بعد أن افترقتُ عن الخادمات وعدتُ إلى الغرفة، لم أستطيع أن أستلقي بسهولة، بل ظللتُ أذرع المكان جيئةً وذهابًا.
إذ كان من المؤلم مواجهة الحقيقة أنّ ما اعتقدتُه بديهيًّا على خادمةٍ أن تفعله، لم يكن سوى فعلٍ لا طائل منه.
بل إنّ الهدف نفسه لم يمنعني قطّ من ذلك، بل وكان أحيانًا يكلّفني بالتدليك.
ولأنّ تلقّي خدمة الآخرين بدا أمرًا طبيعيًّا بالنسبة له، لم يخطر ببالي لحظة أنّه لم يكن معتادًا على تلك الأمور.
‘كنتُ أظن أنّه وإن تأخّر تنفيذ مهمّتي فلن يتعرقل مسارها، لكن….’
غير أنّ التفكير بأنّي لم أفهم الهدف ولو قليلًا جعل قشعريرة تسري في ظهري.
لا، إذن ماذا كنتُ أفعل طوال ذلك الوقت؟
‘على أيّ حال، ليس مهووسًا بالنظافة، لكنّه يتجنّب ملامسة الآخرين قدر المستطاع. فقط لم يُظهر ذلك، ولهذا لم أكن أعلم… عليّ الحذر من هذا بعد الآن.’
أمضيتُ الليل أجمع وأرتّب الحقائق الجديدة التي علمتُها عن الهدف، ثم في الصباح الباكر استدعيتُ عربة وغادرتُ قصر الدوق.
صحيح أنّها إجازة بالاسم، لكن لم يكن بوسعي أن أُهدر ثانية من وقتي سدى.
وفوق ذلك، إن وقع أيّ أمر للهدف في غيابي، فسيكون مؤسفًا للغاية… لذا وجب أن أعود سريعًا قدر المستطاع!
***
“سيّدتي، لقد وصلنا إلى الوجهة.”
نزلتُ من العربة البالية التي استأجرتها ببضع قطع نحاس، وبعد أن حيّيتُ السائس ببساطة، أنزلتُ قبّعتي السوداء الطويلة لتغطي وجهي أكثر.
كان ذلك لتجنّب جذب الأنظار بسبب مظهري كما في المرّة السابقة، أو أن يتعرّف أحدٌ إلى وجهي ويتفاداني. كان كلّه إجراءً دفاعيا.
‘حينها كان الهدف برفقتي، فلم أملك خيارًا سوى المرور بالطرق الرئيسيّة.’
لكن في الحقيقة، قلّة من يعرفون أزقّة الخلفيّة مثلي.
فكم من طلبٍ أنجزتُه هنا من قبل، وأيّ طريق مختصر بلا عوائق يُعتبر هيّنًا بالنسبة لي.
انعطفتُ بخطاي نحو زقاق ضيّق، ودخلتُ مبنى ساحة القتال سريعًا من دون أن ألتقي بأحد.
كان عليّ الآن أن أبحث عمّن رأيتهم قبل نصف شهر في المقاعد الخاصّة، وحول البراميل خارج الساحة برفقة ريس.
‘أولئك الذين اتّخذوا القمار حياتهم، لن يكون إيجادهم صعبًا….’
لكن بعد أن التففت أربع مرّات حول جدار الساحة الواسعة، كاد تنفّسي أن يخرج على شكل تنهيدة ثقيلة.
‘تبا… لم أعثر على أحد! ظننت أنّي سأجد على الأقلّ واحدًا لو واصلتُ الدوران!’
كنتُ أفضّل إنجاز مهمتي دون أن أُخالط الغرباء كثيرًا، لكنّ المكان مزدحم إلى حدّ يستحيل فيه أن أتفقّد ملامح عشرات الآلاف وحدي.
“من فضلك، هؤلاء الذين كانوا في المقاعد الخاصّة… هل تعرفهم؟”
لذلك اخترتُ أن أُخرج بضع رسومات أوليّة لوجوههم، وأعرضها على باعة التذاكر المنتشرين هنا وهناك.
فبما أنّ عملهم يقتضي التجوال في الساحة، فلا بدّ أنّهم يعرفون الكثير من الزبائن الدائمين، وهم الأنسب لمساعدتي.
“هُم….”
أمعن بائع التذاكر النظر في رسوماتي ثم أومأ ببطء.
أوه، لم أتوقّع أن يتعرّف عليهم.
“كيف لا! إنّهم من الروّاد الدائمين. لكنّني لم أرهم مؤخرًا.”
“وهل حدث أمر غير اعتيادي قبل نصف شهر؟ كحادثة أو شغب مثلًا….”
يبدو أنّني صادفت بائعًا ذو ذاكرة جيّدة.
فأجاب بعد أن حكّ ذقنه قليلًا، ثم هزّ رأسه.
“نصف شهر… آه! نعم، قيل إنّ البراميل المملوءة بالزيت المستهلك في الفناء الخلفي قد اختفت تمامًا. سمعتُ ذلك من موظّف متجرٍ غذائيّ، قال كأنّها تبخّرت بلا أثر.”
“وماذا كان مصير تلك الحادثة؟”
“لم يُتّخذ شيء. كما تعلمين، لا يسهل استدعاء الحرس بسبب أمر تافه في مكانٍ كهذا.”
أي أنّه ما دام لم يمت أحد، فلا حاجة لتهويل الأمور.
بل إنّه حتّى لو وقع موت، لم يُستدعى الحرس يومًا.
فهنا يموت المقاتلون يومًا بعد يوم، ولم يطرأ للحرس أن يتدخّل، ولا حتّى أحد أبلغهم.
‘الحوادث في هذا المكان طبيعيّة تمامًا، فلا عجب.’
حتى لو كان الأمر غير قانوني، فلن يختلف الحال.
فالنبـلاء أنفسهم يخفون هويّاتهم ويأتون إلى هنا، ولن يجرؤ أحد على فتح قضيّة فساد أو جريمة تُحرّك التحقيقات.
لذا يمكن القول إنّ كلّ الجرائم مباحة في هذا المكان.
وإن كان ذلك تطرفًا، فهذا ما يجعلهم يسمّونه “الحيّ الخلفيّ”.
“هل رأيتَ أحد هؤلاء مؤخرًا؟”
“أه… لا أستطيع القول إنّي أعرف كلّ شيء.”
رفع البائع كتفيه بعد أن بدا متردّدًا، وأدار عينيه السوداوين كما لو يتعمّد المراوغة.
‘حان وقت تراجع جودة الأجوبة.’
أصلاً، مجرّد أنّه أجابني بهذا القدر يعدّ حظًّا حسنًا.
لكن هذا لا يكفي.
فما أحتاجه هو حوار مباشر مع المعنيّ.
لأجل ذلك اضطررتُ إلى صرف شيءٍ من مالي.
فأخرجتُ عملة ذهبيّة من جيبي وألقيتُها في صندوق اقتراعاته البائس لتصدر رنينًا واضحًا.
“هاه! ذ… ذهب! أحم، أحم! على ذكر ذلك، أظنّ أنّ أحدهم راهن احد هؤلاء قبل قليل على اللاعب رقم 17… لحظة.”
ما إن أبصر الذهب، حتّى تحوّلت عيناه بسرعة.
وبعد تفتيش الأوراق في الصندوق، ابتسم وفتح ورقة مطويّة.
“إنّه السيّد هنريسون، شخصيّة مشهورة بين المقامرين لطبعه الناري. اليوم راهن بثلاثة عملات فضيّة على مقعد B-29.”
أرانـي الورقة حيث كتب الاسم والمكان، ثم سحبها بخفة وهو يتلفّت حوله.
“ومن أيّ رسم من هؤلاء تقصده؟”
“هُمم، من يكون….”
ارتسم على وجهه من جديد التردّد.
تجرؤ على مساومتي؟!
‘… لكن حاجتي عنده، فلأصبر.’
أطلقتُ من عينيّ نظراتٍ حادّة بدل الكلمات، ثم أخرجتُ عملة أخرى بصوت مسموع.
رنـن!
“آه، الآن تذكّرتُ! لحظة….”
ثم التقط أحد رسوماتي وابتسم.
“أحسنتِ الرسم! هذا هو السيّد هنريسون. شعره بلون البنّ، وجهه مملوء بالنمش، ونظراته حادّة. اليوم يرتدي عصابة عين، ستجدينه سريعًا.”
وما إن وقع بصري على الرسم الذي اختاره، حتّى تقلّص وجهي.
أيّ لعنة هذه! وقع الاختيار على ذلك الوغد…
‘ذلك الحقير الذي لمس وجهي بجرأة… هل أنساه؟ مستحيل.’
بعد أن دفعتُ ذهبيّة، حصلتُ أخيرًا على معلومة ذات قيمة، فاتّجهتُ مباشرة نحو الصف B.
لم يكن صعبًا العثور عليه هذه المرّة، وقد عرفته يجلس بإهمال في طرف المقاعد.
‘أودّ لو أمسكتُه من شعره، أو حتّى من شحمة أذنه، وأجررته للخارج بالقوّة.’
لكن ذلك سيثير انتباه الجميع ويُعسّر الحديث معه.
لذا كان الأفضل أن أقترب بلطف وأبدو كشخص عاديّ، ثم أستدرجه للخارج.
“مرحبًا، أيّها الأخ الكريم. ما أطيب ملامحك.”
اقتربتُ منه، وأنا حريصة أن لا يظهر وجهي من تحت العباءة، وخاطبته بنبرة رقيقة.
كنتُ قد قرأتُ في كتابٍ عنوانه <كيف تتقرّب من الغرباء> أنّ هذه الطريقة قادرة على تحطيم حذر أكثر الناس انغلاقًا.
مؤلّفه كان “شايبي”، وأذكر أنّني وجدتُه ممتعًا ومفيدًا.
“هاه، أجل، أنا كذلك.”
“لكن… أسلافك يرمقونك دامعين الآن، فلا بدّ أن تهدّئهم. إن لم تفعل، ستخسر أموالك في كلّ مباراة قادمة!”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 22"