حين يمضي الزمن، تتلاشى الذكريات. وإن كانت علاقة عابرة كسحابة مرت سريعًا، فإنها أشد اندثارًا.
كانت روميا في الآونة الأخيرة، كل ليلة قبل أن تنام، ترسم وتُمزق مرارًا التصاميم التي تنوي إرسالها إلى فيوليت. ورغم أن فيوليت قد ألحّت عليها أن تبتكر التصاميم، فإن روميا أيضًا لم يكن بوسعها أن تواصل ذلك لولا أن في قلبها محبةً واهتمامًا.
في الليل، حين يغط الجميع في النوم، كانت روميا تجلس إلى ضوء شمعة واحدة، كلما انساب حبر القلم الأسود الكثيف فوق الورق الأبيض، ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة.
قبعة تليق بإيزابيلا، تلك التي تبعث في كل خطوة حيوية لكنها في أعماقها تحمل نضجًا لا تخطئه العين.
وقبعة أخرى من أجل السيدة ميريج، القاسية في ظاهرها لكنها تؤدي واجبها بجدّ ومسؤولية.
كان قلم روميا ينطلق بلا تردد. استلهام شخص ما كـ”مصدر الهام” لتصميمها أمر ممتع بحق. غير أن الخيال توقف حين خطرت هيرين فوتاميا ببالها.
توقف صوت احتكاك القلم فجأة. رمقت روميا الورقتين اللتين أكملتهما للتو، وزفرت تنهيدة ثقيلة. كيف يمكن أن تُحاط هيرين فوتاميا، ابنة عالم آخر مختلف كليًا، بتصميم من يدها هي؟
مثل زرٍ سقط أرضًا، سقط معه تقديرها لذاتها وثقتها بنفسها وكل شيء آخر. وما زالت تذكر بوضوح ذلك الشعور بالانكسار.
فإن كانت هي بالنسبة له نسمة عابرة لا أثر لها، فقد كان الأمير الوريث جِهاردي بالنسبة إليها كالإعصار، أو كموجة مدٍّ هائلة. مضى سريعًا، لكنه خلّف في نفسها ندوبًا لا تُحصى.
ولهذا السبب، كان قلبها دائمًا يضطرب خوفًا من أن يتكرر الأمر.
—
الوقت ذاته. المكان ذاته. الأعمال ذاتها. الحفاظ على النظام لم يكن صعبًا. بل إن التنظيم الدقيق جعل إدارة الوقت أكثر فاعلية لمعالجة المهام الجسيمة التي تتكدس يومًا بعد يوم، ومن ثم التفرغ للتشاور بشأن ما يستجد من قضايا والتفكير المستمر في ازدهار كاتاس. وكانت الملكة الراحلة أوليفيا تردد دائمًا أن ذلك هو جوهر معنى أن تكون ملكًا.
‘لكن هذا مختلف قليلًا.’
كانت هيرين تعرف ذوقه جيدًا. فلا شك أن طهاة القصر وخدمه المقرّبين أسرّوا لها بما يحب.
لم يكن يقترب من الحلويات قط، وكان يفضّل الشاي المرّ أو القهوة السوداء القاسية. أما الأطباق الجانبية فكانت مجرد بضع لقيمات من بسكويت غير محلى أو كعكة إيرل غراي.
لكن على الصينية الفضية أمامه اليوم، وُضعت أشياء غريبة عمّا اعتاد. شطائر مزينة على نحو مبالغ فيه، مع عصير فاكهة حامض حلو لا يذكر أنه تذوقه إلا مرات قليلة في حياته.
وكما ارتجف كتف روميا كلما التفت برأسه، ظلت تنكمش كحيوان صغير مذعور.
ماذا كانت تفعل قبل أن تأتي؟ بدا مظهرها مثيرًا للتساؤل. قبعة مهترئة تعانقها بذراعيها مع الصينية بدت وكأنها انضغطت وتشوهت.
‘أين رأيت تلك القبعة؟ … نعم، يومها أيضًا ارتدتها.’
قبعة ليست واسعة الحافة ولا ضيقة، مشدودة بشريط وردي طويل نحيل، بالكاد تخفي خصلات شعرها البني المتموج.
اهتزّ اهتمام جهاردي لحظة واحدة تجاه القبعة، ثم عاد إلى الهدوء. وفي تلك اللحظة سألت روميا بصوت متردد:
“ألا تحب الشطائر؟”
“لا.”
إذن لماذا يحدق بها من دون أن يتناولها؟ التهمها القلق، فرمقته بعينين مضطربتين.
كان من المفترض أن تكون لحظة قصيرة يتذوق فيها ما أحضرته هيرين، بعد أن صرف معاونيه كما يفعل عادة. لكنه لم يُبد أي نية في لمس الطعام.
منذ ذلك اليوم، صارت هيرين كثيرًا ما تكلّف روميا بمهمة إيصال الطعام إلى جهاردي. وكانت روميا تؤدي المهمة بدقة، وتنقل تعليقاته إلى هيرين كما هي.
ولهذا صارت هذه العادة مألوفة لهما. ومع ذلك، بدا رد فعل جهاردي أمام الشطيرة غريبًا على روميا، حتى جف حلقها.
وحين أنزل الشطيرة التي رفعها قليلًا، خرج من فمها دون وعي صوت “آه…”.
“لن تأكلها إذن؟”
“نعم.”
كان جوابه مقتضبًا حاسمًا، مما جعل شفتيها تنفران بتذمر.
الناس كلهم أيقنوا أن جهاردي وهيرين، إن تم الزواج بينهما، سيكونان مثال الزوجين المتحابين. لكن روميا لم تر في تصرفاته أي بادرة حب حقيقي.
لم يكن يهتم إلا بأن يذكر رأيه في الطعام. لم يسألها يومًا كيف حالها، أو هل أكلت، أو ما تفعل.
“أليس هذا هو الحب؟ أن يهمّك أمر من تحب، وأن تقلق على تفاصيل يومه؟”
لكن كل من حولها، عداها، كانوا يتحدثون عن حب عظيم يجمعهما. حتى بدأت تتشكك في تعريفها هي للحب.
ولمّا رفعت عينيها إلى جهاردي الجالس أمامها، أحست بوضوح أنه بعيد عنها بعد السماء عن الأرض.
“إذاً… هل يمكنني أن أذهب الآن؟”
“اذهبي.”
كان الإذن قد أُعطي، فلم يبق سبب للبقاء. مدت يدها لتضع القبعة فوق رأسها حين استوقفها صوته.
“تلك القبعة.”
احتاجت لحظة لتفهم أنه يقصد ما ترتديه. رفعت يدها تثبّت القبعة على رأسها، وخفق قلبها بشدة وهي تتساءل أي كلمات ستخرج من فمه الآن.
“لقد ارتديتها من قبل أيضًا.”
عينيها الخضراوتين، الصافيتين كزمرد ناصع، اضطربتا في بريقهما.
لم تصدق أذنيها. كان دائمًا محاطًا بالناس المهمين، في مواقع عظمة واهتمام. فكيف يذكر فتاةً من بيريدروز النائية، مرّت أمامه مرورًا عابرًا؟
أم لعلها تمنت في أعماقها أن يكون قد نسيها.
تذكرت الزر المتدلي، وملابسها المتهالكة التي لم تسلم يومًا من النقد. احمرّ وجهها وهي تغطيه بكفيها.
“… تذكرني إذن؟”
“أنا لا أنسى ما أراه أو أسمعه ولو لمرة واحدة.”
يا لغبائها إذ لم تدرك ذاكرته الحادة.
لم تعرف إن كان يتحدث عن القبعة أم عنها هي، لكن النتيجة لم تُرضها في كلا الحالين. بينما كانت تلوم نفسها في صمت، صرف بصره عنها.
“هل هي عزيزة عليك؟”
رغم أن سؤاله بدا عابرًا، أحست روميا أن أنفاسها تُسلب. وجوده وحده يكفي ليشعرها أنها مكبلة بسلاسل.
في تلك اللحظة، دخلت نسمة هواء من النافذة المفتوحة، فتناثرت الأوراق ثم سقطت بلا حيلة.
تمتمت بصوت مرتعش:
“انها أول قبعة أصنعها بنفسي.”
“ليس غريبًا على ابنة آل بيرلوس صانعي القبعات.”
انطلق صوته الرتيب كالسهم في صدرها.
‘ابنة آل بيرلوس صانعي القبعات’ — الكلمة التي طالما سخر بها الآخرون من أصلها المتواضع. لم تعلم إن كان الأمير يعرف دلالتها أم لا، لكن وقعها كان موجعًا.
ارتعشت عيناها. رمقته بنظرة مليئة بالخوف والمرارة.
هو من جرحها، لكنه تركها وحدها تواجه ألم تفسير كلماته. لكنه لطالما كان يعرف كيف ينفذ إلى مكامن ضعفها.
عضت على شفتها الملتوية بشدة، وضغطت على القبعة بين يديها، راجية أن يفقد اهتمامه بها سريعًا. فكل نظرة منه كانت كالنار تحرقها.
وسرعان ما عاد إلى أوراقه، تاركًا إياها تتنفس ببطء من جديد. ولم تفق إلا وهي تهرع خارجة من مكتبه، تجري كالهاربة من قيد خانق.
‘مخيف…’
كأن كل حاسة في جسدها تصرخ بها أن تبتعد عنه.
كان قلبها يخفق بعنف تحت كفها، أكثر حرارة من شمس منتصف النهار التي كانت تصب نارها فوق رأسها حين مسحت عرقها عن جبينها.
‘لن أعود… أبدًا.’
بكل إخلاص، تمنت أن تكف هيرين عن إرسالها بهذا النوع من المهمات.
—
قبعة. لم يثر انتباهه سوى تلك فقط.
لم يزعجه سوى لحظة رؤيتها تحتضنها وكأنها أثمن ما تملك، فتأثر مزاجه قليلًا.
ابتسم ابتسامة مائلة وهو يضع أوراقه جانبًا. لم يحتج أن ينظر إلى ظهرها وهي تهرب مسرعة، فقد ارتسم المشهد في ذهنه واضحًا، وذلك ما أضحكه.
‘أتراها كانت تهرب هكذا من مجرد نظراتي؟’
تذكر كيف كانت ترتبك كلما وقعت عيناها في عينيه. كيف تُنزل رأسها فجأة وتحدق في قدميها، كأنها تظن أن ذلك سيحررها من وقع نظرته. وكان يجد في ذلك سخرية.
بالفعل، كانت روميا مختلفة عن كل من في العاصمة أو القصر. لا أزياء فاخرة، لا زينة متكلفة. مجرد فتاة ريفية من بيريدروز تحمل معها خشونة القرى أينما ذهبت.
وضع قلمه بحدة على الطاولة ونهض.
ربما كان الأمر مجرد فضول. أو لذة غريبة في قراءة مشاعرها التي تنعكس بوضوح على وجهها دون أن تخفي شيئًا.
‘أول قبعة صنعتها. لماذا هي متشبثة دائمًا بـ”الأول”؟ أليست كل البدايات تبهت مع مرور الزمن؟ فما المعنى إذن؟’
حين تحدث عن القبعة شعر كأنه لص يحاول انتزاعها منها. كيف قبضت عليها بيدين مرتجفتين، كأنها ستُسلب منها؟
‘لو أني نزعتها، أكانت ستبكي هناك؟’
تخيل عينيها الواسعتين تغمرهما دموع معتمة، فانقبض صدره فجأة. فكّ ربطة عنقه قليلًا وهو يعيد قراءة أوراقه في هدوء.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"