخذ الدوق العريس حديثًا إلى ساحة القتال، فقد تلومه زوجته الجديدة أشدّ اللوم.
“حين أعود، سأشرب ما أشاء، وأنام قدر ما أريد.”
ثم رفع ستارة الخيمة، فإذا بالليل الأسود قد اشتدّ ظلامًا.
“هل ستعود مباشرة؟”
“……”
“مؤسف. ظننت أنّنا كزملاء من أيام الأكاديمية قد نتبادل الذكريات قليلًا.”
حين سأله عمّا سيفعل بعد الحرب، لم يجبه جيهاردي. فضحك أويتوس ضحكة قصيرة وأمال رأسه وكأنّه توقّع ذلك مسبقًا.
لقد عاش دائمًا حياة منظمة وفق القواعد، وهذه المرّة لم يخرج عن توقّعات أويتوس.
لكن هذا لم يُبدّد شعور الخيبة في نفسه. وقد أدرك جيهاردي ذلك على الفور، فقال
بوجهٍ لا يحمل أي أثر للاعتذار، بل بملامح عادية وكأنّه أمر بديهي:
“لا يمكنني أن أغيب طويلًا.”
برغم ما شعر به من خذلان، كان هذا هو جيهاردي كاتاس كما يعرفه دومًا. فأومأ أويتوس دون أن يقول شيئًا.
“صحيح. كنتَ وليًّا للعهد آنذاك، أمّا الآن فأنت الملك.”
***
مرّت ثلاثة أشهر منذ أن وصلت قوات كاتاس إلى ريلنوك وخاضت المعركة البحرية في غاريا. بالمقارنة مع سبع سنوات مضت، كان يُرى أن هذه الحرب ستُحسم أسرع بكثير.
بانغ! بابابا-!
راقب جيهاردي الأسهم المنهمرة كالمطر، والرصاصات تشق الهواء بسرعة.
إلى جانبه كانت هناك حركات محمومة تعيد تعبئة المدافع بلا توقف.
وصلت إحدى المروحيات الحربية القليلة في العالم، وهي من نتاج التكنولوجيا المتقدمة، وأمطرت القذائف من السماء. غير أنّها لم تُستخدم إلا لتدمير قاعدة أمامية لجيش لوماهوي، لوجود رعايا إمبراطورية ريلنوك محتجزين كرهائن في إقليم دنبرغ.
وبجانبه، كان المركيز فانيسا، الذي كانت تطفو منه أحيانًا ملامح القائد القديم، يوجّه الجيش بحماسة بالغة عوضًا عنه.
وحين انضم جيش كاتاس إلى جيش ريلنوك، راحت الأعلام تخترق عاصفة الرمال خفّاقة معًا.
“جلالتكم، إن اخترقناهم بهذا الزخم، فالوصول إلى أسوار دنبرغ ليس إلا مسألة وقت.”
جاء المركيز فانيسا يعدو ليبلغه تقريرًا مرحليًّا. فهزّ جيهاردي رأسه موافقًا وأشار إلى النقطة التالية: موقع الالتقاء مع فرقة ريلنوك الثانية.
***
“الأجواء دموية. حتى اليوم.”
كان وجه إيزابيلا القاتم موجّهًا نحو النافذة. على مقربة منها، كانت مشاهد القصف واضحة للعيان. الدخان الأسود يتصاعد، والدوي الهائل يزلزل الآذان دون توقف.
وأدارت روميا رأسها بدورها نحو الخارج موافقةً:
“……نعم.”
بعد أن أنجبت روميا طفلها بسلام، جاءت إلى قصر دوقية بيلفيروتر لتستريح قليلًا بناءً على إصرار إيزابيلا. فقد رأت الأخيرة أنّه أفضل من بقاء روميا وحيدة في بيت لا يرعاها فيه أحد.
لكنها سرعان ما غيّرت الموضوع خشية أن تنتقل مشاعرها القلقة إلى روميا التي وضعت طفلها للتوّ.
“أما هذا الصغير، ففي غمرة ذلك، لا يكفّ عن الرضاعة.”
في حضن روميا، كان الطفل يلتقم ثديها بنهم بكل هدوء. وجنتاه الممتلئتان متورّدتان بلون ورديّ، وبشرته البيضاء الرقيقة بدت ناعمة للعين. قبضته الصغيرة المنكمشة بإحكام بدت أصغر من أن تُقارن بأي شيء. نظرت إيزابيلا إليه بوجه يفيض بالرضا.
عندما بلغها أنّ آلام المخاض قد طالت ورُوّعت من احتمال فقدان روميا، كان قلبها قد سقط في هاوية الفزع.
لكن حين رأت هذا الكائن الصغير المتململ، أدركت لمَ أصرت روميا على إنجابه مهما كلّفها الأمر.
‘إنه يشبهه إلى حدّ مدهش.’
المشكلة أنّ هذا الأمير الصغير يشبه تمامًا ذلك الرجل الذي دفع روميا إلى الهاوية.
في تلك اللحظة، علا وقع خطوات مسرعة في الممرّ، وفُتح الباب فجأة دون طرق.
“سيدتي! كارثة!”
“ماذا هناك؟”
“فلول من جيش لوماهوي، المطرودين من دنبرغ، اقتحموا بيلفيروتر. أما الدوق، فقد خرج فجر اليوم إلى ساحة الحشد تلبيةً لنداء جلالته…….”
قالت روكسانا، كبيرة الخدم في قصر بيلفيروتر، ذلك بوجه مصفرّ مرتجف. ارتعاش صوتها أفصح عن مدى الرعب الذي تملّكها.
وهذا وحده كافٍ ليدلّ على أنّ الوضع قد آل إلى الأسوأ.
وقع الخبر على إيزابيلا كالصاعقة. فأن يُخترق دفاع بيلفيروتر في الوقت الذي غاب فيه الدوق، إنّما هو نذير شؤم. التفتت روميا إلى طفلها في حضنها، ثم قبضت على ذراع إيزابيلا بقلق.
“إيزابيلا…….”
كان صوتها الخافت كفيلاً بإعادتها إلى وعيها. أسرعت إيزابيلا تجهّز حقيبة روميا قائلة:
“أنتِ، جهّزي نفسك وارحلي حالًا.”
“ماذا؟”
“اذهبي إلى قصر ماركيز موندريا. سأخبر السيدة الكبرى بما حدث، وتحتمين هناك.”
بينما كانت إيزابيلا تحشو الثياب على عجل في الحقيبة، حدّقت بها روميا مذهولة ثم هزّت رأسها.
“وأنتِ؟”
“سأقاتل. روميا، أنا من بيلفيروتر الآن. حتى لو اختُرق سور القلعة، فهناك الحرس الخاص بالبلدة. إنها فرقة فرسان قديمة حمت هذه العائلة أجيالًا. ما زالت الفرصة قائمة.”
ابتسمت إيزابيلا بحنان لتهدّئ من روع روميا، لكن يديها لم تتوقفا عن الحركة. أطبقت يد روميا على الحقيبة ودَفعتها نحوها قائلةً بصرامة:
“زوجي يقاتل، فلو هربت خوفًا، فمن سيحمي هؤلاء؟”
دموع روميا انسابت بلا وعي. أرغمت نفسها على التحمل من أجل طفلها، لكن جسدها أخذ يرتجف.
كم من مأساة يتمنّى المرء ألّا تقع، ثم تقع في النهاية. حاولت روميا أن تهزّ رأسها رافضةً الرحيل، لكن إيزابيلا دفعتها بسرعة، مصرة ألا تترك لها مجالًا للعناد.
“أنا الآن من بيلفيروتر، وعليّ أن أحمي أهلها. وأنتِ أيضًا، صار لك من تحمينه. أصبحتِ أمًّا يا روميا.”
“…….”
“عليكِ أن تحمي طفلك.”
وعندما لم تتحرك روميا، أشارت إيزابيلا إلى الرضيع في حضنها.
كانت الطفل، وقد شبع، يحدّق في وجه روميا بعينيه الصافيتين، وما إن التقت نظراتهما حتى ابتسم ابتسامة باسمة.
اغرُقت عينا روميا بالدموع، لكن لم يكن أمامها إلا أن تسرع خطواتها وتمضي. امتد ممرّ قصر بيلفيروتر أمامها طويلًا، وكأن لا نهاية له.
أعدّت إيزابيلا العربة، فركبتها روميا مع طفلها، وانطلقت بهما نحو قصر موندريا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 100"