أجبتُ على الفور بملامح توحي بأنّ السؤال بديهي، لكن ديث أغمض عينيه وهزّ رأسه نافيًا.
“ليس هذا.”
“دفعة البدء؟”
“…لا.”
هزّ رأسه مرة أخرى ببرود، فتوقّفتُ لحظة أفكّر، ثم اهتديتُ أخيرًا إلى الجواب.
“آه! الدفعة الوسطى!”
“…….”
إن لم يكن هذا أيضًا، فلم يتبقى سوى المبلغ المتبقّي، غير أنّني حين هممتُ بالكلام، كانت عينا ديث السوداوان تحدّقان بي وكأنّهما ستفتكان بي.
همم، يبدو أنّ المبلغ المتبقّي ليس الجواب كذلك….
“……ألا اتعجّل على الحكم على الهدف.”
تمتمتُ ببطء، وقد وفّقني الحظّ في انتشال إجابة بدت صحيحة من ذاكرة بعيدة.
ولحسن الحظّ، بدا أنّ هذا هو الجواب الذي يريده ديث، إذ عادت حدقتاه اللتان كانتا تلمعان ببرودة مرعبة إلى هدوئهما المعتاد.
“نعم، ما رأيتِه ليس سوى جانب واحد. وربما تعمّد أن يُظهر لكِ ما يدفعكِ إلى هذا الاستنتاج. لا تحكمي جزافًا، وواصلي المراقبة بثبات.”
“وماذا تنوي أن تفعل بخصوص حادثة ساحة القتال؟”
“سأكلّف شيفلين بالتحرّي عنها على حدة. من المريب حقًّا أن تقع تلك الحادثة تحديدًا في الوقت الذي كنتِ فيه غائبة.”
قال ديث إنّه ينبغي إبقاء جميع الاحتمالات مفتوحة، ثم شرب ما تبقّى من الشاي في الكأس الذي بردت حرارته.
على أيّ حال، انتهى الأمر بإسنادها إلى شيفلين، ومن الواضح أنّه لا يرغب في القيام بها بنفسه.
“هل تؤمن بأنّ شيفلين سيتمكّن من اكتشاف شيء؟”
“على الأقل كان موجودًا في الموقع، بل وشهد بنفسه ظروفًا مريبة، فلا بأس من توقّع مساعدةٍ معقولة. ما إن ينتهي التكليف الجاري سأوكِل إليه الأمر، أمّا أنتِ فعودي الآن.”
وبالنظر إلى طبع ديث، فإنّه لا يترك أيّ أمر مريب دون أن يتحقّق منه.
ولأنّني أعرف طبعه جيّدًا، وافقتُ على قراره دون اعتراض.
لكن لم يكن بإمكاني المغادرة هكذا.
فما زالت لديّ مشكلة كبيرة تتعلّق بالهدف.
“سيدي القائد، في مقرّ دوق كاسيو لا سبيل لديّ للتحقّق من قوّة الهدف. وحتى إن كان يخفي قوّته فعلًا… فلن يُخرج قوّة العائلة بسهولة ما لم تكن حياته مهدّدة.”
يُقال إنّ كلّ من شهد قوّة كاسيو الملقّب بالوحش لم ينجو حيًّا.
وهذا يعني أنّ المواجهات كانت فرديّة، لا جماعيّة.
أو أنّه قضى على أولئك الجماعة من طرف واحد، وبصورة ساحقة.
مال ديث برأسه على نحوٍ مستغرب عند سماعه كلامي.
“ألن ينتهي الأمر سريعًا إن كففتِ عن التصدّي بنفسك للقتلة الذين يزورونه ليلًا؟”
“وإن سقط الهدف قتيلًا في تلك اللحظة، فلن يبقى مجالٌ للعودة، وأنت تدرك ذلك جيدًا.”
“همم، إذا كان ما يزال حيًّا إلى الآن، فربما هو يخفي قوّته فعلًا. أو لعلّ لديه سُبلًا أخرى للبقاء.”
كانت هذه، على نحوٍ دقيق، نقطة الاختلاف بيني وبين ديث.
ديث يثق بالطريقة التي يراها ويمضي بها قدمًا، أمّا أنا فأفكّر دائمًا واضعةً الفشل نصب عيني، ولذلك تنقصني تلك الجرأة في الدفع.
“لكن المراهنة بقوّةٍ لم أتحقّق منها بعيني، ودفع الهدف إلى موقفٍ مميت، مقامرة. صحيح أنّ الحظّ حالفه حتى الآن، لكن في لحظةٍ واحدة قد ينقلب الحظّ عليه ويموت. وحينها سأفقد ما هو ثمينٌ لديّ….”
“ثمين؟ إيّاكِ أن تكوني قد تعلّقتِ بالهدف في هذه الأثناء….”
“لا أستطيع التفريط بثروةٍ طائلة.”
“…آه، من هذه الزاوية.”
تنفّس ديث الصعداء وهو يضع يده على جبينه، متنهّدًا تنهيدة قصيرة، قائلًا إنّ الأمر كما هو عليه لا بأس به.
ثم بدا كأنّه يغرق في التفكير برهة، قبل أن يرفع بصره إليّ بعينين سوداويين تشوبهما برودةٌ حادّة.
“إيلي. ليس الأمر أنّه لا توجد طريقة لتخفيف قلقكِ على الإطلاق.”
قلب بعض الملفات المكدّسة على طرف الطاولة، ثم التقط وثيقة واحدة.
“سأستأجر قريبًا قاتلًا واحدًا وأرسله سرًّا إلى مقرّ الدوق. سأأمره بأن يكتفي بتهديدٍ مناسب للهدف. وأنتِ راقبي من بعيد كيف سيتصرّف، وكيف سيكون ردّه.”
ووضع الوثيقة التي في يده على الطاولة.
كانت الصفحات تحمل أسماء عدّة مصطفّة بعناية، ويبدو أنّها قائمة بالقتلة الذين يمكن استئجارهم.
كان تفويض الدور للغير، كما قال ديث، أسهل الطرق وأسرعها.
لكن كان هناك سبب واحد جعلني لا أفكّر في هذا الخيار.
“سيدي القائد، إن كان لدى الهدف قوّة فعلًا، فذلك القاتل سيموت حتمًا.”
بصراحة، كان القاتل المستأجَر يذهب إلى حتفه بنفسه.
ولم يكن ديث ليجهل ذلك، غير أنّني تعمّدتُ التأكيد عليه.
فأومأ ديث برأسه بهدوء، وبحزمٍ أشدّ من ذي قبل.
“وعندها سنحصل على معلومة مؤكّدة بأنّ لدى الهدف قوّة. معلومة من الدرجة الأولى لم يتمكّن حتى فريق المتسلّلين النخبة من انتزاعها خلال نصف شهر.”
وبالتفكير البارد، لم يكن هناك خيار أوضح من هذا.
وما دام التهديد سيُناط بغيري، فلن أضطرّ للقلق من خسارة الهدف، بل سيكون ذلك أفضل لي.
‘مهما فكّرتُ، لا أجد خطة أفضل من هذه. ورفض هذا الاقتراح، وأنا قد قبلتُ المهمة، تصرّف غير مسؤول.’
ومع ذلك، كنتُ أرغب في تفادي الاعتياد على استخدام أرواح الآخرين كوسيلة مؤقّتة.
لكن في حياة القتلة، كان ذلك ترفًا.
ولذا، لم يكن لي سوى أن أبذل جهدي لأحافظ، بطريقتي، على حدٍّ أدنى من المبادئ.
“وإن ثبت أنّ الهدف لا يمتلك قوّة، فهل تنتهي المهمة؟”
“نعم. أمّا إن استخدم قوّته، فعليكِ أن تكتشفي مصدر تلك القوّة في أقرب وقت. علينا أن نتحرّك قبل أن ينفد صبر صاحب التكليف.”
قال إنّه لا داعي للمماطلة، وإنّه سيرسل القاتل بعد يومين.
بل إنّه كان قد اختار القاتل بالفعل، وراح يضع علامات على الأسماء في الورقة.
“وإن لم نكتشف شيئًا؟”
“يجب ألّا يحدث ذلك، لكن إن حصل، فلن يبقى سوى الملاذ الأخير.”
“……الملاذ الأخير؟”
ديث شخص عقلاني إلى أبعد الحدود، ونادرًا ما يستخدم مثل هذا التعبير المتطرّف.
لذا لم أستطع أن أتخيّل ما الذي يعنيه.
“سنجرّه إلى الخارج ونُدخله الخطر قسرًا. لكاسيو أيادٍ في أكثر من عمل، وليس من الصعب افتعال أمر كهذا. صحيح أنّ علينا تحمّل بعض المخاطر، لكن لا مفرّ.”
بكلمة واحدة، مواجهة مباشرة.
كان ذلك أشبه بصاعقة بالنسبة إلى قاتل يتقن التسلّل والاغتيال الخاطف ثم الاختفاء.
فطبيعة القاتل أن يدور حول الهدف مترصّدًا فرصة، لا أن يجرّه ويواجهه وجهًا لوجه.
“……سأحاول حلّ الأمر ضمن حدودي قدر الإمكان.”
كان عليّ البحث عن وسيلة تُنقذ حياة القاتل المستأجَر، وتكشف في الوقت ذاته ما إذا كان الهدف يمتلك قوّة أم لا.
فكلّما قلّ عدد الضحايا، كان أفضل.
على أيّ حال، وبعد أن اتّضح سبيل استدراج قوّة الهدف، حان وقت العودة إلى القصر.
كنتُ أنوي الرجوع قبل الغروب، لكن لكوننا في عمق المبنى حيث لا نوافذ، لم يكن بالإمكان معرفة ما يجري في الخارج.
“قد تكونين مشغولة، لكن ما إن ينتهي الأمر أرسلي تقريرًا فورًا. إن فشلتِ، فعلينا الاستعداد من جهتنا أيضًا.”
“حسنًا. على أيّ حال، لن نصل إلى الملاذ الأخير، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ متصنّعةً وأنا أردّ، لكن شعورًا بعرقٍ باردٍ كان يسري على طول ظهري.
التعليقات لهذا الفصل " 25"