لم أرغب في حدوث هذا… الأمر ليس بيدي، ولا يمكنني التحكم بمشاعري أو بالأفكار التي تدور في رأسي.
أرغب في هذا الرجل بكل جزء من كياني، لكنني لا أجرؤ…
لا أجرؤ على الاعتراف بذلك.”📜
نيملوث
ظلت نيملوث تنظر إلى الورقة الأولى، على أمل أن تتذكر أي شيء يتعلق بالشخص المعني بها. بدأت الأسئلة تدور في ذهنها باحثة عن إجابة، لكن لا أمل يُرجى من رأسها الخاوي.
من يكون؟
لمَ لم ترغب بحدوث هذا؟
خطر في بالها أن تُقلب الصفحة لترى بقية المذكرات، على أمل العثور على إجابات، وربما تجد شيئًا مميزًا يتعلق بها.
لكنها لم تفعل.
لا تعلم ما السبب الذي منعها من ذلك، لكن إحساسها الداخلي، والصداع الذي انتابها بمجرد التفكير في أي إجابة مقنعة لتلك الأسئلة، جعلاها تتراجع عن هذه الرغبة التي احتلت ذهنها.
أخذت نفسًا طويلًا، ثم وضعت الدفتر جانبًا بمجرد أن أغلقته.
نهضت من مكانها وأخذت تخطو إلى الشرفة العالية الممتدة حتى السقف، والمطلة على جدول ماء عذب تحيط به الأزهار من كل جهة. وعلى بعد أمتار منه، تقف الأشجار العالية، حاجبةً عنها رؤية ما يقع في أعماق تلك الغابة.
تفكيرها يجول في محتوى تلك الورقة، وتساءلت: هل يجب عليها أن تسأل أحدهم؟
ربما…
لكن من؟
خطر في بالها ثراندويل؛ لقد بدا لها وكأنه يعرف كل شيء عنها، كما أنه الملك كما قيل ، لذا من المرجح أن تكون لديه إجابات على أسئلتها.
أخذت الدفتر من على السرير، ثم خرجت من غرفتها متجهة إلى المكتبة على أمل أن تجده هناك.
لكن عندما دخلت، خابت آمالها؛ لم تعثر عليه، وشعرت بتوترٍ يجتاح جسدها، تجهل سببه.
أخذت نفسًا عميقًا، وبعد أن خرجت من المكتبة، نظرت حولها باحثةً عن أي شخص قد يدلّها على مكانه.
عندما رأت أحد الحراس يسير في الممر، اقتربت منه وسألته قائلةً:
“أين ثراندويل؟”
نظر الحارس إليها وقد استولت عليه حيرة شديدة مما قالته؛ كيف لها أن تنطق اسم ملكه من دون أي لقب؟
خطر في باله أنها قد تكون المرأة التي عُثر عليها في الغابة، والتي يُشاع عنها أنها صديقة الملك القديمة، التي رافقته في شبابه وبداياته.
بعد برهة صمت وجيزة، ردّ عليها بصوت هادئ ورزين:
“أجل، سيدتي… تعالي معي.”
أشار لها بأن تسير بجانبه، فامتثلت لطلبه. ظلت تفكر في الأسئلة التي ستطرحها، وحاولت أن تتوقع أجوبته.
ربما سيسخر منها، أو يرفض رؤيتها…
هذا التفكير جعلها تشعر بتوترٍ شديد، وبدأت عقدة غريبة تخنق معدتها.
استمرّ السير في ممراتٍ طويلة وسلالم مائلة، حتى بدا لها أن الطريق لا ينتهي. وأخيرًا، وقفت أمام باب غرفته.
كان الباب مصنوعًا من خشب البلوط الداكن، محفورًا عليه نقوش مائلة تشبه أغصان شجر التوت. وفي منتصفه، عند المقبض، كانت هناك خطوط دقيقة تشعّ من حوله، مما جعله يبدو كقرص شمسٍ صغيرة.
طرق الحارس الباب، وصدر من الداخل صوت ثراندويل الهادئ:
“ادخل.”
دخل الحارس، وظلّت نيملوث واقفة في مكانها، تستمع إلى ما يدور بينهما.
“يا مولاي، هناك امرأة تود مقابلتك الآن.”
ردّ ثراندويل، وقد بدا الانزعاج واضحًا في نبرته:
“قلت لكم إنني لا أريد أي إزعاج. من تكون هذه المرأة؟”
أجابه الحارس:
“إنها السيدة نيملوث.”
ساد صمتٌ ثقيل للحظات، جعل قلب نيملوث يخفق بسرعة، خوفًا من أن يرفض مقابلتها.
ثم كُسر حاجز الصمت، حين ردّ ثراندويل أخيرًا:
“دعها تدخل.”
دخلت نيملوث إلى الغرفة بعد أن غادر الحارس وأُغلق الباب خلفه. كان ثراندويل يسكب لنفسه كأسًا من النبيذ، بينما كانت هي تنظر حولها، تتأمل جمال المكان.
كانت الغرفة واسعة للغاية، ذات نوافذ مقوسة تصل إلى السقف، تطل على المملكة. أما أرضية الرخام، فكانت بلون كهرماني مخططة بخطوط من المرمر الأسود.
أما الرائحة، فكانت أشبه بكل شيء عَبق ؛ وكأن ثراندويل قد جمع كل أزهار الغابة وصنع منها هذا العطر الأخاذ.
“نيملوث، أردتِ مقابلتي. هل حدث معكِ شيء؟”
قُطِع حبل أفكارها عندما سمعت صوته، ذلك الصوت الذي أُعجِبت به منذ المرة الأولى التي سمعته فيها. لكن… كان هناك شيء مختلف هذه المرة.
شيء أقرب إلى دفءٍ ناعم تسلل إلى صدرها، جعل قلبها يرقص بخفة لا تعرف لها سببًا.
نظرت إليه، ولاحظت طيف ابتسامة خافتة تُزيّن وجهه المثالي. للحظات، شعرت وكأنها نسيت تمامًا ما كانت تريد قوله.
أشار لها بالجلوس على مقعدٍ خشبي مطلي بلونٍ فضي، كان شكله أشبه بمجموعة من الأغصان والأوراق المتشابكة.
وعندما جلست، مدّ لها كأسًا من النبيذ الخاص به، فأخذته منه وارتشفت بعضًا من الشراب الكحولي. توسعت عيناها بمجرد أن داعب المذاق الحلو الممتزج بحموضة طفيفة حواسها، وشعرت وكأن النكهات ترقص في فمها.
نظرت إلى الرجل الجالس أمامها وقالت متعجبة:
“مذاق هذا الشراب لذيذ للغاية، لم أتوقع أن يكون حلوًا هكذا!”
ارتفعت زوايا فم ثراندويل قليلًا، لكنها لم تُشكل ابتسامة، وسألها قبل أن يأخذ رشفة أخرى من كأسه:
“ما الذي توقعته إذن؟”
“لا أدري، ربما مذاق قوي به مرارة أو طعم قابض قليلًا… ويجعل رائحة الفم كريهة.”
عقد ثراندويل حاجبيه مستغربًا من وصفها هذا، وقال ساخرًا:
“من هذا الذي قد يشرب شيئًا مقززًا كهذا؟”
“لا أدري، لقد خطر في بالي فحسب!” ردّت نيملوث وهي تضحك، محاولة أن تخفف من توترها.
“حسنًا…” قال ثراندويل، “ما هو الموضوع المهم الذي جعلك تأتين إلى غرفتي في وقت راحتي؟”
كان التذمر واضحًا في نبرة صوته؛ لقد أزعجته بالفعل، لكنه كان ألطف من أن يخبرها بذلك بشكلٍ مباشر.
تذكرت نيملوث سبب قدومها، وأخذت الدفتر، وضعته في حجرها وأجابته قائلة:
“أردت أن أسألك عن شيء يتعلق بي.”
“حسنًا، وما هذا الأمر؟”
فتحت نيملوث الدفتر وبدأت تتحدث:
“لقد عثرت على دفتر يوميات قديم، وتبيّن لاحقًا أنه خاص بي.”
“دفتر يوميات!” تمتم ثراندويل بصوت خافت أقرب إلى الهمس، متعجبًا من هذا الأمر؛ لم تكن نيملوث، في ذلك الوقت، أشبه بامرأة تدون ما يحدث معها، لكن الأنثى المتوترة الجالسة أمامه قد تفعل.
أكملت نيملوث حديثها:
“لقد وجدت في أول ورقة به كتابة تعبر عن إحباطي، لأنني معجبة بشخص لا أجرؤ على أن أعترف له بمشاعري. ربما اسمه موجود في باقي الصفحات، لكنني شعرت بخوف ولم أفعلها؛ أعتقد أنني خائفة من أن أجد حقيقة قد تؤلم قلبي.”
سعل ثراندويل متعمدًا، لكي لا يضحك؛ كانت فكرة أن تأتي نيملوث إليه وتعترف بأنها كانت تحب شخصًا ما في الماضي قد جعلت الجزء اللئيم والصبياني فيه يرغب بالاحتفاظ بهذه المعلومة، حتى يزعجها بها لاحقًا.
لكن عندما لاحظ القلق والخوف في نظراتها، شعر بالندم على أفكاره تلك.
صفّى حلقه قبل أن يتحدث قائلًا:
“في الحقيقة، لم يعلم أي أحدٍ بهذا. لقد كنتِ ترفضين الحب، وأي رجلٍ يقترب منك. حتى إن والدتك حاولت أن تقنعك بأن تعطي لوثيل فرصة، لكنك رفضته.”
“لوثيل؟ من يكون هذا؟” سألت نيملوث، وكانت الحيرة واضحة بشكل صارخ في ملامحها، ونظراتها بدت كطفلٍ فضولي.
إنها تبدو مثل ليجولاس.
هذا ما فكّر به ثراندويل عندما رأى وجهها الذي بدا كوجه طفلٍ يجهل ما يقوله والداه.
وعندما تذكر ابنه الحبيب، شعر بغصّة في حلقه، وتمنى لو أن ابنه الوحيد لم يكبر على الإطلاق.
هزّ رأسه، وأعاد تفكيره إلى سؤال المرأة الجالسة أمامه. أخذ دورق النبيذ وأجابها بينما يعيد ملء كأسه:
“لوثيل كان أحد الجان المخلصين لي، مقاتل بارع، وشجاعته لا يمكن مضاهاتها. لقد أُعجب بك وأراد أن يتزوجك، لكنكِ رفضتِ عروضه المتواصلة، وأخبرته أنكِ لا تفكرين بالزواج.”
عقدت نيملوث حاجبيها، وظلت صامتة تنصت إلى كلامه وتفكر في السبب الذي قد يجعلها ترفض فكرة الارتباط. ولكن… ألم تكن معجبة بأحدهم؟
“أين هو الآن؟ لماذا لم أره حتى الآن؟”
تلاشت من وجه ثراندويل أي معالم تدل على الابتسام عندما سألته هذا السؤال.
أعاده سؤالها إلى ذلك اليوم المشؤوم، حيث كان الدخان الخانق منتشرًا في كل مكان، ورائحة الدماء، الشبيهة برائحة الحديد، تملأ الأجواء.
أخذ رشفة من كأسه، وحاول أن يصبّ اهتمامه في هذه المحادثة دون أن يعيد تلك الذكريات، لكن لا فائدة… الذكريات تتدفّق إلى رأسه دون توقف.
“لوثيل…” تمتم بصوت خافت، يحدق في كأسه، كأن قعره يخفي الحقيقة.
“لم يعُد بيننا، سقط في المعركة التي سبقت اختفائك انتِ و زوجتي”
رفعت نيملوث عينيها، فزعة”مات؟”
هزّ رأسه ببطء. “لقد مات وهو يحاول إنقاذي.”
نهض من مكانه واتجه إلى النافذة، يحدق في الأفق المظلم، محاولًا تصفية ذهنه. قال بصوت خافت:
“من الأفضل ألا أتحدث عن هذا الآن.”
استغربت نيملوث من إجابته، لكنها لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. تقدمت نحوه خطوة وقالت بإصرار:
“لماذا لا تريد إخباري؟ هل للأمر علاقة بي؟”
أجاب دون أن يلتفت تمامًا، ناظرًا إليها من زاوية عينه فوق كتفه:
“نيملوث، لو سمحتِ… لا أريد الحديث عن هذا.”
لكنها لم تتراجع. اقتربت منه أكثر، ومدّت يدها تمسك بذراعه برفق، بينما صوتها يرتجف من فرط التوتر:
“أرجوك، ثراندويل. لن أتوقف. هذا يخصني… أريد أن أعرف كل شيء عن حياتي. لا تتخيل كم هو مرعب أن أشعر بأنني تائهة بينكم، وكأنني غريبة عن نفسي. أحيانًا… أحيانًا أظن أنكم تكذبون، وأنني لا أنتمي إلى هذا المكان.”
كان ثراندويل مرهقًا للغاية. قلبه يئن تحت وطأة الذكريات، وصدره يضيق وكأن الحزن ذاته يعاقبه. بدأ السحر الذي يُخفي وجهه يتلاشى، كأن إحساسه المنكسر اخترق الحجاب السحري.
قالت بصوت خافت، تكرر رجاءها الأخير:
“ثراندويل… أرجوك.”
استدار فجأة، وصرخ، صوته كان كالسهم:
“هذا يكفي!”
رآها تتجمد، وعينيها تتسعان رعبًا. لم يكن صراخه فقط ما أرعبها… بل الوجه الذي كُشف أمامها. أدرك ذلك في اللحظة التي رأى فيها ملامحها ترتجف، ووجنتيها تفقدان لونهما.
شعر بوخز الندم يتسلل إلى صدره، وبلع ريقه بصعوبة. لقد رأته.
♤♤♤♤
التعليقات لهذا الفصل "8"