“هممم…….”
راحت أصابع ريس تنقر على الطاولة بإيقاعٍ بطيء.
فبحسب ما ورد في تقرير ديمون الذي دخل للتو، فإن ايلي كانت تثرثر مع الخادمات في الجناح الجانبي.
‘لا يُعقل أنها تجهل أنني بانتظارها.’
لا بدّ أنّ أمرًا آخر استحوذ على أولويّتها. فلا يمكن أن تتصرّف إيلي هكذا دون سبب.
“هذا غير مقبول.”
كان ينبغي لـريس أن يكون أولويّة إيلي القصوى، كما كان دومًا.
أليس وجودها في هذا المكان بفضله؟ إذن فلتتصرّف على هذا الأساس.
“ديمون، اذهب وأحضِر ديل.”
“سيدي، لقد مضى على نوم السيد ديل عشر دقائقٍ فقط.”
كان دِيل يكره أن يُوقَظ من نومه، خصوصًا من سباته العميق.
فإن قاطعه أحد، سيُريه عن طيب خاطر أنيابه الحادّة النادرة الظهور، كما لو أنّه يُقيم بها عرضًا مفصّلًا.
“ممتاز. فأنا بحاجة إلى وحشٍ غاضبٍ بحق.”
إن أردتَ أن تقتلع شيئًا صلبًا، فلا بدّ أن تكون لك قوّة تكسر الحديد.
وإن لم تملك الأداة المناسبة، فصنعها هو الخيار البديل.
“…أفهم ما تنوي فعله، لكن بإمكانك أن تأمر رئيسة الخدم بجلب المفتاح. سيكون ذلك أسهل بكثير.”
رغم عدم وجود توجيهٍ صريح، فإن ديمون التقط فورًا مقصد ريس، وعرض عليه بديلًا بصوتٍ مملوءٍ بالاحترام.
أن يلجأ إلى دِيل فقط لنزع سلسلةٍ معدنيّة… هذا يعكس مجددًا شخصيّة ريس العجيبة التي كان ديمون يعرفها.
لا سيّما وأن ديل لم يكن عاديًّا، بل كائنٌ سماويّ قدّسي، لا يرتدي سوى قشرةٍ أرضيّة.
ذاك الكائن الذي يُقال إنّه يحمل قوّةً توازي الحكام، والمهاب من الجميع.
“رئيسة الخدم مجرّد كلبةٍ لأبي. إن علمتْ، ستنقل له الأمر ويُصبح الوضع مزعجًا. أيقِظ دِيل.”
كانت رئيسة الخدم كما قال ريس ممن يبلّغون الدوق بكلّ صغيرة وكبيرة. وفي أطيب توصيف “مُخلصة”، ولكنها في الحقيقة “كلبةٌ مُطيعة”.
لا شكّ أنّ الدوق كان على علمٍ بـإيلي.
فحتى إن لم يكن قد رآها بعد، لا بدّ أنّه سمع عنها بما يكفي ليعرفها فور رؤيتها.
عند سماع كلمات ريس الحاسمة، لم يجادل ديمون أكثر، وغادر المكتبة بهدوء.
ولأن ريس وحده فقط كان بمقدوره إيقاظ ديل باعتباره كائنًا سماويًّا، لم يكن أمام ديمون إلّا أن يحمله بكلّ احترام ويُحضِره إلى سيده.
وما إن استقرّ ديل النائم أمام ريس، حتى مدّ هذا الأخير يده دون تردّد، ورفع جفن الكائن الناعم برفقٍ خادع.
“أنت تغدو وقحًا أكثر فأكثر.”
بدأت الحمرة تعود إلى البؤبؤ الرماديّ الباهت، تحمل بين طيّاتها انزعاجًا متصاعدًا.
وبينما كان عقله يُسحب عنوةً إلى عالم اليقظة، كشف ديل عن أنيابه وراح يُصدر صوتًا ساخطًا.
“ألم نتّفق أن نتظاهر بأننا مقرّبان أمام الآخرين؟”
سواء اتفقا أم لا، لم يُعر ريس ذلك اهتمامًا، واكتفى بضحكةٍ جانبيّة وهو يربّت بخفّةٍ على رأس ديل الذي كان يزمجر.
فانحرف بصر دِل الأحمر إلى الجهة المعاكسة، وهو يئنّ بغيظ.
“ذاك الإنسان يتبعك. لا يُعدّ من الغرباء.”
“سأنتظر في الخارج.”
حقًا، كما يكون السيّد، يكون مخلوقه السماويّ.
رغم أنّ العلاقة بين ريس و دِيل لم تكن جيّدة، إلا أنّ الشبه بينهما كان لا يُنكر.
“بأنْيابك القويّة تلك، تستطيع أن تمزّق أيّ شيء، أليس كذلك؟”
“مع مَن تظنّ نفسك تتحدّث؟ أنا الكائن السماويّ العظيم، لا شيء يعجزني!”
نفخ كتفيه الصغيرين بفخرٍ واعتزاز، كأنّه يقول.
‘أنظروا إليّ!’
لكن مهما حاول التفاخر، فهو لم يكن سوى ثعلبٍ كثيف الفرو، مما جعل المشهد قليل المهابة.
“جميل. إذًا، مزّق السلاسل المربوطة عند مدخل الغابة.”
“أي شيء…! مـــهــلًا، ماذا؟!”
وقبل أن يزول أثر الصدمة، كان ريس قد أمسكه من مؤخرة عنقه، ودفعه نحو السلاسل التي كانت تلتفّ بكثافة عند مدخل الغابة السوداء.
غرست أنياب دِيل نفسها فيها، وفي لحظةٍ تحطّم جمالها المصقول بخدوشٍ لا تُعدّ.
“لم يوجد في تاريخ عائلة كاسيو أحدٌ أهانني هكذا! تستعملني، وأنا من هو أكبر منك سنًّا، في قضم الحديد؟!”
“أن تكون عجوزًا يبدو نافعًا إذًا.”
“آآآه! كرااااه!”
وبينما هو يلعق أنيابه المُخرّبة بحزن، راح يعوي عاليًا وكأنّ قلبه قد انكسر.
صحيح أنّ أسنانه ستعود قريبًا إلى حالتها الأصلية، لكنّ المهانة التي تلقّاها لن تندمل بهذه السهولة.
“اصمت. علينا أن ندخل قبل أن تصل إيلي.”
أمسك ريس بتلابيبه مجددًا بلا مبالاة.
كان الاثنان يرتادان الغابة بين حينٍ وآخر، لكنّهم يُضطرّون إلى المراوغة شتاءً بسبب الأبواب الحصينة التي تُركّب خصّيصًا لمنع الدخول.
وكان هذا بأمرٍ مباشرٍ من الدوق.
فمع أنّه لم يعلم سبب توجّه ريس المتكرّر للغابة، إلا أنّه استشعر خطرًا غامضًا، ومنع ذلك.
وزاد الطين بِلّة انتشار الشائعات عن أشباحٍ وخرافاتٍ سخيفة.
والحمد لله أنّ الحظر كان موسميًّا، لكن لا ضمان أن لا يمتدّ إلى باقي الفصول.
“الآن وقد كُسرت البوّابة، فسيتمّ استبدالها بأخرى جديدة قريبًا. لذا، تناول قدرًا كبيرًا اليوم.”
كلّما توغّلا أكثر في الغابة، ازدادت كثافة الضباب حتى بات يحجب الرؤية.
لكن ريس تابع خطواته دون تردّد.
فقد سلك هذا الطريق آلاف المرّات، حتى بات يستطيع اجتيازه مغمض العينين.
“لكن، ماذا لو جاءت إيلي إلى هنا؟ ربما تبحث عنك.”
“يبدو أنّك لم تفهم سبب تكسيري للبوّابة بهذا الشكل.”
ثعلبٌ غبي.
تردّدت نبرته الهادئة وسط الضباب، تحمل في طيّاتها فظاظةً لا تُخطئها الأذن.
سمع دِيل الكلمات رغم تشتّت المكان، فرفرفت أذناه المكسوّتان بالفراء بغيظٍ ظاهر.
“ماذا!؟”
“أنا فقط أخبرها، بطريقةٍ لطيفة، أنني هنا.”
“مفاجئ. كنتُ أظنّك تُخفي عنها كلّ شيء.”
وحين بلغوا مركز الغابة، غاص ريس وسط الضباب الكثيف كما لو كان يعرفه جيدًا.
“إن أردتَ استغلال أحد، فلا بدّ أن تُطعمه أولًا.”
“ولِمَ تقول ذلك وأنا أنظر إليك؟ وقح!”
ما إن أنهى عبارته المُستاءة، حتى دوّى صوت التهامٍ عنيف شقّ سكون الغابة.
كان الصوت كأنّ أحدهم يمضغ العظام بكلّ همجيّة.
لم يلبث أن ظهر ديل من جديد.
“أراك لستَ شبعانًا.”
“قلتُها سابقًا، هذه الغابة السوداء ماتت منذ زمن. أحتاج إلى ‘طاقة سماويّة’ حقيقيّة.”
خلفه كانت بقايا الجثث متناثرة.
جسدٌ بشريّ متحلّل منذ زمن، وجثّة صغيرة لمخلوقٍ قتلَه ريس قبل لحظات.
قد لا تكون هذه الطريقة مطابقة لتعريف ‘الطاقة السماويّة’ المعروف، لكنها الأقصر والأسرع.
فالروح تقترب من الحاكم بعد الموت، لذا فإنّ التهام الجسد الميت يمنح أثرًا من القدسيّة.
“ريس، ابحث عن وسيلة للذهاب إلى ‘تيراسا’. فهي أقرب مكانٍ إلى منشأ الكائنات السماويّة. إن وصلتُ هناك، فسأنمو بأمان.”
كان وجود الكائن السماويّ دليلًا على شرعيّة وريث عائلة كاسيو.
فمن يختاره الوحش السماوي يُصبح السيّد الحاكم.
وإن مات أحدهم، فإن الكائن يعود للولادة من جديد، ليخدم الوريث التالي.
لكنّ ذاكرة الكائن السماويّ تنتقل بكاملها، فلا فرق بين الأجيال سوى الجسد.
ولأداء طقوس الاختيار، يجب أن يبلغ الكائن مرحلة النضج الكامل.
و دِيل لم يبلغ بعد سوى الخامسة عشرة، كـ”ريس”.
وبحسب المخطّط، كان من المفترض أن ينضج منذ زمن.
لكنّ بيئة قصر كاسيو باتت غير مناسبة لنموّه.
فقدسيتها فُقِدت، بل باتت تتلوّث يومًا بعد يوم.
“سأُحضّر ذريعة مناسبة في أقرب وقت.”
“مهلًا، ريس. هناك شيءٌ يقترب. هل هو وحش؟”
بدأت أذنا دِيل ترتجفان بسرعة، وقد راح يُحلّق حول ريس، يستشعر وجود خطرٍ يقترب.
في تلك اللحظة، ركّزت عينا ريس الحمراء التي اشتعلت بفعل طاقة دِيل على نقطةٍ محدّدة…
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 16"