1
الفصل الأوّل
كان المساء يهبط ببطء على القرية، يحمل معه ظلال الغروب الباردة، فيغمرها سكونٌ يبعث القشعريرة في النفوس.
ولأنّها قريةٌ لا يسكنها سوى العجائز، فقد أُغلقت أبواب المتاجر منذ زمنٍ باكر، حتى بدا المكان كأنّه مهجورٌ من الأرواح.
وسط ذلك الصمت الموحش، كانت فتاةٌ شابّة ذات شعرٍ فضّيّ تمشي بخطًى واثقة، إلا أنّ مظهرها كان لافتًا إلى حدٍّ يفضحها في أيّ لحظة.
‘حسنًا أنّي لبستُ الرداء مسبقًا.’
هكذا قالت ميلوني لنفسها بارتياحٍ خافت. كانت دائمًا حذرةً ومدروسة، وهذا ما أنقذها غير مرّة.
ومع ذلك لم تسمح لعينيها بالاسترخاء لحظةً واحدة.
تألّقت حدقتاها الذهبيّتان تحت ضوء المصابيح وهي تمسح الطريق بنظرةٍ متيقّظة.
مدّت يدها إلى جيبها وأخرجت ورقةً مهترئة، فردّتها بعناية. كان عليها اسم متجرٍ غريب، وتحت الاسم خريطةٌ بدائيّة رسمت بخطٍّ رديء.
“أتُرى هذا يُسمّى خريطة؟”
تنهّدت بغيظ، وكرمَت الورقة بقبضتها وأعادتها إلى جيبها.
مجرد خطوطٍ متقاطعة، وتعليماتٌ مضحكة: “انعطفي أربع مرّاتٍ، وستصلين”.
“أيّها الجرذ الحقير.”
تمتمت وهي تزمّ شفتيها. لقد دفعت مالًا كثيرًا لقاء هذه المعلومات، مدّعيًا أنّها “من مستوى عالٍ”، ومع أنّها لم تكن بحاجةٍ للمال أصلًا — فما جنته خلال عامين من الصيد كان كافيًا لتسميه فتاتًا — إلا أنّ فكرة أنّ أحدًا خدعها كانت كافيةً لإشعال غضبها.
“هاه…”
رنّ في رأسها صوتُ ذلك الوغد وهو يهمس: “إنْ تبعتِ الرسم ستجدينه هناك مباشرةً.”
‘حسنًا… لنجرب آخر زقاقٍ فحسب.’
نقرت بلسانها بضجرٍ وقرّرت الصبر قليلًا، فلم تمضِ سوى أربعين دقيقةٍ من البحث بعد.
وبعد عشر دقائقٍ أخرى…
وقع بصرها على لافتةٍ خشبيّةٍ باليةٍ تتأرجح في الهواء مكتوبٍ عليها:
[الليلة الدامية]
ابتسمت أخيرًا بعد طول تجعّدٍ في وجهها.
“أصبتُ الهدف.”
أعادت الورقة إلى جيبها وأخرجت علبةً شفّافة فيها خمسُ كبسولاتٍ صغيرةٍ مملوءة بسائلٍ أحمر قاتم.
‘كنتُ أرجو ألّا أضطرّ لاستخدامها أبدًا.’
تفحّصت الطريق حولها بحذر، ثمّ أخرجت إحدى الكبسولات وابتلعتها دفعةً واحدة.
انفجر في فمها طعمٌ معدنيٌّ مرّ كأنّه دمٌ فاسد، وسرى في جسدها شعورٌ بالاشمئزاز.
كانت تلك حبوبًا خاصّة، تُخفي رائحة البشر لمدّة ساعةٍ كاملةٍ وتُحاكي رائحة مصّاصي الدماء.
ومع أنّها أداةٌ مفيدة، فإنّ ميلوني كانت تكرهها من أعماقها.
‘لنُنْهِ الأمر بسرعة ونغادر.’
لكن فجأةً أحسّت بوخزٍ في رقبتها، إحساسًا حادًّا كأنّ عيونًا خفيّة تراقبها.
“…”
رفعت رأسها فجأةً، تجول بعينيها يمينًا ويسارًا وفوقها وتحته، لكنّ الشارع كان خاليًا.
“لا أحد…”
لابدّ أنّ توتّرها ازداد فقط لأنها على وشك دخول وكر الأعداء.
تنفّست بعمقٍ وأعادت نظرها نحو الباب.
كانت لافتةٌ خشبيّةٌ صغيرةٌ كتب عليها “مفتوح” تتدلّى أمامها. أمسكت بمقبض الباب البالي ودفعته ببطءٍ إلى الداخل.
كان هذا المكان ملتقى خفيًّا لمصاصي الدماء الذين يعيشون بين البشر، حانةً لا يرتادها سوى أولئك المخلوقات.
بل قيل إنّ صاحبها نفسه أحدهم.
ومهما بلغت قوّة الصيّاد، فإنّ دخوله وكر مصّاصي الدماء وحده ضربٌ من الجنون.
شدّت ميلوني قبضتها على المظلّة التي تمسكها، كأنّها سلاحها الأخير.
“هُووف…”
رنّت الجرسة المعلّقة بالباب بصوتٍ خفيف، لكنها فوجئت بأنّ أحدًا لم يلتفت إليها.
‘تماسكي يا ميلوني كاثَس.’
أدنى حركةٍ غير محسوبة قد تعني الموت.
عادت بملامحها الجامدة كعادتها، تمشي بخفّةٍ وهي تراقب المكان بعيني صيّادٍ متدرّب.
لم تكن الحانة كبيرة، يمكن رؤيتها كاملةً بنظرةٍ واحدة.
‘غريب… ليس هنا.’
ذاك الجرذ الذي باعها المعلومات أقسم أنّ الرجل الذي تبحث عنه يوجد في هذا المكان — رجلٌ أنيقٌ غامض، يملك هالةً سوداء كأنّه قطعةٌ من الليل نفسه، يبدو واضحًا أنّه من مصّاصي الدماء ذوي الرتب العليا.
لكنّها لم ترَ أحدًا بهذه المواصفات.
‘ألعلّني خُدِعت مجددًا؟’
هل كانت الخريطة كاذبةً والمعلومة أيضًا؟
حبست تنهيدةً ثقيلة.
‘ربما لم يصل بعد.’
قرّرت الجلوس قليلًا وشرب كأسٍ في انتظار ظهوره.
لكنها فكّرت في الأمر ببرودٍ قاتل:
‘وإن كانت هذه مكيدة؟’
إن تبيّن ذلك، فستكسر عنقه بيديها.
جلست عند البار، أسندت ذقنها إلى كفّها وطلبت مشروبًا، تحدّق في الأجواء حولها.
‘هادئة أكثر مما توقّعت.’
لم تكن هناك ضوضاء أو صخب، بل همساتٌ خافتة وأحاديثٌ هادئة.
حتى أنّها صارت تسمع كلّ صوتٍ يرتفع قليلًا بوضوحٍ تام.
لكن لم يكن في تلك الأحاديث ما يستحقّ الإصغاء.
‘سأبقى ساعةً واحدة فقط.’
نظرت إلى ساعتها لتحدّد لحظة المغادرة.
في تلك اللحظة، تبدّل الجوّ فجأة.
بردٌ غامض تسلّل إلى أرجاء الحانة حتى أحسّت بوخزٍ على جلدها.
‘ما الذي يحدث؟’
تطلّعت إلى كأسها فرأت سطح الشراب يرتجف بخفة.
ثمّ سمعت همسًا قريبًا:
“انظر هناك…”
التفتت غريزيًّا نحو مصدر الصوت.
على السلّم في آخر الحانة، كان رجلٌ ينزل بخطواتٍ هادئةٍ كأنّه يسير فوق الماء.
“…آه.”
تفلتت منها شهقةُ إعجابٍ صغيرة.
‘أخيرًا.’
لم يكن صوته يُسمع، وحركاته بطيئةٌ مهيبة.
عينان نصف مغمضتين تشعّان خمولًا خطِرًا، شعرٌ أسود كسواد الليل من رأسه حتى قدميه، وقميصٌ مفتوح الأزرار يكشف عن عنقٍ أبيضٍ كالعاج.
الهالة التي تحيط به كانت خانقةً، تجذب الأنظار قسرًا.
‘هو… هذا هو الرجل.’
الرابط الذي سيقودها إلى عدوّها الحقيقي.
كادت تقفز من مكانها من شدّة الانفعال، لكنها تداركت نفسها وأدارت وجهها بتكاسلٍ مصطنع، متظاهرةً بعدم الاكتراث.
‘الآن، عليّ أن أجذب انتباهه…’
ثمّ أُقنعه بالتعاون. ولتحقيق ذلك، لا بدّ أن أكون معه على انفراد.
لكن قبل أن تتحرّك، سمعت صوته يقترب منها:
“مساء الخير… ليلةٌ جميلة، أليست كذلك؟”
‘يا لِلحظّ السعيد!’
ابتسمت ابتسامةً لطيفةً متعمّدة، وأدارت رأسها ببطء نحوه.
“مساء النور.”
“وجهٌ جديد… لم أركِ من قبل.”
قالها وهو يشير للنادل بإشارةٍ هادئة.
‘نزل من الأعلى، إذن هو يقيم هنا.’
فكّرت ميلوني سريعًا.
‘قد يكون هو صاحب الحانة.’
سألته بخفّةٍ متعمّدة:
“أأنت أيضًا زائر؟”
ضحك بخفّةٍ وهو يرفع كتفيه:
“وهل أبدو كذلك؟”
“ألست كذلك إذًا؟”
“لا، أنا صاحب المكان.”
اعترف دون تردّد.
أومأت ميلوني بوجهٍ خالٍ من التعابير، وارتشفت من كأسها رشفةً صغيرة.
لمحت من طرف عينها أنّه يحرّك كأسه دون أن يشرب منه، لكنّ نظره بقي معلّقًا بها.
تشابكت العيون لحظةً في صمتٍ خافت.
“من أين أتيتِ؟”
“من قرية سيران، بجوار لويد.”
كانت سيران موطنًا لمصاصي الدماء الشباب، لذلك كان الكذب يسيرًا مستندًا إلى حقائق تعرفها.
“وما الذي أتى بكِ إلى هنا؟”
“رحلة.”
“رحلة؟ وحدكِ؟”
“نعم، أبحث عن شخصٍ ما… في الطريق فقط.”
كانت هذه المرّة الصادقة الوحيدة. فالرجل الذي تبحث عنه ليس هو، بل أحد يعرفه هذا الرجل.
‘لقد بدأ يُبدي اهتمامًا بي.’
تمامًا كما خطّطت. الخطوة الأولى تحقّقت.
نظرت إلى ساعتها مجددًا — لقد مضت ثلاثون دقيقة منذ تناولها الدواء، ولم يبقَ وقتٌ كثير.
همّت بالوقوف، فقال الرجل بنبرةٍ هادئةٍ عميقة:
“إلى أين؟ ما زال في كأسك شراب.”
“لا أحتمل الشراب كثيرًا، أردتُ فقط شيئًا خفيفًا قبل العودة.”
“حقًّا؟ مؤسف.”
تبدّت على وجهه خيبةٌ صادقة، فبادلته ميلوني ابتسامةً معتذرة، تخفي وراءها سخريةً باردة.
“هل ستكون هنا غدًا أيضًا؟”
“أتنوين المجيءَ ثانيةً؟”
“نعم، لمَ لا؟”
“إذن سأحتفظ بهذا الشراب لكِ حتى تشربيه غدًا.”
“كم أنت لطيف.”
وقفت ميلوني، وانحنت بخفّةٍ وهي تبتسم بعينين ناعستين.
ولدهشتها، ظلّت عيناه تتبعانها دون أن ترمشا.
“اسمكِ؟”
“أخبرني باسمك أولًا.”
“كاين.”
كاين… ردّدت الاسم في نفسها برهة، ثمّ قالت بهدوء:
“أنا ميلوني.”
ولأنّ الناس يعرفونها بألقابها أكثر من اسمها الحقيقي، فلم يكن من خطرٍ في ذلك.
قال بابتسامةٍ خافتة:
“سأنتظر هذه الساعة غدًا إذن.”
ردّت عليه بميلانٍ بسيطٍ من رأسها وابتسامةٍ وادعة، ثمّ خرجت بخطًى متّزنةٍ من حانة “الليلة الدامية”.
وما إن خرجت إلى الهواء البارد حتى شهقت نفسًا طويلًا أطلقت بعده تنهيدةَ راحةٍ عميقة.
“آه… كدت أختنق.”
لم يعرف أحدٌ في الداخل من تكون، ومع ذلك كادت تقع في الخطر. ومع انفلات التوتّر، عادت أنفاسها إلى طبيعتها.
‘كاين… عليّ أن أعود وأكسب ثقته حتى يطمئن إليّ.’
فكّرت بامتعاضٍ وهي تعبس.
كم تكره الفكرة، لكن لا خيار أمامها.
ومشت نحو النُّزل ليلًا، غيرَ عالمةٍ أنّ الأدوار ستنقلب بعد ساعاتٍ قليلة…
Chapters
Comments
- 1 منذ يوم واحد
- 0 - المقدمة منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 1"