5
توقف أمامها، وعيناه تفحصانها من رأسها حتى أخمص قدميها. شعرت نيملوث وكأن مغناطيسا خفيًا يجذبها نحوه وعجزت عن الحركة أو التفوه بكلمة.
وقف طويل القامة وفخورًا، شعره الفضي يتساقط على كتفيه في حجاب اثيري بدا وكأنه يرغم كل من يراه على احترامه
ببطء، ارتسمت على ثغره ابتسامة طفيفة، وقال بصوت عميق يحمل أصداء قرون مضت “كيف حالك يا نيملوث؟”
كان لصوته وقع خاص، كأنه يحمل دفئا غريبا تسلل إلى قلبها، فملأ صدرها بشعور غامض من الراحة والاطمئنان شعور لم تفهمه لكنها لم تستطع مقاومته.
ظلت نيملوث تنظر إلى الرجل الواقف أمامها من دون أن تنطق بأي كلمة ، عاجزة عن وصف ما تشعر به و ليس بإستطاعتها أن تسيطر على دقات قلبها الذي تسارعت نبضاته بمجرد أن وقع نظرها عليه .
كان رأسها خاليًا من أي فكرة قد تساعدها في هذا الموقف، مما جعلها تبدأ بالتلعثم:
“أنا… أنا… أنا… لا…”
أشار ثراندويل بيده لها حتى تهدأ، وقال:
“حسنًا، لا داعي للإجابة، فأنا على علم بحالتك.”
شعرت نيملوث بأن قلبها بدأ يهدأ، وأخرجت نفسًا طويلًا ثم سألته”من أنت؟ هل تعرفني؟”
ظلّت الابتسامة تعلو شفتي ثراندويل عندما سألته، وأجاب:”يمكنك أن تقولي إنني صديق قديم.”
لم تستطع نيملوث إخفاء ارتباكها من إجابته الغامضة، فعبست قليلاً وقالت بحذر”صديق قديم؟ لا اعرف ماذا يعني هذا ..”
ضحك ثراندويل بهدوء، ونظر إليها بعينين لامعتين كأنهما تحملان أسرارًا دفينة، ثم قال” لا بأس ، مع الوقت سوف تتعلمي ؛ هذه الأشياء يتم الشعور بها لا تعريفها في جُمل ”
ظلت صامتة للحظات بعد أن تحدث معها ثراندويل شعرت وكأن الكلمات تهرب من بين شفتيها، وكأن عقلها لا يزال يحاول استيعاب الحضور الطاغي لهذا الرجل. عيناها تراقبان وجهه وكأنهما تبحثان عن إجابة في ملامحه التي جمعت بين الصرامة والجمال الآسر.
قالت بصوت خافت، يكاد لا يُسمع: “أنا… خائفة”
رفع ثراندويل حاجبًا، وكأنه يحاول قراءة ما خلف كلماتها المترددة. اقترب خطوة أخرى منها، مما جعل قلبها ينبض بقوة غريبة. أشار بيده نحو مقعد قريب كان قد احضره احد الجان . قال بصوت هادئ ولكن حازم”اجلسي.”
امتثلت نيملوث لأمره دون أن تنبس ببنت شفة. جلست على المقعد، ويديها متشابكتان في حجرها، بينما شعرت بأن جسدها كله مشدود وكأن الهواء في القاعة أصبح أكثر كثافة.
جلس ثراندويل على كرسي آخر قريب منها، مسندًا ظهره، وعيناه لا تزالان مثبتتين عليها. قال بصوته العميق: “أعلم أن هذا المكان يبدو غريبًا عليكِ. وأن هناك الكثير مما يدور في ذهنك الآن. لكن ليكن بعلمك أنكِ في أمان هنا.”
حاولت نيملوث أن تتحدث، لكنها توقفت للحظة، ثم سألت بصوت متردد “لماذا تهتمون بي؟ من أنا حتى أحظى بكل هذا؟”
ظل ثراندويل صامتًا للحظات وكأنه يزن كلماته بعناية. ثم قال: “أنتِ لستِ شخصًا عاديًا، نيملوث. أنتِ جزء من هذا المكان، من هذا العالم. وما فقدتهِ… سنعمل على استعادته معًا. لكن عليكِ أن تثقي بنا.”
كانت كلماته مليئة بالغموض، لكنها حملت دفئًا خفيًا جعل نيملوث تشعر بشيء من الراحة. ولكنها لم تستطع منع نفسها من السؤال “هل تعرفني حقًا؟ هل أنا مهمة بالنسبة لك؟”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه، ولكنها لم تكن ابتسامة سعادة، بل أقرب إلى الحزن. أجاب بهدوء “أكثر مما قد تتصورين.”
كانت هي كذلك بالفعل، نيملوث، صديقة الطفولة التي تعرف عليها منذ نعومة أظفاره، وكانت الشيء الوحيد الذي تبقى من ثراندويل القديم.
نهض من مكانه، ومدّ يده إليها، وقال: “تعالي معي.”
تفرّست فيه بحيرة وريبة، ثم سألته: “إلى أين؟” شعرت بازدياد ضربات قلبها مرة أخرى، فابتلعت ريقها وأضافت: “لماذا تريدني أن أذهب معك؟”
أجابها ثراندويل بلهجة فيها شيء من التعالي: “سنذهب لنرى ممرات القصر معًا.” ثم وجه نظره إليها، محاولًا قراءة أي رد فعل في ملامح وجهها، لكنه لم يرَ شيئًا. كل ما رآه كان امرأة غريبة في عينين مألوفتين.
تنهد، ثم تابع وقد لاح على وجهه التأمل: “بعدها، قد نذهب إلى الغابة خارج القصر، ربما تتذكرين شيئًا عن حياتك القديمة.”
نظرت إليه بدهشة امتزجت بالريبة. كان هذا الرجل الغريب، وكل من قابلتهم قبله، لطيفين معها للغاية، لكن ذلك لم يمنع إحساس الخوف وعدم الانتماء من الاستيلاء على قلبها.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم أمسكت بيده لتنهض.
أرادت بشدة أن تملأ رأسها الفارغ بأي شيء، حتى لو كانت كلمات لا تتعلق بها أو بحياتها السابقة. كان الشعور بالخواء داخل عقلها لا يُحتمل.
سارا معًا في ممرات القصر المضاءة بالمشاعل. كان المكان أشبه بشجرة مجوفة هائلة الحجم، تم نحتها من الداخل، مما منحه مظهرًا طبيعيًا يبدو بدائيًا للوهلة الأولى، لكنه كان مُنظمًا بدقة.
كان الليل قصيرًا للغاية، إذ إنهما في منتصف فصل الصيف، وبدأ ضوء شمس الصباح يتسلل إلى الداخل على شكل شرائط صفراء لا يمكن لمسها.
توقفت نيملوث لتتأمل تداخل الضوء في القصر. كان المنظر جميلًا للغاية، لدرجة جعلتها تبتسم.
أدار ثراندويل رأسه نحوها وسألها: “ألا يبدو أي شيء مألوفًا بالنسبة لك؟”
هزّت رأسها نافية، ثم أجابت: “كلا، كل شيء يبدو جديدًا بالنسبة لي.”
شعر ثراندويل بخيبة أمل طفيفة، لكنه هزّ رأسه محاولًا إبعاد هذا الشعور، ثم قال: “لا بأس، مع الوقت ستتذكرين كل شيء.”
تابعا سيرهما في الممر، ولم يكن هناك سوى صدى خطواتهما الخافتة يملأ المكان. كان ثراندويل يسير بخطوات واثقة، بينما كانت نيملوث تراقب كل زاوية، كل انحناءة في الجدران المنحوتة، كأنها تبحث عن شيء قد يعيد إليها إحساس الألفة.
حين انعطفا عند ممر أوسع، لاحت أمامهما قاعة ذات سقف مرتفع، تتدلى منه أغصان متشابكة يكسوها وهج ذهبي خافت. كان في وسط القاعة منصة دائرية منحوتة بدقة، تحيط بها أعمدة رفيعة من الخشب المعقود، وكأنها تنبض بروح المكان.
توقفت نيملوث عند مدخل القاعة، شعرت برجفة خفيفة تسري في جسدها دون سبب واضح. رفعت يدها تلامس أحد الأعمدة، وما إن فعلت ذلك، حتى انساب دفء طفيف من الخشب تحت أناملها.
تجمدت في مكانها.
“هذا الشعور…” همست لنفسها، ثم نظرت إلى ثراندويل الذي كان يراقبها بصمت.
“هل كنتُ هنا من قبل؟”
لم يجبها على الفور، لكنه اقترب منها ببطء، عاقدًا يديه خلف ظهره، ثم قال بصوت منخفض: “هذه القاعة مقدسة، هنا كانت تُعقد الاجتماعات الكبرى، وهنا أيضًا…” تردد للحظة قبل أن يضيف: “كان لكِ مكانك الخاص.”
اتسعت عيناها بدهشة، ونظرت حولها مرة أخرى، تحاول استيعاب كلماته. لم تستطع تذكر شيء، لكن قلبها بدأ ينبض بقوة، كما لو أن جزءًا منها كان يصرخ ليُسمع.
فجأة، توقفت في مكانها. شعرت بمذاق غير مألوف في فمها، لم يكن له أي علاقة بالطعام الذي تناولته يوم أمس. كانت نكهة خفيفة، ترابية، واسترجع عقلها ملمسًا طريًا يرافقها.
التفتت ناحية ثراندويل وقالت: “أشعر بنكهة غريبة في فمي…” كانت تريد أن تفصح عمّا أحست به بشدة، كان على طرف لسانها.
ظهرت الكلمة في ذهنها وكأنها أمامها مباشرة، فقالت باندهاش: “فُطر! أجل، إنه فُطر!”
اتسعت ابتسامتها، وبدأت تقفز بحماس مفاجئ جعل ثراندويل يتراجع خطوتين إلى الوراء، محاولًا إخفاء استمتاعه برد فعلها حفاظًا على وقاره.
نظرت إليه والابتسامة لا تفارق وجهها، ثم قالت بحماس: “أريد فطرًا مشويًا! إنه الشيء الذي تذكرته الآن، وأرغب في تناوله بشدة.”
عقد ثراندويل ذراعيه أمام صدره، وارتسمت على وجهه ابتسامة طفيفة قبل أن يقول: “لا مانع، سأُصدر أمرًا للطهاة بتحضيره لك.”
تستطع منع نفسها من الضحك، وبدا عليها الحماس الشديد وهي تتحدث: “الجلوس حول النار وشواء الفطر باستخدام أغصان الشجر الرفيعة… هذا شعور رائع!”
عقد ثراندويل حاجبيه عندما خطرت هذه الذكرى في باله، ثم سألها: “هل تذكرتِ موقفًا حدث لنا يتعلق بهذا الأمر؟”
توقفت للحظة، تحاول البحث في عقلها شبه الفارغ عن أي ذكرى، لكنها لم تتذكر سوى مذاق الفطر. هزّت رأسها نافية، ثم ردت: “كلا، كل ما تذكرته هو مذاق الفطر المشوي.”
كانت نيملوث عاجزة عن تذكر موقف مشابه لما وصفته، لكن ثراندويل تذكر.
كان ذلك قبل سنوات طويلة، حين سار جيش الجان برفقة والده متوجهين إلى الحرب. في طريقهم، صادفوا كتيبة من جنود البشر، معظمهم كانوا يافعين. لقد تعرضوا لهجوم من قِبل العفاريت، ولم يتبقَ منهم سوى مئة شاب تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والعاشرة، ومعهم ممرضتان.
عندما لاحظ أورفر حالتهم السيئة، اقترح أن ينضموا إليهم، بما أن وجهتهم كانت واحدة.
في اليوم الرابع من تلك المسيرة، كان ثراندويل جالسًا بالقرب من نار مشتعلة، بجانب ممرضة بشرية اعتاد أن يجلس معها خلال الليالي الماضية. كانت قد وضعت عدة ثمرات من الفطر، التي عثرت عليها أثناء استحمامها في الغابة، على أغصان رفيعة تشويها فوق اللهب.
كان اسمها دايزي، ممرضة شابة رافقت كتيبة الرجال. تبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، أكبر من معظم أولئك الجنود. كان شعرها بنيًا مجعدًا يلمع تحت ضوء النار مثل خيوط النحاس، وعيناها البنيتان الواسعتان أشبه بعيني غزال، أما بشرتها الفاتحة فكانت تكاد تكون شفافة. لكن المسيرة الطويلة والعمل الشاق جعلا التعب واضحًا على وجهها.
“أشكرك على مساعدتك لي اليوم.” قالت دايزي وهي تُبعد الغصن عن النار لتفحص مدى نضج الفطر.
هز ثراندويل رأسه وردّ بصوت هادئ: “لا داعي للشكر، فعلتُ ما قد يفعله أي شخص لديه أخلاق.”
شعر ثراندويل بخطوات شخصٍ يقترب من خلفه، فدور رأسه، وكانت نيملوث.
كانت ترتدي بنطالًا أخضر وسترة من نفس لون عينيها، بينما كان شعرها مُظفرًا.
نظرت إليهما، وعقدت حاجبيها. “لماذا أنت هنا، سمو الأمير؟”
أشار ثراندويل لها بالجلوس بجانبه، وقال: “تعالي، أنا والآنسة دايزي نستريح قليلاً.”
عندما جلست بجانبه، ناولت دايزي ثمرة فطر مشوي له، ومن ثم منحته لــنيملوث، بينما أخذ هو غيرها.
عندما تذوق ثراندويل الفطر، شعر بطعمه الترابي وملمسه الطري. لم يكن يشبه الطعام الذي اعتاد عليه في قصره، لكنه أعجبه.
بينما كانوا جالسين حول النار، كان الصوت الوحيد الذي يملأ الأجواء هو خشخشة الفروع المحترقة.
الظلام قد بدأ يلتف حولهم، لكن نارهم كانت تضئ المسافة المحيطة بهم وتضيف هالة من الدفء على الأجواء الباردة.
فجأة، قطع الصمت صوت نيملوث وهي تتحدث بصوت منخفض”أتعلمون، ليس لدي أي فكرة عن ما إذا كان هذا المكان سيعني لي شيئًا يومًا ما.”
توجهت نظرات ثراندويل و دايزي ناحيتها . كانت كلماتها غير متوقعة، مليئة بالحيرة.
ثراندويل نظر إليها للحظة، ثم قال بهدوء”هذا طبيعي. الفقدان والضياع جزء من طريقنا أحيانًا. ولكن الأوقات ستتغير.”
دايزي التي كانت جالسة بجانبهم تتابع حديثهم، ابتسمت بلطف وأضافت “قد يكون هذا المكان هو بداية شيء جديد لكِ. في النهاية، نحن نختار معركتنا، ونحن الذين نحدد ما يعنيه كل شيء.”
وجهت نيملوث نظرها ناحية ثراندويل، شعر الأخير و كأنها تخفي شيء ما لكنه لم يعرف ما قد تخفيه خلف هاتين العينين..أو ربما يفهم لكنه تجاهل هذه الفكرة و ابعدها عن ذهنه كما ابعد مشاعره التي لا يجب ان تكون موجودة .
عاد ذهن ثراندويل إلى الحاضر و قد كانت مشاعر الحنين إلى الماضي واضحة في عينيه و تمتم لنفسه
” نحن نختار معركتنا، ونحن الذين نحدد ما يعنيه كل شيء.”
♤♤♤♤♤♤♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 9 - تركتني و رحلت 2025-05-31
- 8 2025-05-14
- 7 - دفتر 2025-04-11
- 6 - زهرة الاقحوان 2025-04-10
- 5 - مذاق ترابي 2025-04-09
- 4 - يقظة بعد غياب 2025-04-08
- 3 - الجميلة النائمة 2025-04-06
- 2 - ذكريات 2025-04-04
- 1 - آلام الملك 2025-04-04
التعليقات لهذا الفصل "5"