1
لم أستطع تصديق ذلك.
‘ما هذا…’
أمسكت إينيس بالملف بين يديها ونظرت إليه بحيرة. كانت يداها ترتعشان باستمرار مما جعل الحروف تهتز هي الأخرى.
قطّبت حاجبيها بعد أن تأكّدت مرّةً أخرى من المحتويات المروّعة.
احتوى الملف الذي تحمله على معلوماتٍ عن ضحايا جرائم القتل المتسلسلة التي أثارت ضجّةً في إمبراطورية دلفياس على مدى العام الماضي، وطريقة قتلهم، بالإضافة إلى صورٍ مروّعةٍ للجثث يبدو أنه لا يمكن لأحدٍ الوصول إليها إلّا الشرطة.
وفي خضم كلّ هذا، كان الأمر الأكثر رعبًا هو أن كلّ شيءٍ كان مرتّبًا بدقّة، تمامًا كما اعتاد زوجها أن يفعل.
عندما رفعت رأسها ببطء، رأت داخل الخزنة التي وجدت فيه الملف قفازاتٍ ملطّخةٍ بالدماء وأدواتٍ حادّةٍ وأدواتٍ غامضة.
“أوه، آغه…!”
تقيّأت فورًا بمجرّد أن شمّت رائحة الدم الخفيفة التي لا تزال عالقةً في الجو. وضعت يديها على فمها على عجلٍ ونهضت من مكانها متمايلة.
كانت تشعر بالدوار.
لم تستطع التصديق، ولم تُرِد أن تُصدِّق ذلك.
أن يكون زوجها، الذي عاشت معه عامين، قاتلًا متسلسلًا.
طَقْ.
في تلك اللحظة، سمعت صوت خطوات شخصٍ ما من الخلف. استدارت إينيس بسرعة، التي فوجئت، لكنه كان أسرع منها.
قبل أن تتمكّن حتى من الصراخ، سُدَّ فمها بخرقةٍ مبلّلة.
“…!!”
تقلّبت إينيس، التي شمّت رائحةً كاوية، وعبست بوجهها وهي تقاوم.
‘مَن هذا؟’
بذلت كلّ ما في وسعها لمقاومته، لكن دون جدوى. لم يتحرّك الرجل الذي أمسك بها بقوّةٍ من الخلف حتى سنتيمترًا واحدًا، وزفر نفسًا عميقًا بجوار أذنها.
“لا فائدة من المقاومة، سيدتي.”
“…!”
تصلّب جسد إينيس عند سماعها صوتًا غريبًا.
شعرت بهالةٍ شرسةٍ واضحةٍ تغلّفها، فاجتاحها الخوف في لحظة.
‘هذا الرجل جاء ليقتلني.’
عندما التهمها الخوف وسحبت نفسًا عميقًا، تسلّل الدخان الكاوي من الخرقة التي سُدَّ بها فمها عميقًا داخل رئتيها. بدأت إينيس في السعال والاختناق بينما كانت تجعّد حاجبيها.
“تحمّلي قليلًا.هذا من أجل تخفيف ألمكِ.”
هبط صوت الرجل مرّةً أخرى بجوار أذنها. حاولت إينيس التمسّك بعقلها الذي بدأ يتلاشى، وخدشت ظهر يده بأظافرها بقوّة.
لكن بدا وكأن محاولاتها اليائسة تلك كانت متعةً للرجل، فأطلق ضحكةً خافتة.
“كح كح … يجب أن أُخبِر الدوق إلمنهارد. أن نهايتكِ كانت مروّعةً إلى هذا الحد.”
ماذا حدث لك يا كاليان؟
بينما كانت تفقد وعيها، خطرت في بالها صورة زوجها.
مَن الأكثر رعبًا، هذا الرجل الذي يحاول إيذائي الآن، أم زوجي القاتل المتسلسل؟
ظهرت فكرةٌ غير مجديةٍ في عقلها واختفت، ثم ازداد خوفها أكثر. في هذه اللحظة، لم يكن هناك أحدٌ لتلجأ إليه.
“لُومي الدوق على هذا.”
مع كلمات الرجل التي بدت وكأنه بذل جهدًا، شعرت بألمٍ شديدٍ في خاصرتها. انحنت إينيس تلقائيًا من شدّة الألم الذي قطع أنفاسها، وأطلقت نفسًا متقطّعًا.
“أوه، كح، كح …”
كان جانبها ساخنًا للغاية وكأنه يحترق. عندما خفضت رأسها، رأت قطراتٍ من سائلٍ أحمر تتساقط قطرةً قطرة، ملطّخةً الأرض.
منذ قليل، بدا وكأن كلّ ما يحدث هو شيءٌ لا يمكن تصديقه.
عندما أرخى الرجل قبضته عنها، سقطت إينيس على الأرض مع صوت جلجلة. حدّق الرجل بها وهي وجفونها ترتعش وهي وتحدّق في الفراغ، ثم قال.
“يجب أن يعرف الدوق إلمنهارد معنى الألم أيضًا.”
الألم …؟
هل سيهتمّ زوجي حتى لو بمقدار رمشة عينٍ لموتي؟
تخيّلت إينيس صورته الباردة والقاسية دائمًا، كما في الصورة المرسومة على جدار مكتبه، حتى أنها كانت على وشك الضحك في خضمّ كلّ هذا.
هل يمكن اعتبار ذلك حظًا، أنني علمتُ أن زوجي قاتلٌ متسلسلٌ مرعبٌ حتى في لحظاتي الأخيرة؟
لأنني لو لم أعلم، لربما شعرتُ بالتعاطف معه.
“…أوه. أوه، آغه…”
بينما كانت تستمع إلى صوت بكاء الرجل الذي قتلها الحزين، أغلقت إينيس عينيها ببطء.
لماذا تبكي؟هل تخاف أو تندم الآن بعد فوات الأوان؟
مع الألم الطاعن في خاصرتها، بد وعيها يغيب شيئًا فشيئًا. كان من الجيد أن المعاناة، بفضل ‘رعاية’ الرجل لتخفيف ألمها، لم تطل. لم يكن هناك وقتٌ حتى للشعور بالظلم لفترةٍ طويلة.
وبهذه الطريقة، واجهت إينيس إلمنهارد الموت.
***
“سيدتي؟”
اتسعادت إينيس وعيها على صوتٍ يناديها.
نظرت إلى أدوات المائدة وهي في حالة ذهول، ثم رفعت الشوكة متأخّرةً وابتسمت ابتسامةً متكلّفة.
“آه. كنتُ أفكّر في شيءٍ آخر لفترة.”
عندما سمعت الخادمة صوتها، عادت إلى الخلف بوجهٍ مطمئن.
“حسنًا، استمتعي بوجبتكِ، إذا كنتِ بحاجةٍ إلى أيّ شيء، ناديني من فضلكِ.”
“شكرًا لكِ.”
أجابت إينيس بينما ترفع الشوكة وتطعن بها الطماطم. لكنها وضعتها فورًا بمجرّد أن استدارت الخادمة وغادرت.
“هاا…”
أطلقت زفيرًا حتى بلغ طرف ذقنها وارتعشت جفونها. ثم رفعت يدها بحذرٍ ومسحت خاصرتها.
لا يزال الألم في خاصرتها واضحًا. صوت الرجل الممزوج بالبكاء الذي سمعته آخر مرّة، وشعور الدم الدافئ اللزج الذي يغمر جسدها، كلّها كانت حيّةً وكأنها حدثت بالأمس.
‘لكن كيف يمكن أن يحدث هذا؟’
عندما استعادت وعيها بعد الموت، كان كلّ شيءٍ في مكانه.
كانت السماء صافية، والقصر نظيف. كانت إمبراطورية دلفياس في سلام، والناس يبدون سعداء. وكأن شيئًا لم يحدث.
وكان ذلك صحيحًا.
بعد أيامٍ من حبس نفسها والتفكير، توصّلت إلى استنتاجٍ مفاده أنها قد عادت بالضبط إلى عامٍ قبل يوم وفاتها.
‘هل حلمتُ حلمًا؟’
لكن لا يمكن لأيّ شخصٍ أن يحلم حلمًا طويلاً إلى هذا الحد. ولا يمكن أن تكون لديه ذكرياتٌ واضحةٌ إلى هذا الحد بعد الاستيقاظ من الحلم.
في النهاية، لم يكن أمامها خيارٌ سوى تقبّل كلّ شيءٍ وعيش الحياة الجديدة التي مُنِحت لها.
“سيدتي، أعتذر عن إزعاجكِ أثناء تناول الطعام، لكن لديّ شيءٌ لأقوله.”
في تلك اللحظة، اقترب منها ستانلي، كبير الخدم في قصر إلمنهارد، بحذر.
أمسكت إينيس بالشوكة بسرعةٍ وتظاهرت بتناول الطعام بينما تنظر إليه.
“ما الأمر، ستانلي؟”
“في الحقيقة… ربما تتذكّرين أن اليوم هو يوم عودة الدوق.”
قرأت إينيس القلق والاهتمام على وجه ستانلي وهو يراقبها بحذر.
كان يغمره القلق تجاه السيدة التي، رغم حرصها الشديد، كانت تسأل عن أشياءٍ بديهيةٍ لتعرف إلى أيّ وقتٍ بالضبط عادت وما الذي يحدث في القصر الآن.
‘لا عجب إذا اعتقدوا أن هناك مشكلةٌ في رأس سيدة القصر.’
أومأت إينيس برأسها مع ابتسامةٍ لطيفة. لم تُرِد أن تُسبِّب المزيد من القلق لكبير الخدم المسنّ الذي كان يعتني بالقصر منذ وقتٍ طويل.
“بالطبع أعرف.أليس لهذا السبب طلبتُ منكَ بشكلٍ خاصٍّ الاهتمام بترتيب غرفة النوم؟”
مع كلماتها، اختفت التجاعيد على وجه ستانلي. رفع شاربيه الرماديين وابتسم ابتسامةً عريضة.
“آه، نعم! هذا صحيح. جئتُ لأخبركِ أن الخادمات أنهين للتوّ تنظيف وتنظيم غرفة النوم والمكتب.”
“لقد مرّ أكثر من شهرٍ على غياب زوجي، لذا كان هناك الكثير لترتيبه. شكرًا لجهودكم جميعًا. احرص على مكافأة الفتيات اللاتي بذلن جهدًا بشكلٍ مناسب.”
“شكرًا لكِ، سيدتي.”
خفض ستانلي رأسه بابتسامةٍ بدت وكأنها تغسل كلّ همومه ومشاكله السابقة.
عندما استدار وترك غرفة الطعام، وضعت إينيس الشوكة مرّةً أخرى. لم تلمس الطعام الذي ملأ الطبق على الإطلاق.
‘زوجي سيعود.’
بمجرّد سماع هذه الجملة، شعرت وكأن رائحة الدم الكريهة في ذاكرتها تلسع أنفها. شعرت بالغثيان كما لو أنها ستتقيّأ في أيّ لحظة.
أطلقت إينيس تنهيدةً صغيرةً وأغلقت عينيها.
‘لماذا عدتُ بالضبط إلى هذا الوقت؟’
إذا كانت ذاكرتها صحيحة، فبعد وقتٍ قصيرٍ من عودة زوجها من مَهمّة عملٍ في الخارج استمرّت شهرًا إلى العاصمة، تقع جريمة القتل الأولى في السلسلة التي هزّت الإمبراطورية.
‘حتى القتل الثالث، لم تكن الشرطة تضع احتمال كونه قتلاً متسلسلاً في الاعتبار، لكن كشف ذلك كان مسألة وقتٍ فقط.’
عندما تذكّرت بشكلٍ طبيعيٍّ صور الجثث التي وجدتها في المكتب المخفيّ لزوجها، شعرت بأنها لا تستطيع التحمّل بعد الآن.
نهضت إينيس فجأةً من مقعدها وهرعت خارج غرفة الطعام. لم تكن في حالةٍ تسمح لها بتناول الطعام.
بينما كانت تعود إلى غرفتها في الطابق الثاني راغبةً في الراحة، سمعت ضجّةً صغيرةً عند مدخل القصر.
استدارت مندهشة، ورأت ستانلي يجري نحوها.
“سيدتي! ها أنتِ هنا.”
“نعم، ما الأمر؟”
عندما سألت وهي تشعر بالتعب، أجاب ستانلي بوجهٍ مشرق.
“لقد وصل الدوق أبكر مما كنّا نتوقع. لقد نزل من العربة للتوّ، فلنخرج لاستقباله معًا.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 1"