“هذه أول مرة أرى فيها إيلي لا تُركّز عليّ. بماذا كنتِ تفكرين؟”
…المشكلة الأكبر أنّي حتى الآن لم أكتشف سرّ قوّة ريس، بل لا أعلم حتى ما إن كانت موجودة أصلًا.
حقًّا، طوال حياتي كقاتلة، لم أذق طعم الذلّ كما أذقته الآن.
“هل….”
مع تدفّق السؤال بصوت خافت، تحرّك لساني كما لو كنتُ أنتظر تلك اللحظة منذ زمن.
‘كنتُ أفكّر… هل أستطيع قتلك؟’
“كنتُ أتساءل إنْ كان السيّد يُولي الأشياء عنايةً خاصة.”
طرف المنديل الممزّق كان مستلقيًا فوق يدي كأنه جثّة هامدة، يتمايل بضعف.
هذه هي المرّة الرابعة التي أُقابل فيها هذا المظهر البائس، وأضطرّ إلى ترقيع الفجوات بالإبرة والخيط.
كان بوسعه، بما يملك من مال، أن يشتري عشرات المناديل الجديدة، لكن ريس كان يُصرّ على أن يأتيني بهذا المنديل الممزّق، ويتوسّل إليّ أن أرقّعه له.
“همم؟ بالطبع أعتني به، ولهذا أستخدمه كلّ يوم.”
هذا المنديل هو أكثر ما يعتزّ به، وكذلك أكثر ما يُفسده.
لأنّه يعتزّ به، فهو يستخدمه كثيرًا، ولذلك يبلى سريعًا.
وبما أنّه يُستخدم كثيرًا، فلا بدّ أن يتّسخ ويتمزّق بسرعة، خاصّةً أنّه مصنوع من القماش.
لكن ريس لم يكن يُدرك هذه المعادلة البسيطة. بل ربما لم يكن يريد أن يُدركها من الأساس.
“سيّدي، عادةً من يعتزّ بشيء ما يُخفيه بعناية. لا يستخدمه بهذا الشكل المفرط… أقصد، بهذه الطريقة.”
كتمتُ غيظي المتفجّر بصعوبة، ثمّ رسمتُ ابتسامة متصلّبة على شفتيّ وأجبتُه بلطف.
“يُخفيه؟ ولماذا؟”
أمال ريس رأسه باستغراب، واتّسعت عيناه البنفسجيّتان بتعجّب.
نظرتُ في عينيه الصادقتين، ثمّ رفعتُ المنديل البالي برفق أمام وجهه وهززته قليلًا.
“لأنّ الأشياء الثمينة لا بدّ من التعامل معها بحذر إنْ أردنا أن نراها لفترة طويلة. وإلا، فلن يطول الأمر حتى يختفي هذا المنديل تمامًا.”
لا، بل لن يطول الأمر أبدًا. بل إنّه، من حالته الآن، يصلح لأن يكون وقودًا لنار موقد.
لو كنّا في مقرّ <الوردة السوداء> لكان هذا المنديل البائس يشتعل الآن تحت قدر حساء البطاطا.
‘بل وكنتُ سأكون أوّل من يرميه بنفسي في الموقد.’
لو لم يكن هذا الطفل الذي لا يعرف كيف يتصرّف بسنّه هو هدفي الذي يساوي عشرة ملايين قطعة ذهبية… لكان هذا المنديل قد تمّ تمزيقه إربًا…
‘ملاحظة: للحصول على ثقة الهدف، لا تتردّدي في استخدام أيّ وسيلة كانت.’
تمامًا في لحظة غليان دمي، ظهرت في ذهني الملاحظة التي كتبها ديث في نهاية الرسالة.
صحيح، سأتحمّل كلّ شيء… من أجل العشرة ملايين.
على كلّ حال، يبدو أنّ حديثي أثّر فيه، إذ خفّت إضاءة وجه ريس تدريجيًّا.
“إنّه تذكار من والدتي. لا أستطيع رميه، مهما اهترأ.”
ماذا…؟ هذا المنديل هو تذكار من الدوقة؟
لو لم يقل ذلك، لما عرفتُ أبدًا… بل كيف له أن يُخرّب تذكارًا عزيزًا هكذا، ثمّ يتحدّث عنه بهذا الوجه الحزين؟!
‘همم… حسنًا، سأسحب كلامي عن كونه طفلًا لا يعرف قدر نفسه.’
لطالما اعتقدتُ أنّ الطريقة المثلى للحفاظ على شيء عزيز هي ألّا تلمسه، أن تُبقيه محفوظًا في مكان أمين.
لكن… بعد أن عرفتُ قصّته، ربما كان استخدامه اليومي له بعناية هو طريقته الخاصة في التعبير عن حبّه له.
رغم أنّه… يبالغ قليلًا.
“…سأحاول ترقيعه قدر الإمكان. لكن، لا مجال لتكرار الأمر. القماش لن يصمد أكثر من هذا.”
حبستُ تنهيدة طويلة، ثمّ بدأتُ الخياطة بحركاتٍ اعتدتُها.
اقترب ريس بهدوء وجلس قربي، يراقبني بصمت.
“إيلي، يبدو أنّ لا شيء تعجزين عنه. ألم تقولي إنكِ عملتِ في قصر البارون غيرالد؟ وأنكِ درستِ في الخارج أيضًا؟”
“نعم، صحيح.”
نعم… لا. للأسف، لا أعرف حتى من هو ذلك “غيرالد”. وأمّا الدراسة في الخارج؟ لم أرَى ميناءً من قبل، فكيف بالسفر؟
كلّ تلك السّيرة الذاتية المبهرة لم تكن سوى كذبة متقنة نسجتها كي أتمكّن من التسلّل كخادمة إلى قصر دوق كاسيو.
ولأنّه مكان معروف بانغلاقه، كان عليّ أن أبذل جهدًا كبيرًا في تزوير تاريخي لضمان قبولي.
“وما سبب ترككِ عملكِ في قصر البارون؟”
“الراتب كان زهيدًا. والآن، انتهيتُ من علاج المنديل. عليك أن تكون حذرًا جدًا عند استخدامه، مفهوم؟”
ما إن أنهيتُ ترقيعه حتى سلّمتُه له، ثمّ وقفتُ فجأة.
بما أنّه ناداني لأرقّع له المنديل، لم أُكمل تنظيف غرفة النوم، لذا وجب عليّ إتمامه.
رفع ريس رأسه ونظر إليّ بشيء من الحزن.
“إيلي، هل يمكنكِ بعد تنظيف الغرفة أن تُحضري لي بعض الأوراق من المكتبة في الجناح المنفصل؟ ديمون طلب مراجعتها اليوم على وجه السرعة.”
“حسنًا، سأفعل.”
خرجتُ من مكتب ريس ونظرتُ إلى النافذة في الممرّ.
كانت الشمس التي كانت دافئة قد بدأت تفقد حرارتها، والأشجار الكثيفة بدت كأنّها هياكل عظمية ذابلة.
في إمبراطوريّة “ريفد”، فصلا الربيع والخريف قصيران جدًا، لذلك يستمرّ الصيف طويلًا، ويأتي الشتاء بسرعة كبيرة.
ومع تغيّر الفصول، كنتُ أحرص على إرسال تقاريري إلى <الوردة السوداء> بانتظام… لكن، ويا للأسف، مرّ نصف شهر ولم أحرز أيّ تقدّم يُذكَر.
‘ولِمَ أُحرز أصلًا؟’
إن أردتُ تبرير ذلك، فأقول إنّ ريس نادرًا ما يُظهر قوّته.
والسبب؟ لأنّي أنا من يتولّى التخلّص من القتلة الذين يأتون لاغتياله ليلًا، كلّ ليلة، كما لو كان موعدًا ثابتًا.
حتى البارحة، ربطتُ قاتلين غبيّين معًا وألقيتُ بهما بعيدًا.
لكنّهم لا يظهرون إلا عند الفجر، حين يكون الجميع نائمًا، ولهذا لم أذق طعم النوم الحقيقي مؤخرًا.
“عليّ أن أُضيف إلى هذا التقرير بندًا خاصًّا بتكاليف حماية الهدف…”
لكن حتّى بعيدًا عن ذلك، فإنّ قصر دوق كاسيو ينعم بسكونٍ مريب.
‘رغم ما يُقال عن شرّه، فإنّ الأمر مفرط في الهدوء.’
لكنّ لهذا السكون سببًا وجيهًا.
بما أنّه لا يوجد حرّاس في القصر، فإنّ الخدم هنا يتدرّبون بجدّ على الدفاع عن أنفسهم.
ولهذا، فإنّ أيّ قاتلٍ عادي يمكن للخدم التخلّص منه دون عناء.
لا عجب إذًا أنّ أفخاذهم وأذرعهم العلويّة كانت بتلك الضخامة… لا تُناسب عامة الناس إطلاقًا.
وأثناء مواصلتي تنظيف الفراش، كنتُ أسترجع في رأسي ثلاث تساؤلات لم أجرؤ على تدوينها في التقارير.
الأوّل: غياب دوق كاسيو.
“صحيح أنّه لا يُحبّ الظهور كثيرًا، لكن، ألهذا الحدّ لا يظهر أبدًا؟ هذا غريب.”
أعلم أنّ القصر ضخم إلى درجة تجعل اللقاءات الصدفية نادرة، بل مستحيلة.
لكن عدم رؤية ولو شعرة واحدة منه، هذا مريب.
حتى ديث، الذي يُلقي النكات نادرًا، سخر من الأمر قائلًا إنّ عليّ التأكّد من أنّه ما زال على قيد الحياة.
‘الهدف في الجناح الشرقي، والدوق في الغربي. والمساحة بينهما تكفي لبناء قصرين جديدين.’
كنتُ قد درستُ مخطّط القصر بعناية، لذا أعلم موقع جناح الدوق بدقّة.
لكنّه بعيد تمامًا عن جناح ريس، لذا لم أصادفه يومًا، بل لم أمرّ حتّى بجواره.
حتى ريس نفسه، لم يتشارك معه طعامًا ولا حديثًا في أيّ مناسبة، ناهيك عن المسائل العمليّة.
ولهذا، لم تتح لي أيّة فرصة بلقاء الدوق، حتّى كخادمته الخاصّة.
“يبدو أنّ العلاقة بينهما ليست جيّدة… لكن دون دليل، لا أستطيع كتابة شيء في التقرير.”
وحين حاولتُ سؤال الخادمات عنه، بدت عليهنّ الكآبة، وتجنّبن الحديث فورًا.
ولا سبيل أمامي إلا الاستفسار من كبار السنّ الذين عملوا طويلًا، لكن مجرّد ذكر اسم الدوق كان كافيًا ليفرغ وجوههم من الدم، ويبتعدوا مرتعبين.
‘إنّه ليس مجرّد حذر، بل خوف حقيقيّ من الحديث عنه. لكنّ مصدر هذا الخوف… لا يبدو أنّه الدوق نفسه.’
أمرٌ عجيب، أن يخاف الناس من رجل، لكنّ مصدر رعبهم ليس ذلك الرجل نفسه.
وبعد نصف شهر من العمل، ما حصّلتُه هو فقط بعض الحيل الخادمة، وبعض الم
علومات الصغيرة عن الهدف، ومخطّط القصر.
تنفّستُ بخيبة وأنا أنهي ترتيب الفراش، ثمّ نظرتُ إلى صندوق الإسعافات في منتصف الغرفة.
ثاني التساؤلات كان ذلك الصندوق…
يتبع..
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 13"