1
“لاريت براون.”
لم يستطع أدريان أن يُبعد بصره عن الاسم المدوَّن في أعلى الملف.
“لاريت… لاريت براون.”
ظنّ أنّه وإن دفن هذا الاسم في أعماق ذاكرته منذ زمنٍ بعيد، فلن يسهل عليه أن يعيشه منسيًّا طوال حياته.
لكنّه لم يتخيّل قَطّ أنّه سيصادفه مجدّدًا على هذا النحو.
“في الواقع دوقيّ. لعلّه لا لزوم لقول هذا… لكنّها بالفعل لاريت براون التي كانت تعمل في القصر.”
تسلّل صوت مساعده المتردّد بين أفكاره المضطربة.
“نعم، إنّها لاريت براون نفسها.”
“…….”
“تبدو أنّها بعد أن غادرت القصر قبل ثماني سنوات، أنهت دراستها في كليّة الطبّ بالأكاديميّة بتفوّق.”
شعر أدريان بصداعٍ يزداد ثِقَلاً، فتنفّس تنهيدةً عميقة وألقى ملفّ “قائمة الأطباء الموصى بهم” بإهمال على الطاولة، فتناثرَت معه رسائل وصيفات النبلاء المكدّسة فوق المكتب إلى الأرض.
ذلك الاسم، “لاريت براون”، الذي عاد ليطلّ بعد غياب طويل.
حياتها التي حاول أن يُدير ظهره لها سنينًا.
كلّما أراد أن يتجاهل التفكير، ظلّت تلك الحروف القليلة تتردّد في ذهنه بإلحاح.
‘تبًا.’
لم يخرج في النهاية إلّا شتيمةٌ كاد أن يبتلعها.
وقد بدأت كلّ هذه القصة منذ لحظة سقوط جدّته، السيّدة العجوز “إلينورا فيرتيانو” السيّدة الوصية السابقة.
فإلينورا التي فقدت زوجها في شبابها، ثمّ فجعت بموت ابنها وزوجته تاركَين طفلًا رضيعًا وهو أدريان، حملت عبء بيت فيرتيانو وحدها ما يقارب الأربعين عامًا.
امرأةٌ صلبة حمت بيت الدوقيّة من الاضطرابات والثورات، وصارت الوصيّة الصارمة على حفيدها الوحيد.
لم تكن لطيفةً ولا حنونةً، بل عُرِفت بالبرود.
لكنّ الجميع أقرّ أنّها “السيّدة الحديديّة” التي صانت مجد الدار في أوقات الخطر.
ورغم ما لاحق أدريان منذ مولده من طعناتٍ حول أصل والدته، فإنّها قاومت الضغوط وربته ليكون الوريث الجدير بصرامة.
وما إن تخرّج شابًّا من المدرسة العسكريّة حتّى سلّمته منصب الدوق.
غير أنّها، وبعد أن قالت له،”لو أتممتَ خطبتك فسأستطيع أخيرًا أن أستريح…”، لم يمرّ شهر حتّى فقدت وعيها وانهارت.
ومن أجلها استدعى أدريان كلّ الأطبّاء المرموقين والكهنة القادرين على استعمال القوّة الروحيّة، لكن لا أحد تمكّن من علاجها أو حتى إيقاظها.
لم يبقَ أمامه إلّا أن يجمع أعلام الطبّ في الإمبراطوريّة بأسرها ليحاولوا إنقاذها.
ولم يكن يتوقّع أنّه سيصطدم مجدّدًا باسم “لاريت براون”.
اسمٌ ارتبط بذكريات مراهقته، وبخطٍّ أنيقٍ ما زال عالقًا في ذهنه.
“ا-ا- اسمكِ… لاريت… صـ-صـ-صحيح؟ أ-أمّا… أنا… أدريان.”
كيف يمكن لخادمةٍ في قصر فيرتيانو أن تجهل اسم السيّد الوحيد؟
كم سخرت منه في داخلها آنذاك؟
“هـ-هل يمكنكِ… أن تأتِي غدًا أيضًا؟ أنتِ… طيّبة، وجميلة… ومعكِ… أشعر بالراحة… والطمأنينة.”
ذلك الاعتراف الطفوليّ المتلعثم.
“أ-أنا… أ- أحبّكِ يا لاريت. إنّني حقًّا… أحبّكِ.”
كان صادقًا ببساطته، لكنّه لم يدرك إلّا بعد سنين كم أثقل قلبها به.
فقد تركت القصر فورًا بعد سماع تلك الكلمات، ولم تخلّف وراءها إلّا رسالة قصيرة.
[سيدي الصغير، أتمنّى أن تصبح دوقًا عظيمًا.
لن أعود إلى هنا أبدًا.
أقسم بشرف والدي على ذلك.
فلا تبحث عنّي.]
نعم…
حين تلمح الخادمةُ وُدًّا من سيّدها، فلا خيار أمامه سوى الرحيل.
‘كنتُ حقًّا أحمقَ يومها.’
لم يحمل أدريان ضغينةً تجاهها.
بل نظر إلى صورته في المرآة القريبة، شابٌّ وسيم، أشقرُ الشعر، أزرقُ العينين، تكسوه ثقةٌ وهيبة.
شخصيةٌ بارزة في المجتمع النبيل، ناجحٌ في السياسة والأعمال، محاطٌ بالمعجبين.
لكنّه يوم كان في الرابعة عشرة لم يكن سوى فتى هزيل، متردّد الكلام و مُتلعثم، منغلقًا على نفسه.
لو كان مكان لاريت آنذاك، لاشتهى هو نفسه الهرب من ذلك الصبيّ المثير للشفقة.
ولعلّ تلك الصدمة هي التي صاغت شخصيّته الجديدة.
“إذًا… لاريت براون.”
قال مساعده مواصلاً التقرير: “تُعَدّ اليوم من أمهر الأطبّاء في الإمبراطوريّة. تخرّجت الأولى على دفعتها، وعالجت الكثير من الحالات المستعصية. بل تلقّت عروضًا للعمل في القصر الإمبراطوريّ نفسه. والأهمّ أنّها قبل نصف عام أعادت الحياة إلى نجل الكونت بيرنست الذي كان في غيبوبة، وهو مصابٌ بنفس أعراض السيّدة إلينورا تقريبًا. لذا فهي الأنسب.”
“أعادته قبل نصف عام؟”
أدريان نطق أخيرًا بعد طول صمت.
“فلماذا لا تزال عند عائلة بيرنست إذن؟”
“أرادت المغادرة، لكنّهم تشبّثوا بها خوفًا من انتكاسة جديدة. فقد ظلّ الشابّ في غيبوبة سنةً كاملة.”
“إذن لا جدوى من محاولة استقطابها.”
أجاب مساعده وهو يميل برأسه:
“لكن إن عرضنا عليها مالًا أكثر؟ فهي ما زالت عندهم بسبب الأجر الكبير.”
أدريان قرأ من جديد المقطع الذي يعرفه.
[لاريت براون، 23 عامًا.
دخلت أكاديميّة العاصمة في الخامسة عشرة، وتجاوزت الصفوف لتتخرّج من الطبّ في التاسعة عشرة.
بدأت العمل في المستشفى الملحق بالأكاديميّة قبل تخرّجها، ثمّ صارت طبيبةً خاصّة لدى بيوت النبلاء.
ويُقال إنّها اختارت هذا الطريق لأجل الأجر فقط.]
“الأجر…؟”
لم يبدُ الأمر منطقيًّا له. في ذاكرته لم تكن لاريت ممّن تحرّكهم الأموال.
لو كان المال هدفها، لكانت قد استغلّت ضعفه حين كان طفلًا يتوسّلها بكلّ كيانه، حتّى لو طلبت منه جواهر إلدار لأعطاها إيّاها بلا تردّد.
لكنّها لم تطلب شيئًا… ورحلت كما لو أنّها لم تكن في هذا المكان أصلًا.
“أأنت متأكّد؟”
“نعم، يُقال إنّها عُرِفت بالبخل منذ أيّام الأكاديميّة.”
ابتسم أدريان بسخرية. كم من الأقاويل في مجتمع النبلاء بلا أساس. ومع ذلك، لم يكن أمامه بدائل كثيرة.
فقال ببرود: “اعرض عليها ضعف ما تدفعه عائلة بيرنست.”
كانت علاقة الماضي المزعجة حدثت منذ ثماني سنوات، والآن كان الأهمّ هو بذل كلّ جهدٍ لإنقاذ إلينورا.
لذلك، حتّى وإن بدا الأمر بلا أمل، كان من الضروري المحاولة.
“إذا بدا عليها التردد، يمكنك مضاعفة العرض ثلاث مرات.”
حتى وهو يقول ذلك، لم يعتقد أدريان أنّ لاريت ستأتي إلى هنا.
فهي التي تركت رسالةً قبل ثماني سنوات تعلن فيها أنّها لن تعود أبدًا.
لاريت التي يعرفها لم تكن امرأة تغيّر إعلانها الأخير بهذه السهولة أمام عرضٍ متكبّرٍ وغير مهتمّ.
ولم يكن صبيٌّ في سنّه آنذاك سيتجرّأ على مطاردتها بلا سبب.
” قل لها إذا نجحتِ في شفاء جدّتي تمامًا، سأدفع لكِ مكافأةً إضافية تعادل عشرة أعوام من راتبكِ فورًا.”
أنهى أدريان كلامه وكأنّه يلقيه بعيدًا.
“واتصل بكلّ طبيبٍ موجود في القائمة التالية، واحدًا تلو الآخر.”
فهي، بطبيعتها الحاسمة، سترفض بلا تردّد دون الاستماع إلى الشروط، على أيّة حال.
***
وبعد بضعة أيام، في مكتب أدريان.
“تحيّة طيبة، سيدي الدوق.”
لم يصدق أدريان ما يراه أمامه.
“الشروط التي عرضتها كما هي، أليس كذلك؟ بالطبع يجب أن تشمل تكاليف الإقامة والطعام، وأن يتم تغطية جميع نفقات الأدوية، وأرجو أن يتم توضيح ذلك في العقد.”
حبّه الأول السابق، بوجهها الخالي من التعبير، جلست شامخةً أمامه.
“وإذا تردّدت، أرجو أن تتحمل تكاليف سفري عند عودتي إلى قصر الكونت بيرنست.”
شعر أدريان بدوارٍ في رأسه، فلم يستطع الكلام للحظة.
حينها نظرت إلى تعابيره المتشدّدة، وأضافت بحزم:
“وإذا كان الذهاب والعودة صعبًا، فليكن على الأقل العودة فقط…”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"