رآها تتجمّد، وعينيها تتّسعان رعبًا. لم يكن صراخه فقط ما أرعبها… بل الوجه الذي كُشِف أمامها. أدرك ذلك في اللحظة التي رأى فيها ملامحها ترتجف، ووجنتيها تفقدان لونهما.
شعر بوخز الندم يتسلّل إلى صدره، وبلع ريقه بصعوبة. لقد رأته.
وجهه المشويّ القبيح.
كان التشوّه عميقًا، يمتدّ من أسفل العين وحتّى منتصف الفكّ. الجلد واللحم احترقا بطريقة مرعبة، وما تبقّى كان مجرّد أربطة قليلة بالكاد باقية في مكانها.
والعين التي في جهة التشوّه كانت قد نالت نصيبها من تلك الإصابة، والآن صارت عمياء.
ارتعدت نيملوث عندما رأت هذا المنظر المخيف، وبدأ قلبها يخفق بسرعة كطبول الحرب. هذا الوجه رأته في كوابيسها الطويلة التي لا تنتهي.
في كلّ مرة تراه فيها، كان يصرخ عليها ويخرج من فمه هواء ساخن يذيب جلدها.
“نيملوث، أرجوكِ أن لا…” قبل أن ينهي ثراندويل محاولته الفاشلة في السيطرة على الوضع، صرخت نيملوث خائفة ومرتاعة، وركضت خارجة من الغرفة بأقصى ما تستطيع.
أراد ثراندويل أن يلحق بها ويخبرها بأنه لا يوجد شيء يُستحق كل هذا الذعر ، و إنتابته رغبة شديدة في الاعتذار عن صراخه في وجهها.
لكنه ظلّ في مكانه، واقفًا لا يفعل شيئًا. لم يرغب بحدوث هذا، ولم يكن ينوي أن تراه هكذا. لم يكن مستعدًا لنظرة الاشمئزاز في عينيها، ولا لذلك الصمت القاتل الذي سبق صراخها.
أراد أن يبوح بأشياء كثيرة، لكن كبرياءه منعه. لذا، ظلّ في مكانه، لا يفعل شيئًا لإصلاح هذا الموقف غير السار.
…
ركضت نيملوث كما كانت تفعل في كوابيسها، بأقصى سرعة، دون أن تتوقف عند أي أحد، وكأن حياتها تعتمد على ذلك. لم يتوقف قلبها عن الخفقان بسرعة غير طبيعية، ولم يخفّ إحساسها بالرعب من ذلك الوجه الذي رأته.
الوجه المخيف ذاته الذي كان يصرخ في وجهها، كما يفعل في كل مرة يظهر فيها في أحلامها المزعجة.
اصطدمت بجسد رجلٍ أحاطها بذراعيه على الفور. حاولت التملّص منه، وصرخت: “اتركني!”
“ماذا بكِ، يا عزيزتي؟”
كان صوته أشبه بشلال ماء بارد صُبّ فوق نيران خوفها. لقد كان والدها.
رفعت نظرها إليه، فرأت القلق الصريح في عينيه.
ورغم أنها لم تكن تشعر بالانتماء الكامل لهذا الرجل، إلا أنّ كل ما رغبت به في تلك اللحظة هو عناق… وإحساس بالأمان يحميها من مخاوفها.
وضعت رأسها على صدره، ولا تزال أنفاسها متسارعة، بفعل الجري والخوف الذي اجتاحها قبل قليل.
“حبيبتي… ماذا حدث؟” سأل تورغون وهو يداعب شعر ابنته محاولًا تهدئتها.
أجابته نيملوث بصوت متهدّج: “لقد رأيته…”
وبدأت دموعها تنهمر على وجنتيها، وتبلّل ثوب والدها.
عقد الأخير حاجبيه، لا يفهم إلى من تشير، فسألها: “من؟”
“الملك ثراندويل… لقد رأيت وجهه المخيف.”
تورغون ظل صامتًا لثوانٍ، يحاول استيعاب ما سمعه. لم يكن يتوقع أن يكون سبب ذعر ابنته هو الملك نفسه.
حاول أن يفهم الأمر بشكل أوضح، فسألها بلطف:
“هل أغضبته؟”
نظرت نيملوث إلى والدها، ونظرها مضبّب من كثرة الدموع التي ذرفتها، وردّت بصوت مرتجف:
“كنتُ فقط… أردت أن أسأله عن شيء يخصني… لكن… لكنه غضب وصرخ في وجهي، تمامًا مثل كوابيسي التي لم تفارقني منذ غيابي عن الوعي.”
تجمّد قلب تورغون وهو يسمع تلك الكلمات. لم يكن يعلم أن ابنته ترى كوابيس عن الملك، أو أن شيئًا كهذا يسكن في أعماقها منذ زمن.
ربّت على ظهرها برقة وقال:
“لا بأس، تلك مجرد أحلام. أما في الواقع، فالملك لن يؤذي شعرة منك، يا عزيزتي. كنتما مقربين جدًا، وفي طفولتكما لم تفترقا إلا عند النوم.”
لكن نيملوث هزّت رأسها، ترفض تصديق كلماته:
“كلا، لا أريد أن أراه. أرجوك خذني إلى غرفتي.”
تنهد تورغون بقلة حيلة، ولم يجد أمامه سوى أن يُطاوِعها؛ فهي لا تتذكر شيئًا، ومن الطبيعي أن ترتعب من منظر وجه ثراندويل المشوه وهو يصرخ.
أمسك بيدها وسار بها نحو غرفتها. كان جسدها لا يكفّ عن الارتعاش، وكلمات والدها عن علاقتها القديمة بالملك تدور في رأسها… لكنها لم تقتنع.
“لو كان قريبًا مني إلى هذا الحد… لما صرخ في وجهي.”
فكّرت نيملوث في سرّها، وقلبها يزداد انغلاقًا.
*******
مرّت أيّام، وظلّت نيملوث في غرفتها، لا تجرؤ على الخروج، ولا حتى على فتح الباب. وهذا ما جعل كلاً من والدها وثراندويل يشعران بالقلق عليها.
حاول تورغون أن يجعل ابنته تتحدث مع الملك مرة أخرى، لمواجهة خوفها، ولكي تعلم أنه لا يوجد شيء يستحق كل هذا الذعر. لكنها ظلّت ترفض، وعندما يحاول أن يُصرّ على طلبه، كانت تصرخ وتشُدّ شعرها.
أما ثراندويل، فكان يقوم بأعماله المعتادة بصفته ملك ميركوود. ظلّ هادئًا طوال تلك الأيام التي مضت، ولم يُبدِ انزعاجه على الإطلاق.
لكنّ باله كان يتّجه إليها باستمرار، ويتذكّر تلك النظرة التي ارتسمت على وجهها عندما رأت شكله الحقيقي.
في كل مرة يتذكّر تلك النظرات، كان صدره يؤلمه أكثر فأكثر.
لو أن شخصًا آخر رأى ذلك الوجه وخاف منه، لما اهتمّ للأمر.
لكنّه تألّم عندما رأى الخوف واضحًا في عيني شخصٍ مقرّب منه، وكان هو السبب في ذلك.
في المساء
أثناء سيره في ممرات القلعة، قادته قدماه إلى حيث غرفة نيملوث. وكان تورغون قد خرج لتوّه منها، يحمل بين يديه صينية طعام بالكاد تمّ لمسها، مما جعل القلق يتسلل إلى قلب الملك.
اقترب ثراندويل من والدها وسأله:
“كيف حالها؟”
نظر تورغون إليه، وقد بدا التعب والقلق واضحين في عينيه، وأجابه قائلاً:
“إنها لا تأكل شيئًا منذ أيام… أخشى أن يؤذيها ذلك، وأن تسوء حالتها أكثر.”
ساد صمتٌ قصير بين الرجلين، لم يُسمع خلاله سوى صوت أنفاسهما المتثاقلة.
خفض ثراندويل نظره إلى الطعام، وتمتم بنبرة بالكاد كانت مسموعة، وكأنه يهمس لنفسه:
“أظن أنها بحاجة إلى السلام…”
سمع تورغون كلماته، فسأله:
“هل لديك اقتراح، يا مولاي؟”
وجّه ثراندويل نظره نحو الرجل الواقف أمامه، وشعر بوخز طفيف من الندم، وتمنى لو أنه لم يتفوه بتلك العبارة.
لكنّه سحق رغبته في التراجع، وقرّر أن يجيبه بصراحة، متجاهلًا نداء قلبه الذي توسل إليه بالصمت.
“أجل… أقترح أن تأخذ ابنتك إلى فالينور. على الأقل، ستحصل على السلام هناك… وستقابل أمها، وكل أصدقائها القدامى.”
أخذ تورغون يفكر في هذا الاقتراح للحظات، ثم هزّ رأسه موافقًا.
كان يجب عليه منذ البداية أن يأخذ ابنته إلى فالينور؛ حيث لا ألم، ولا مرض، ولا حتى ذكريات، ولا مآسي الحروب القديمة.
هناك، يمكنها أن تعيش وتزدهر بجانب أسرتها، تحت حكم الفالار…
حيث يوجد السبيل الوحيد لشفائها، في أرض السلام المطلق.
تمنّى الجزء الأناني من ثراندويل لو أن بإمكانه إعادة الزمن إلى الوراء قليلًا، فقط لئلا ينطق بذلك الاقتراح لوالدها.
ذهاب نيملوث إلى هناك يعني وداعًا أبديًا، وقد لا يراها مجددًا، طالما ظلّ مصرًا على البقاء في مملكته، وحُكم شعبه.
لكن نصفه الآخر… شعر أن هذا هو الحل المناسب.
نيملوث تحتاج إلى السلام، في سبيل علاج روحها التائهة.
بعيدًا عن ماضيهما المشترك،
حيث لا يوجد شخص امتلأت روحه بالألم والكبرياء… الكبرياء الذي يجعل حتى أحبّ الناس ينفرون منه.
*****
مرّت الأيام ببطء، عندما أخبر تورغون ابنته أنهما سوف يرحلان من هنا برفقة مجموعة من الجان إلى فالينور.
في بادئ الأمر، لم تفهم معنى هذا، لكن عندما شرح والدها ما يوجد في تلك الأرض، وأنها قد تحصل على السلام هناك، شعرت برغبة في الذهاب إلى فالينور على الفور.
عندما حان يوم الرحيل، كانت متحمسة للغاية، وبدأت تُجهز نفسها، متجاهلة الصوت الذي كان يرجو منها البقاء هنا.
خرجت مع والدها رفقة الآخرين قبل طلوع الشمس، وكل منهم حمل فانوسًا ينير له الطريق.
عندما ركبت على ظهر الفرس البيضاء، انتابتها رغبة في البحث عن ثراندويل. جالت نظراتها حول محيطها، لكن لم يكن هناك أي أثرٍ له.
رفعت رأسها على أمل أن تلمح خياله، وقد كان ثراندويل هناك بالفعل. كان واقفًا عند إحدى النوافذ، وضوء المشاعل ينعكس على بشرته الشاحبة، مُظهرًا تجهم وجهه.
لكن هناك شيئًا في نظراته جعلها تشعر وكأن قلبها اعتُصر. لم تفهم السبب، لكن أيًا كان هذا الشعور، فقد آلمها. جعل الدموع تتجمع في مقلتيها، ثم انهمرت على خديها، بمجرد أن بدأت فرسها تسير متبعة الآخرين.
ظلّ ثراندويل يراقبهم، وبينما تتبّعهم بنظراته في الأفق، تلاشت أضواء الفوانيس، ولم يَعُد يراها مطلقًا.
هَبّت نسمة هواء باردة داعبت وجهه، مثل عناق وداع في خياله.
“لقد رحلت… رحلت وتركتني”، همس ثراندويل، وقد شعر بضيقٍ في صدره جعل التنفس مؤلمًا.
كانت نيملوث صديقته المقرّبة منذ زمنٍ بعيد، يكاد لا يتذكّر متى تعرّف عليها بالضبط،
لكنه يعرف جيدًا أنها كانت معه طوال أيام الطفولة وبدايات شبابه.
وعلى الرغم من عمق هذه الصلة بينهما، لا يزال يجهل سبب الحزن الذي اعتصر قلبه لحظة رحيلها.
كان الألم الذي يعيشه الآن، يشبه ما شعر به عندما رحلت زوجته ولم تعد قط.
وأيضًا، ذلك الألم الذي أحسّ به ذات مرّة قبل زواجه… لكنه وعد نفسه ألّا يتذكّر ذلك اليوم.
للحظة، أدرك ثراندويل أن الضيق الذي يشعر به في صدره الآن يشبه ألم فقدان فرصة الوداع، بعد معركةٍ طويلة خاضها.
إنه الموقف ذاته، لكن مع شخصٍ آخر… أو ربما ليس كذلك.
هزّ رأسه، محاولًا طرد تلك الذكريات التي لا يرغب بعودتها إلى ذهنه.
وعد نفسه أن ينساها، كما ينسى أحلامه عند الاستيقاظ.
ابتعد عن النافذة، ووقف أمام المرآة الكبيرة، ثم كشف عن وجهه الحقيقي.
ظلّ يحدّق في الجزء المشوّه، الذي طالما تفادى النظر إليه، حتى لمَحه بالكاد في مرّات عابرة.
لكنه هذه المرة، نظر مطوّلًا… حتى حفظ كلّ تجعيدة، كلّ عيب، إلى أن شعر بالغثيان من شكله.
اقترب من المرآة أكثر، ثم تكلّم، كأنه يخاطب شخصًا آخر”سوف تظلّ وحيدًا طوال عمرك… لن يبقى معك أحد. حتى ابنك… تركك ورحل.”
صمت لحظة، ثم همس
“أنت مجرد وحش.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"