0
المقدّمة
“هَهْ… هَهْ…”
في ليلٍ أسودَ كالفحم، كانت فتاةٌ بشَعرٍ فضيٍّ تركض بكلّ ما أوتيت من قوّة، تسابق ظلّها لتنجو من الهلاك.
وراءها كانت تتدحرج كتلةٌ داكنة لا يُعرَف لها شكل، تطاردها بصمتٍ ثقيلٍ كالموت.
‘مخيفٌ… مخيفٌ جدًّا!’
كادت الدموع تنفجر من عينيها، فلو توقّفت لحظةً واحدة، لالتهَمَها ذاك المخلوق الكامن في الظلام.
ذاك الوحش… هو بلا شكّ الكائن الذي تتحدّث عنه الإشاعات المنتشرة في البلدة.
“لا… لا! أمي! أبي!”
كانوا يقولون إنّ شيئًا مريعًا يتغذّى على الدماء يجوب الليل، ولهذا كانوا يحذّرونها من مغادرة البيت بعد حلول الظلام.
لكنّها خالفتَ الوصيّة… وهذه نتيجتها.
راحت تركض في الطرقات بجنون، تصرخ منادِيةً والديها بأعلى صوتها لعلّ أحدهما يسمعها ويأتي لنجدتها.
“أنقذوني! أرجوكم!”
ارتجف جسدها الصغير من شدّة الخوف، حتى غامت رؤيتها وهي تحدّق في الظلمة.
مسحت دموعها بظاهر يدها المرتجفة، وأدركت أنّها لو تعثّرت لحظة فستُمسَك.
‘كم هو مرعب!’
ارتجف جسدها كلّه ارتعاشًا.
أقسمت في قلبها أنّها لن تخرج إلى الليل بعد اليوم، ولن تخالف وعدها لوالديها أبدًا.
“آه!”
امتدّت يدٌ سوداء كظلّ الموت نحوها، كانت في البدء كغصنٍ نحيل، ثمّ أخذت تتضخّم حتى صارت كعصا غليظة متحوّلة الشكل.
ومن بعيدٍ، لاح لها بيتٌ مظلمٌ سكنت فيه الأنوار.
تهلّل وجهها المبلّل بالدموع.
‘إنّه منزلنا!’
ازداد أملها، فاندفعت أسرع نحو البيت.
لكنّ الكتلة السوداء أدركتها وأمسكت بكاحلها.
“آآآه!”
صرخت وهي تسقط أرضًا بعدما جذبها الوحش بقوّة.
تخبّطت بجنون محاولةً التخلّص منه، إلا أنّ الكتلة أحكمت قبضتها على جسدها الصغير وألقتها أرضًا.
“لا، لا! أرجوكم! أنقذوني!”
لكنّ صراخها خُنِق، إذ غطّى الكائن فمها بيده السوداء.
كان جسده يتبدّد ويتجمّع كالدخان، ثمّ تبلورت فيه عينان مغمورتان بلون الدم.
“…أطلقي… سراحي.”
رنّ صوتٌ معدنيٌّ خبيثٌ في الفراغ.
“دمُكِ… أعطيني دمَكِ.”
كان صوته الملتوي يُجمّد الدم في العروق.
ومن بين الظلام برزت أنيابٌ طويلة صفراء تلمع بنورٍ خافت، فأخذت الفتاة تهزّ رأسها بيأسٍ ورعب.
“اُغْ… اُغْ!”
كانت تعلم أنّها ستموت هذه الليلة.
‘أمي… أبي… أنقذاني!’
ارتجف جسدها كغصنٍ في عاصفة.
عضّت ذاك الدخان الذي يخنقها، لكنّه لم يكن له جسد يمكن أن يُؤذى.
“آه…”
استسلمت تمامًا.
ستُثقب أنيابُه عنقَها، وسيُفرغ دمها حتى تموت، تمامًا كما في الإشاعة التي أرعبت الإمبراطوريّة بأسرها.
‘لا… لا أريد أن أموت!’
أغمضت عينيها بشدّة، ولم يبقَ لها إلّا الارتجاف انتظارًا للنهاية.
وفي تلك اللحظة…
“اترك ابنتي أيّها الوحش!”
دُفع الباب بعنف، واندفع والداها إلى الداخل وهما يصرخان.
رفع الوحش الأسود رأسه فجأة، فسمعت الفتاة نفسها تهمس بخوفٍ مرتعش:
“لا… لا تفعل…”
رأت بوضوحٍ فمَه وهو يرتسم بابتسامةٍ مقزّزة.
“لااا!”
وفي لحظةٍ واحدةٍ، ابتلع دخانُه الأسودُ والديها بالكامل.
“آه!”
شهقت ميلوني وهي تفتح عينيها على اتّساعهما، لتجد أمامها عينين حمراوين تلمعان في الظلمة.
“مساء الخير، يا ميل.”
داعب شعرُ الرجل الأسود وجهها وهو ينحني نحو عنقها، وأسنانه تكاد تلامس بشرتها.
مدّت يدها وأمسكت بذقنه، تحدّق فيه بوجهٍ خالٍ من التعابير، ثمّ زفرت بملل.
“ما الذي تفعله بحقّ السماء؟”
“كنتُ جائعًا، وحين لم تستيقظي… قرّرت أن أوقظك بطريقتي.”
“كفّ عن الكذب، ولو بقطرةِ حياءٍ على لسانك.”
مدّت يدها الأخرى تحت الوسادة وأخرجت مسدّسًا فضّيًا، وجّهته إلى جبينه بثباتٍ بارد.
ومع ذلك، ظلّ يبتسم ببرودٍ لا يتزحزح.
“أتجرؤ أن تتغذّى خلسةً من دمي؟”
“على أيّ حال، إن فعلتُ دون إذنك…”
رفع إصبعه ولمس الطوق المعدنيّ الملتفّ حول عنقه.
“فهذا الشيء سيقطع رأسي فورًا.”
ثمّ همس بابتسامةٍ باهتة:
“لذلك لا أستطيع.”
“اختفِ.”
قالتها ببرودٍ وهي تركله، غير أنّه توقّع الضربة فتراجع برشاقةٍ تامّة.
تحرّك كراقصٍ في الظلال، ثمّ جلس على حافّة السرير من جديد.
“إذن… ماذا عن عشائي؟”
“هاه…”
تنفّست ميلوني بضيقٍ وهي تمسح وجهها بكفّها، ثمّ رفعت بصرها إليه.
كانت عيناه الحمراوان تتلألآن بلهفةٍ جائعة.
أدركت أنّ تجاهله لن يجلب لها سوى المصائب، فتقدّمت نحوه مرغمة.
“…كلْ إذًا.”
قبض كاين على معصمها، ومال برأسه في خضوعٍ مزيّفٍ وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ مائلة.
“إذن، سأبدأ.”
رفع عينيه إليها، والتقت نظراتهما لحظةً قبل أن يمرّر لسانه على بشرتها عند المعصم.
أدارت وجهها بعيدًا عنه، لكنّ ذكرى الحلم الذي رأته جعلت جسدها يتجمّد أكثر.
ومع ذلك… لم تستطع أن تبعد ناظرَيها عنه.
“شكرًا على الطعام.”
قالها بابتسامةٍ خفيفة، قبل أن تغرس أنيابه في لحم معصمها.
غاصت الأنياب ببطء، وارتفع في الغرفة صوتُ مصٍّ خافتٍ واضحٍ قرب أذنها.
‘كيف انتهى بي الحال إلى هذا؟’
ارتسمت على وجه ميلوني ملامح الندم، وهي تسترجع ماضيها القريب.
لم تكن لتتخيّل يومًا أنّها ستقدّم دمَها طوعًا لمصاص دماءٍ من تلك السلالة التي تمقتها من أعماقها.
رفعت بصرها إلى السقف، فتراءت أمامها صورةُ تلك الليلة البعيدة قبل نصف عام،
الليلة التي التقت فيها بذلك الرجل… كاين.
Chapters
Comments
- 1 منذ يوم واحد
- 0 - المقدمة منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 0"