“يجب أن أكون أنا من يقتل الهدف، لا شبح، ولا وحش، ولا أيّ شيء آخر.”
إن كان ريس قد دخل الغابة حقًا، فلا شيء كان ليُفزعني أكثر من ذلك.
غابة الشتاء السوداء… مكان موحشٌ وخطير حتى بالنسبة لي، وغالبًا ما أتجنّب دخولها. لو صادف فيها وحشًا، فلن يكون له أيّ مفرّ من الموت.
‘يجب أن أجده وأُخرجه بسرعة.’
ما خفّف عنّي قليلًا هو أنّني اعتدت مؤخرًا ارتياد هذا المكان لجمع التقارير ورفعها للقائد، ما منحني دراية عامّة بالطريق.
لكن بدا وكأنّ الطريق الذي أعرفه… قد تغيّر؟
أو بالأحرى، صار غير مرئيّ.
فكلّما خطوتُ إلى الأمام، بدأ الضباب الكثيف يتصاعد من تحت قدميّ.
وحين حجب الضباب رؤيتي بالكامل، اندفعت إلى ذهني كلّ تلك القصص التي كانت تهمس بها الخادمات عن الأشباح.
‘يقولون إنّ الضباب دائمًا يسبق ظهور الشبح.’
‘صحيح! لقد رأيتُ شبحًا وسط الضباب… ثم فقدتُ وعيي فورًا!’
وكأنّ كلماتهنّ تحقّقت أمامي، مشهدًا بعد مشهد.
عادةً ما يُضخّم الناس القصص لتصبح أكثر إثارة، لذلك لم أتوقّع أن يكون الواقع مرعبًا إلى هذا الحد.
“…آه؟”
وبينما أحدّق حولي، لمحتُ من خلال الضباب شيئًا أبيض يتلألأ على بُعد.
لكن لأنّ الضباب أبيض، وذلك الشيء أبيض كذلك، لم أتمكّن من تمييزه بوضوح.
“هل… هل هذا شبح؟ لكنّه ضخم جدًّا ليكون شبحًا.”
كان يقف على مسافة غير بعيدة، بحجمٍ وطولٍ ذكّراني بشخصٍ أعرفه.
ثمّ خطر ببالي… لم يقل أحد من قبل إنه رأى الشبح عن قرب.
ربّما لأنّهم يفقدون وعيهم قبل أن يتمكّنوا من ذلك.
وإن كانت المهمة تتعلّق بقتل شبح، فليس هناك من يصلح لها سواي.
بلعتُ ريقي واقتربتُ ببطء من “الشبح”.
“أمسكت بك…!”
وحين وصلتُ إلى مؤخرة رأسه، مددتُ يدي وأمسكت بياقة ردائه الأبيض.
عندها فقط، بدأ الضباب ينقشع من حولي تدريجيًا.
أو ربّما… هو من كان يتّضح أكثر من الضباب.
“…ريس؟”
لم يكن شبحًا.
بل كان ريس نفسه.
ذلك الرداء الأبيض المغمور في الضباب هو ما جعلني أظنّه شبحًا.
كان مستندًا إلى جذع شجرة، وحين سمع صوتي، فتح جفنيه ببطء.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناي بعينيه، لمعت حدقتاه باللون الأحمر القاني.
توتّرتُ ورفرفتُ بجفنيّ، ليعود لون عينيه إلى البنفسجي المعتاد.
‘غريب… هل كنت أتوهّم بفعل الضباب؟’
لا أُصدّق أنّه كان هنا فعلًا.
كيف عرف الدوق أنّ ريس سيكون في هذا المكان بالذات؟
“سيّدي!”
الآن بات واضحًا أنّ الدوق لا يعتمد على التقارير فحسب.
لا بدّ أنّه زرع جواسيسه في الجناح الشرقي أيضًا.
فليس من المنطقي أن يكون على علمٍ بكلّ تحرّك يقوم به ريس بهذا الشكل.
“إيلي؟ ما الذي تفعلينه هنا؟”
نظر إليّ ريس بعينين تملؤهما الحيرة.
لكن في الحقيقة… هذا السؤال كان من المفترض أن أطرحه أنا!
وسط هذه الغابة المحظورة، أرض المجهول والخطر، لا أحد يجرؤ على الدخول.
أنا أعتدتُ على ارتيادها، لكن ريس؟ شابٌ عادي يسقط من سريره؟ كيف دخلها دون أن يصاب بأذى؟ يا له من حظّ لا يُصدّق!
“كنت أبحث عنك، سيّدي. رأيتُ باب الغابة مفتوحًا، فدخلتُ. كنت أحمل لك بعض الأوراق.”
كدتُ أقول إنّ الدوق هو من أرسلني، لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة.
واكتفيتُ بابتسامة بريئة وأنا أُخرج الأوراق من حضني.
“خرجتُ لأتمشّى مع ديل. تأخّرتِ كثيرًا، يا إيلي.”
كان في صوته شيء من العتاب.
مع أنني لا أظن أنّني تأخّرت بذلك الشكل، إلا أنّ نظراته… وكأنّه يعلم تمامًا أين كنت وما فعلت. فلم أجرؤ على الرد.
“…هل اضطررت لفتح الباب بالقوّة؟”
“ديل لا يهدأ إلا إن تمشّى وسط الغابة.”
وما إن أنهى جملته، حتى خرج ديل من بين الضباب، يركض بمرحٍ بين الأشجار.
كان فراؤه الأبيض يلمع وكأنّه خرج للتوّ من صالون تجميل. بدا سعيدًا للغاية.
لكن انتظر…
ذلك الشيء العالق على فمه…
…دم؟
“إيلي، لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ كأنّك رأيتِ شيئًا لا يُرى.”
مدّ ريس يده فجأة، وراح يمسح جانب عينيّ برفق.
كان دفء يده يضربني كأنّه نار، بينما جسدي لا يزال يرتجف من برودة الضباب.
“لحظة، سيّدي… فم ديل… أظنّ أنّ عليه شيئًا…”
“فمه؟ لا أرى شيئًا… آه، صحيح. ضباب غابة الشتاء السوداء يحتوي على مواد مسبّبة للهلاوس، فلا تشمّيه كثيرًا.”
نظرتُ من جديد…
وفعلاً، كان فمه نظيفًا تمامًا.
“آه… فهمت. لم أكن أعلم.”
فركتُ عينيّ بقوّة.
لكن حتى بعد ذلك، لم أعد أرى ذلك الدم.
إن كان الضباب يحتوي على مواد تُسبّب الهلوسة، فلا شكّ أنّ هذا ما حدث لي.
لكن…
لماذا لا يزال أنفي يشمّ رائحة الدم؟
هذه المرّة لم تكن مجرّد هواجس.
بل شعور راسخ، واضح، لا يمكن تجاهله.
‘الرائحة قريبة… لكن من أين تأتي؟’
الضباب جعل من المستحيل تقريبًا التركيز على حاسة الشم.
لكن الأغرب من ذلك…
أنّ هذه الرائحة لم تكن فقط لرائحة دم الوحوش.
كان فيها شيء آخر.
دم بشري.
ولم يكن مجرّد حدس. بل يقين.
لقد قضيتُ حياتي أركض في الميدان، وشممتُ دم البشر أكثر مما يجب.
‘لا شكّ في ذلك. هذا دم إنسان.’
لكن لماذا قد تختلط رائحة دم الإنسان مع دم الوحش في مكانٍ كهذا؟
إلا إن كان هناك قتال… أو عملية صيد؟
وبينما كنت أُدير رأسي بحثًا عن مصدر الرائحة، أمسك ريس يدي فجأة.
“إيلي، لمَ لا نعود إلى القصر؟ الضباب يزداد كثافة، وقد نضيع.”
“آه… نعم. لكن، سيّدي… ألم يحدث لك شيء هنا في الغابة؟”
“لا. ولمَ تسألين؟”
نظر إليّ بنظرات بريئة، كعادته دائمًا، وكأنّ سؤالي غير منطقي.
هل من الممكن أن تكون تلك الرائحة مجرّد وهم آخر من الضباب؟
فمن المستحيل أن يكون هناك دم حقيقي حول شخصٍ ضعيفٍ مثل ريس.
“لا، لا شيء. فقط… الجوّ يوحي وكأنّنا سنُصادف جثّة في أيّ لحظة.”
قلتُ ذلك بنبرةٍ تمزج المزاح بالحقيقة.
ضحك ريس بخفّة.
“مستحيل.”
نعم… مستحيل، كما توقّعت.
وأومأتُ له، وكأنّي أُصدّق قوله تمامًا.
***
“يقولون إنّ هناك أشباحًا في الغابة… هل سبق لك أن رأيتها، سيدي؟”
كانا يسيران عائدين إلى القصر حين سألته إيلي.
فأمال رايس رأسه بتأمّل.
ما الذي يجب أن يجيبها به؟
أنّه لا يوجد شيء اسمه أشباح؟
إن كان هناك شيء في هذه الغابة، فهو ليس شبحًا… بل هياكل عظمية.
‘لو قلتُ ذلك، ستسكت فورًا.’
ريس كان يستمتع بكلام إيلي إلى جانبه.
الموضوع نفسه لم يكن مهمًا، بل فقط وجودها هناك.
كأنّها قطة تُصدر همهمة ناعسة، ولا أحد يهتمّ بكلماتها.
“أيّ أشباح؟”
قرّر أن يتجاهل الأمر ويُمثّل الجهل.
“آه، لا تعرف؟”
كما توقّع، اتسعت عيناها بدهشة.
تلك العيون الصافية بلون السماء جذبت نظر ريس كالمغناطيس.
“تقول الشائعات إنّ الغابة تُغلق في الشتاء لأنّ الأشباح لا تظهر إلا فيه. وهناك من شاهدهم أيضًا.”
كانت قد عادت من حديث طويل مع الخادمات، ويبدو أنّها جمعت كمًّا كبيرًا من القصص عن الغابة.
‘إذًا، لم أكن مهمّشا… هي فقط كانت تهدر وقتها مع هذا الكلام.’
تذكّر حين قال ديل إنّ الخادمات حين يجتمعن، لا يتحدّثن إلا عن الرجال.
ضحك ريس بهدوء.
كاد أن يُخدع بكلامها اللطيف، لكن تبيّن له أنّه مج
رّد صوت جميل ليس أكثر.
“رغم الشائعات… جئتِي للغابة من أجلي؟”
“أم… نعم، فعلتُ.”
“ألم تخافي؟”
بدت متردّدة للحظة، ثمّ هزّت رأسها ببطء.
“خفتُ… نعم. لأنّه لو اختطفك الشبح، فلن أجد من يدفع لي راتبي.”
…آه، هذا ما كان يُخيفها إذًا.
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
التعليقات لهذا الفصل " 17"