ثراندويل، ملك الجان وحاكمهم. الملك الذي اهتم بحماية شعبه بشتى السُبل، لكنه بنى جدرانًا حول قلبه تمنع وصول أي مشاعر جديدة لا يرغب في تجربتها. ومع ذلك، في حضوره، كانت ملامحه غارقة في التفكير، وعيناه لا تفارقان الأفق البعيد، وكأن همسات غامضة تدور في رأسه، تطالبه بأن يظل في حالة تأهّب دائم.
لم يكن ثراندويل مجرد ملك عادي، بل كان رمزًا للحكمة والهيبة، ويده الطويلة التي تطال أقاصي المملكة لم تكن تُخطئ أبدًا في اتخاذ القرارات. لكن، ورغم هذا الجلال، كان ثمة شيء في طبيعته يظل غامضًا، كما لو أنه يحمل سرًا عميقًا يخفيه في أعماق قلبه — سرًّا لا يسمح إلا لقلة قليلة بكشفه.
في عمق روحه، كان هناك جرحٌ لم يلتئم بعد. أخفاه في ظلال قلبه، وغطّاه بأقنعة الواجب والتصرف العقلاني الذي يفرضه عليه منصبه. غير أن هذا الجرح بدأ يُزيح تلك الظلال شيئًا فشيئًا، حين عادت نيملوث. ولم يفهم ثراندويل سبب ما يحدث في داخله.
كانت نيملوث بالنسبة له مجرد صديقة، لا أكثر. لم يكن من المفترض أن يخفق قلبه لها، كما كان يفعل من أجل امرأة أخرى عرفها في القرون الماضية. أراد أن يعرف سبب تلك المشاعر المتسربة إلى صدره، وأن يتحدث معها عن ماضيهما معًا، عساه يجد في ذلك إجابة تُرضي فضوله. لكنّه لم يستطع. فنيملوث كانت فاقدة للذاكرة، ولن يساعده الحديث معها طالما أن نظرات صديقته القديمة لم تسكن تلك العينين بعد.
أدرك أنه بحاجة إلى توخّي الحذر. كانت هي لا تزال تحاول اكتشاف ماضيها، وآخر ما يرغب به هو تعقيد الأمور. لكنه رغم ذلك، وجد نفسه يتوق إليها…
لم يكن يستطيع إنكار المشاعر التي بدأت تترسّخ في قلبه، كما أنه لم يكن يفهم سببها. وجد ثراندويل نفسه في منطقة مجهولة، حيث تتوجه عواطفه إلى طريق لم يكن يتوقعه. وبينما استمر في مساعدتها لتجميع ملامح حياتها، لم يستطع التخلّص من فكرة أنها قد تكون المفتاح المناسب لفتح جزء من قلبه ظنّ أنه أغلقه إلى الأبد…
جزءٌ لم يكن لها منذ البداية.
حاول إقناع نفسه أن ما يشعر به ليس سوى حنين ساذج إلى سنواتٍ لن تعود، فـالمرأة التي تسبّبت في ذلك الجرح لم تعد في حياته، ولن تعود مطلقًا.
حتى لو ذهب إلى فالينور، فلن يلتقيها هناك أبدًا.
𓆩♧♧♧♧𓆪
سار ثراندويل في الممرات الصامتة، وعاد ذهنه إلى قرونٍ قد ولّت. ومن بين الذكريات العديدة التي ازدحمت في رأسه، كانت ذكرى مواجهته للتنين الأشد وطأةً على قلبه وعقله من سواها.
حملته خطواته الطويلة نحو الشرفة المُطلة على امتداد الغابة الخضراء الشاسعة. تشبّث بالسور الحجري حتى ابيضّت مفاصله، وهو يحدّق في بحر الحُضرة الممتد نحو الأفق. لطالما جلب له هذا المنظر الجامح والجميل بعض السكينة، بعض السلام المؤقت لقلبه المُتعب. لكن الآن، لم تعد هذه اللوحة البدائية تريحه، ولا تُخفّف من ثقل مشاعره التي تكتنف أحشاءه، ولا تُزيل أثر تلك الذكريات القديمة التي ستلازمه ما بقي من عمره.
ذكرى ذلك اليوم المشؤوم.
حين وقف بين جنوده، يقاتل التنانين الصغيرة، يصيح بأعلى صوته، محاولًا أن يرفع عزيمتهم في خضمّ المعركة. بالنسبة لهم، كان هذا ملكهم الذي يقودهم بشجاعة، لكن بالنسبة له، لم يكن سوى رجلٍ أوقع نفسه في معركة لا يعلم إن كان سيخرج منها حيًا.
لو كان الأمر بيده، لأمر جميع الجنود بالعودة أدراجهم، وبقي هو وحده في ساحة المعركة. لكن ذلك كان مستحيلًا.
حاول ألّا يشغل باله بأي شيء آخر، كان شبح الموت يجري خلفه، يقترب منها — من زوجته، أمّ ابنه (كالمير) — قبل أن يَنقضّ على جنوده. كل دقيقة تمر كانت الموت فيها يزحف نحوها، يجرّها إلى قاعاته الواسعة.
بعزمٍ يائس، قاد ثراندويل هذه المعركة، دون أن يكترث للمخاطر المحدقة، دون أن يلتفت إلى جسده المُنهك أو قلبه المرتجف.
وفجأة، ارتعدت أوصاله عندما سمع هدير التنين يأتي من خلفه، وارتفعت صرخات الذعر بين الجنود. أدار رأسه على الفور، ورآه.
ركب الرنّة على الفور، وأصدر أمره على مضض، صارخًا بأعلى صوته:
“تراجعوا!”
بدأ التنين ينفث نيرانه على الجنود، وبدأوا يتساقطون واحدًا تلو الآخر. كان شبح الموت يركض بينهم، يجرّهم بسلاسله ويضحك تلك الضحكة المستفزّة التي شعر بها ثراندويل كطعن في الكرامة.
حاول أن يلتقط رمحه ويرميه نحو عين ذلك المخلوق الغادر، لكنّه لم ينجح لقد كان التنين أسرع من الغضب ذاته.
عمّت الفوضى. صرخات مختنقة، أجساد تركض، أسلحة تتناثر تحت الأقدام. الجنود يتراجعون على عَجل، يهرولون بين الأشجار، يحاولون حمل الجرحى، لكن الوقت يخذلهم، والخوف يشلّ أقدامهم.
كان ثراندويل يحاول أن يُخرجهم من هذا الجحيم، يصرخ بأوامره، يلوّح بسيفه… حتى شعر بحرارةٍ تسري في صدره وريحٍ غريبة لم يألفها إلا في لحظات السقوط لقد كان الموت، يركض أمامه، يتجاوزه، ويتّجه مباشرة إلى الذين كان عليه أن يحميهم.
وفجأة… لم يدرك كم مرّ من الزمن، لكنه رآها نيران التنين، تتدفق نحوه كأنها حمم بركانية تُريد أن تبتلعه. ألقى جسده جانبًا، لكن لهبًا منها لامس وجهه، لمسة واحدة كانت كافية لسلخ نصفه الأيسر، بنارٍ لا تطفئها مياه، ولا تُبرّدها حتى دموع الأشجار.
سقط على الأرض… ومعه كبرياؤه. يصرخ متألمًا، عاجزًا عن لمس خده المحترق. الألم لا يُحتمل، والبصر يتشوش. حاول النهوض، مدّ يده يستند على الرنة… لكن حيوانه المخلص قد ذاب تحت لهب التنين، ولم يبقَ منه سوى رماد أسود.
شعر بقوته تتبدد، وأنه على وشك أن يغيب عن الوعي. كل ما أراده في هذه اللحظة هو إغماض عينيه والاستسلام للظلام الذي بدأ يسيطر على بصره وعقله.
أحس أن أحدهم حمله، وتعاون معه اثنان آخران وبدأوا بالجري. شعر ثراندويل بهذا، لكن الأصوات بدأت تصير أبعد فأبعد، وكأن هذا الصراع مجرد صدى لأفكار من عقله.
طوال الطريق، ظل يغيب عن الوعي ثم يفتح جفنيه للحظات محاولًا استيعاب ما يحدث، لكن الدوار والألم جعلاه لا يدرك ما يدور حوله… بعدها يعود إلى ظلام اللاوعي مُنتظرًا موته.
عندما وصل إلى مملكته، قد عاد إلى وعيه مرة أخرى، وشعر بأيدي الحُرّاس وهم يمسكون به ويأخذونه حيث توجد غرفته. قبل أن يُفكّر ثراندويل بأي شيء آخر، همس بصوتٍ متهدّج: “ليجولاس… ليجولاس لا يجب أن يراني بهذا الوضع.”
أومأ أحد الحُرّاس، لم تكن ملامحه واضحة بالنسبة للرجل المشوّه، فقد كان بصره ضبابيًا يعجز عن تمييز أيّ شخصٍ حوله.
عندما وُضِع على السرير، سمح لنفسه بأن يسترخي قليلًا، وسلّم جسده لأيدي المعالِجبن الحُكماء ، بينما يجول باله إلى أيّامٍ قديمة، حينما كُسِر قلبه عندما امتزج الدم مع أزهار الأقحوان المُدهوسة تحت حوافر الخيول.
بعد أن تم تضميد وجهه، وأخذ دواءً مسكّنًا، استعاد بعضًا من قوّته، وحاول أن يجلس، مسندًا ظهره إلى الوسائد المرتبة خلفه.
ظلّ هادئًا، شارد الذهن، يحاول إشغال نفسه بذكريات أيّامٍ قديمة، إلى أن يستطيع الوقوف على قدميه… وربما يتجرّأ على النظر إلى نفسه في المرآة.
ثم سمع صوت طرقاتٍ قادمة من خلف الباب، خفيفة، لكنها متواصلة، وناتجة من يدين صغيرتين. وقد علم إلى من تنتمي… لقد كان ابنه ليجولاس.
أراد بشدّة أن ينهض ويعانق ابنه الوحيد، لكنه لم يفعل؛ لأنه لن يستطيع أن يجيبه إذا سأله ليجولاس عن أمّه. لن يتحمّل خيبة الأمل التي قد تظهر في عينيه البريئتين. لذا ظلّ جالسًا في مكانه، على أمل أن يتوقف طفله عن الإلحاح.
لكن ليجولاس لم يتوقف. ظل يطرق الباب ويقول: “أبي، أريد أن أدخل. ماذا حدث لك؟ أنا خائف للغاية، وماما ليست هنا… أبي، أرجوك، أدخلني.”
كانت هذه الكلمات كفيلة بتمزيق قلب ثراندويل، لكنه لم يتحرّك. وبدأ يذرف الدموع، دون أن يُكترث لأمر جروحه التي تهيّجت مع كل شهقة صامتة.
أطبق يده على فمه لكي لا يسمع ابنه صوت شهقاته وهو يبكي. لم يرغب بأن يرى طفله الحبيب ضعف والده وانكساره.
يُفضِّل أن يظلّ مسجونًا في هذه الغرفة، على أن يظهر أمام ابنه الوحيد وهو بهذه الهيئة… رجل مشوّه، وكبرياؤه مُحطَّم.
من بعد ذلك اليوم، صار هناك جدار جليدي بارد في علاقتهما، وقد تلاشى ضوء الشمس الذي كان يسقط على مقبض الباب. كما بدت أغصان أشجار التوت المحفورة على الباب، مجرّد نقوشٍ ذابلة، خاوية من أيّ وهج.
…………………………
في هذه الأثناء.
كانت نيملوث قد شعرت ببعض الارتياح النفسي عندما وصلوا إلى ميثلوند، بعد مسيرة دامت لأيام. لقد أُرهِق جسدها، وشعرت بدوارٍ مزعج يلازمها، بدت كمَن خرج من عاصفة بحرية قلبت كيانه.
وعلى عكس مَن رافقوها في هذه الرحلة، لم يبدُ عليهم أي اضطراب، وكأنهم قد خرجوا للتو من منازلهم…
وقفت نيملوث بجانب والدها، مستندة على جسده، تنظر إلى السفينة البيضاء التي ستأخذها إلى العالم الذي يظن والدها بأنه مناسب لها.
ركبت معه وهي تستند عليه، وبعدما استراحت على أرض السفينة، بدأت تنظر إلى الأفق. بدا كل شيء حولها وكأنه غير واقعي.
مثل رؤية رأسها مرارًا وتكرارًا عندما كانت في غيبوبتها. شعرت أن ما يحدث معها ليس حقيقة، وأن كل شيء يدور حولها مجرد وهم لا أكثر.
لكن نسيم الهواء العليل، وضحكات مَن ركب في السفينة، جعلتها تسخر من أحاسيسها التافهة؛ وتمنت لو أنها تستطيع الاستمتاع بهذه الرحلة مثلهم.
جلس والدها بجانبها وقال: “لابد أن أمك تنتظرنا الآن، سوف تسعد كثيرًا.” تحدّث تورغون والابتسامة تشقّ وجهه. شعرت نيملوث وكأنه يحاول تحريك مشاعرها ولو قليلًا، لكن لم يتغيّر نبض قلبها، ولم يقم عقلها وجسدها بأي رد فعل — على عكس ما يحدث معها عندما تتذكر ثراندويل، وهذا ما جعلها تظن أنها مجرد فتاةٍ جاحدة.
اكتفت هي بالإيماء، وأظهرت له أنها مهتمة بالأمر، حتى لا تُجرَح مشاعره.
ظلّ بال نيملوث يعود إلى ثراندويل، وأحسّت أنها تريد أن تعود، وكأن قلبها يأمرها بذلك، وتدفّق الدم في عروقها بسرعة لم تعتد عليها، استجابة لأمر هذا الفؤاد.
—
بعد مرور وقتٍ لا بأس به من الإبحار المتواصل، نهضت نيملوث من مكانها عندما لاحظت شيئًا غريبًا في الأفق. ظهر خطّ نورٍ ناعم لا ينتمي لهذا العالم. لم يكن شمسًا، قمرًا، حممًا، أو حتى نجمًا ساقطًا…
بل كان أشبه ببوابة تسمح لهم بالعبور إلى الطريق الذي لا يعرفه البشر.
مدّ تورغون يده: “نيملوث، أمسكي بيدي.” أمرها وقد استجابت على الفور… لكن بدأ جسدها يرتجف، وشعرت وكأن قطيعًا من النمل قد استولى على كيانها.
عندما بدأت السفينة تعبر الحد الفاصل المؤدي إلى طريق الغرب الحقيقي، شعرت نيملوث وكأن قوة غريبة دفعتها، مما جعلها تسقط من على ظهر السفينة إلى البحر.
حاولت التمسك بأي شيء، لكنها جُرحت في يدها، ثم رُمي جسدها في مياه البحر المالحة، واختلط دمها معها.
أما السفينة، فقد عبرت الحد الفاصل… ولن يتمكن أيٌّ من الراكبين من العودة من أجل نجدتها.
………………………………………
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"