8
الفصل 08
“ما الذي تنوين فعله بعد الطلاق مني؟”
“وهل يُفترض أن أفعل شيئًا محددًا بعده؟”
رددت عليه فورًا دون تردد. تجمدت ملامح سيدريك، وانعقد حاجباه كمن لم يُعجبه الجواب. بدا واضحًا أن فكرة الطلاق وحدها تثير استياءه.
“ثم ما هذا أيضًا؟ لماذا كنت تُطالع تلك التقارير الخاصة بي؟”
“كنت أريد أن أعرف ما الذي ترغبين به، يا كلير.”
رفع عينيه الزرقاوين نحوي، نظرة هادئة ولكنها حادة بما يكفي لتفقدني الكلمات. للحظة، لم أستطع الرد. ربما لأن المقولة كانت صحيحة فعلًا — حين يكون الرجل وسيماً إلى هذا الحد، يسرق منك القدرة على التفكير.
كان سيدريك يرتدي قميصًا أبيض خفيفًا بلا سترة، أزراره العليا مفتوحة تكشف جزءًا من صدره القوي المشدود. لم يكن الجو باردًا، ومع ذلك بدا مرتاحًا بذلك المظهر العفوي. لمحت عضلاته البارزة من بين طيات القماش، فشعرت بالحرارة تتسلل إلى وجهي، فسارعت بإبعاد نظري وتظاهرت بالثبات.
“لِمَ… لِمَ تنظر إلي هكذا؟”
خرج صوتي مرتعشًا رغم جهدي لإخفاء اضطرابي.
كنت أعلم أن أي قناعٍ أضعه أمامه لا فائدة منه، فهو يقرأ الاضطراب في عينيّ مهما حاولت.
شعره الأسود الفوضوي يتدلّى على جبينه، يكاد يحجب عينيه الزرقاوين التي تنعكس فيهما شرارة ضوءٍ غامضة. رموشه الطويلة تظلل وجنتيه، وكل مرة أنظر فيها إلى تلك العيون، ينتابني خفقانٌ غريب لا أستطيع تفسيره.
(كيف لرجلٍ أن يكون بهذا القدر من الجمال؟!)
يقولون إن الوسامة لا تُرى إلا من بعيد، لكن هذا خطأ.
سيدريك كان وسيماً من بعيد، وأشد وسامةً حين يقترب. بشرته السمراء الخفيفة، كتفاه العريضتان، وساعداه اللذان لا يكاد القماش يحتملهما — كل ذلك جعله أقرب إلى لوحةٍ حية من القوة والهيبة.
أسند ذقنه إلى كفه وأدار نحوي ورقة من فوق مكتبه، دافعًا إياها برفق:
“هل تحتاجين سببًا؟ أردت فقط أن أبدو في نظرك بصورةٍ جيدة.”
تجمدت أنفاسي للحظة. هل يدرك هذا الرجل ما الذي يقوله؟!
كانت عيناه صافيتين كالماء، صادقتين إلى حدٍ يثير الريبة، كأنه لا يدرك أنه للتو أطلق قنبلةً في وجهي.
(لا، بالتأكيد لا يقصد ما فهمته. لنفترض أنه لا يدرك المعنى نفسه الذي خطر ببالي.)
تشبثت بذراعيّ متصنعةً الهدوء، ونظرت إلى الورقة التي وضعها أمامي.
رقم… ثم آخر. عيناي اتسعتا في دهشة.
(ألف قطعة ذهبية كثيرة أصلاً… فكيف صارت ألفين؟!)
حدقت في الأرقام من جديد، علّ بصري يخدعني، لكن لا — كان الرقم صحيحًا.
“كيف يُعقل أن أنفق كل هذا؟!”
“ولمَ لا؟ في الشمال لدينا كل ما تحتاجين إليه.”
“ليس الأمر أنني لا أستطيع، بل لأن المبلغ ضخم بشكلٍ يحرجني!”
“محرج؟ هل ترين أن زوجك عاجز عن أن يمنح زوجته هذا القدر البسيط؟”
“ليس هذا ما أعنيه!”
زمّ شفتيه ببرودٍ، ثم قال بجديةٍ مباغتة:
“كلير، لا أفهم حقًا لماذا ترفضينني بهذا الإصرار. أنتِ لم تقولي إنكِ تكرهين حياتك هنا، ولا حتى إنكِ غير راضية عن علاقتنا الخاصة، أليس كذلك؟”
أحسست بتصلّبٍ يسري في أطرافي وهو ينهض من خلف مكتبه.
دار من حوله بخطواتٍ بطيئة حتى صار إلى جانبي. غريزة التحفّز جعلتني أرجع خطوة إلى الوراء.
(منذ ذلك اليوم في الغابة، وهو يتصرف بغرابة متزايدة.)
ابتلعت ريقي بعناء. كانت عيناه الزرقاوان تشتعلان بوميضٍ مختلف — وميضٍ حارّ، خطر، كأن شرارةً خفية انطلقت فيه.
“إذن، إن لم يكن المال، ولا أي من ذلك…”
تراجعت حتى اصطدمت ظهري بالجدار. لم يبقَ مكانٌ أهرب إليه.
كان واقفًا أمامي، طويلًا شامخًا، يحدق بي كما لو كان يبحث عن حقيقةٍ مدفونة في أعماقي.
“هل هذا يعني ببساطة… أنكِ تكرهينني؟”
جفّ حلقي. الهواء صار أثقل من أن يُستنشَق.
كفّاه الكبيرتان ارتفعتا لتغلقا المسافة بيننا، حاصرني بذراعيه دون أن يلمسني، ومع ذلك شعرت أنني مقيدة.
“أ… أكرهك؟”
لم أستطع إخراج الكلمة بصوتٍ واضح.
كيف لي أن أنظر في عينيه وأكذب بهذا الهدوء؟
خفضت بصري سريعًا، وضممت ذراعيّ إلى صدري، محاوِلةً أن أبدو هادئة رغم أن قلبي يقرع كطبلٍ هائج.
ارتجفت رموشي قليلًا، وصوتي خرج هامسًا:
“ليس… ليس هذا هو السبب.”
“ليس كذلك؟”
اقترب أكثر، حتى شعرت بحرارة أنفاسه تلامس وجنتيّ.
(قوليها! ارفضي تمامًا! أخبريه بأنك لا تريدين أي علاقة به!)
رفعت رأسي بتحدٍّ، لكن ما إن اصطدمت نظراتي بعينيه حتى انهار كل ما جمعته من شجاعة.
تراجعت مجددًا، أطرقت رأسي، وهمست خافتة:
“قلت لك… ليس الأمر أنني أكرهك.”
كانت عيناه تتقدان كجمرةٍ تحاصر فريستها.
شعرت لوهلةٍ كأنني الأرنب الذي همّ الفهد بالانقضاض عليه — قلبٌ يخفق بجنون، أنفاسٌ متقطعة، وجسدٌ متيبس لا يعرف إلى أين يفرّ.
رفع يده ببطءٍ، وأمسك برفقٍ طرف ذقني، يدفعه للأعلى لألتقي بعينيه مباشرة.
تجمدت نظراتي في عينيه كمن سقط في بحرٍ عميق لا قرار له.
“قلتُ لك ذلك من قبل، أليس كذلك؟”
رمشت بارتباك، عقلي يحاول التقاط ما يقصده.
(قال لي ماذا؟ متى؟ عن أي شيء يتحدث؟)
لمّا لم يجد جوابًا في وجهي المشوش، ضاق بصره قليلًا، زافِرًا أنفاسًا باردة. ثم تراجع خطوة إلى الخلف، وكأنه يقرر أن يطوي الحديث كله.
“……طالما أنك لا تكرهينني، فذلك كافٍ.”
قالها بصوتٍ منخفضٍ، لكنه حمل في نبرته شيئًا لا يشبه الارتياح بقدر ما يشبه الاستسلام.
ما إن تراجع سيدريك خطوة إلى الوراء حتى انحسر ذلك الهواء الساخن الذي ظلّ عالقًا بيننا، كأن شيئًا غير مرئي قد انكسر فجأة، تاركًا خلفه برودةً مباغتة. ومع ذلك، شعرت في أعماقي بشيءٍ غريب… كأن جزءًا صغيرًا مني لم يرد أن يبتعد.
(…أأنا نادمة؟)
هل حقًا خطر لي هذا الشعور؟ انتفضت من مكاني، وهززت رأسي بعنف وكأنني أطرد فكرةً دخيلة. لا بد أن سيدريك هو السبب، تصرفاته الأخيرة أربكتني حتى بتّ أتصرف بغرابةٍ أنا أيضًا.
“أ، أظن أنني سأذهب الآن! على أي حال! لا تجلب أي حيوانات أخرى إلى الحديقة، مفهوم؟!”
وأغلقت الباب بعنف، ثم أسرعت نحو غرفتي ووجهي يشتعل حُمرة.
❖ ❖ ❖
منذ ذلك اليوم، لم أعد ألتقي بسيدريك كثيرًا. ربما لأنني كنت أتحاشاه عمدًا. غير أن المشكلة الكبرى كانت في الكائنات التي اعتادت على حديقة القصر وكأنها مطعم مفتوح. كل يومٍ كانت أفواج جديدة من الطيور والحيوانات تتوافد إليها بلا خجل.
“هيه، ابتعدي من هنا!”
“زقزق!” (أعطني أرزًا!)
“لقد وضعت لك الطعام في المِعلف، اذهبي إليه.”
“زقزق، زقزق!” (القمح لا يعجبني! من يأكل القمح في هذا الزمن؟ أريد أرزًا أبيض ناصعًا!)
“القمح أغلى من الأرز، وفوق ذلك مفيد لصحتك. كفي عن الدلال وكلِيه!”
“زق!” (بخيلة!)
يا إلهي… هذه الطيور تزداد وقاحة يومًا بعد يوم. دلّلتها أكثر من اللازم، والآن صارت تتذمّر كالأطفال. ومنذ متى كانت الطيور تنتقي طعامها هكذا؟ في الغابة كانت بالكاد تجد حفنة حبوب لتأكلها.
لأنها كانت تحلّق فوق رأسي بلا توقف، أصبحت أخرج دائمًا بمظلّة حتى لا يهاجمني أحدها. لم أتخيل يومًا أنني سأنتهي مهددة من طيورٍ جشعة… يا لسوء حظي.
“غرووو.” (أنا أيضًا أريد لحمًا.)
التفتُّ نحو النمر الأسود الممدّد قرب الشرفة، وقلت بضيق:
“اذهب إلى الغابة واصطد شيئًا بنفسك. أنت مفترس، لا طفلة تتسوّل الطعام!”
اقترب الحيوان الضخم وهو يخفض رأسه ويفرك خديه بساقي كقطةٍ مدللة. كم يبدو تصرفه غير ملائمٍ لحجمه المهيب.
تنهدت وأنا أرفع كوب الشاي إلى شفتيّ:
“آه… كم أنا ضجرة.”
أسندت ظهري إلى المقعد وأملت رأسي إلى الوراء، لأرى السماء الزرقاء الصافية — أو هكذا ظننت، قبل أن ترتسم أمامي فجأة عينان أشد زرقةً من السماء نفسها.
“آه! آه، أواه—!”
صرخت بارتباك، وكاد الكرسي ينقلب بي إلى الخلف. لكن في اللحظة التالية، امتدت يد قوية تمسك به وتعيده إلى وضعه بثبات.
“لم أركِ منذ فترة يا سيدتي.”
“ه، هل… هل هذا صحيح؟”
شعرت بقطرات عرقٍ باردة تنحدر على ظهري. كنت أتجنبه عمدًا، ومع ذلك بدا منشغلًا بما يكفي ليبرر غيابه. سمعته في الأيام الأخيرة يشارك في التدريبات العسكرية بإصرارٍ غريب، كأنه يسعى لتشتيت أفكاره. بدا عليه الهمّ، لكنني لم أجرؤ على سؤاله عمّا يقلقه.
قال بهدوءٍ وهو يجلس بجانبي:
“لم أُرد إزعاج راحتك، لكن هناك أمر أودّ التحدث فيه معك. لذا لا داعي للتوتر.”
كان مظهره يوحي بالإرهاق، خطوطٌ خفيفة ظهرت حول عينيه رغم وسامته التي لم تبهت لحظة.
“هل هناك ما يقلقك؟” سألته وأنا أحاول قراءة ملامحه.
“يبدو أن عليّ المشاركة في الحرب القادمة.”
“…ماذا؟! ولماذا؟!”
لم يُجب فورًا. بدا وكأنه يختار كلماته بعناية، أو لعلّه يراقب ردة فعلي. هل يمكن أن يكون هذا بسبب طلبي الطلاق؟ هل قرر الهروب من المواجهة بذريعة الحرب؟ لا، سيدريك ليس من هذا النوع.
ومع ذلك، لم أستطع فهم السبب. لم يكن من المفترض أن يذهب إلى الجبهة بعد زواجنا — أليس هذا ما اتفقنا عليه؟
“لكن هذا مخالف للاتفاق! ألم تقل إن الزواج سيعفيك من الذهاب إلى الحرب؟ لا تقل لي إنك تفعل هذا بسببي؟”
“ليس بسببك يا كلير، فلا تقلقي. إنها أوامر الإمبراطور، ولم أكن الوحيد الذي استُدعي.”
أومأت ببطء، لكن القلق ظلّ جاثمًا في صدري. الحرب تعني الموت، والخطر، والغياب الطويل.
“هل… هل لا يمكنك الرفض؟ أعني، إنه والدك، ربما…”
“سيكون هذا آخر مرة. وبعدها، لن أتركك وحدك في هذا القصر بعد الآن.”
رغم كلماته المطمئنة، لم أشعر بالراحة. كان في داخلي شعور غامض، كأن شيئًا سيئًا على وشك الحدوث. دون أن أدرك، مدت يدي وتمسكت بطرف ردائه.
“لا تذهب… رجاءً.”
توقف لحظة، ثم ابتسم بخفوتٍ وهو يحدّق في يدي الممسكة بثوبه.
“هل هذا يعني أنكِ قلقة عليّ؟ متى تغيّر الأمر؟ ألم تكوني من دفعتِني بعيدًا مرارًا؟”
اقترب بخطواتٍ بطيئة حتى صار يطوّق خصري بذراعه، وهمس وهو يميل نحوي:
“أنتِ تجعلين الأمور تلتبس عليّ دائمًا.”
(تلتبس؟ ماذا يعني بذلك؟)
تراجعت بارتباكٍ إلى الوراء، لكنه تبعني مبتسمًا بعينيه، ثم رفع يده ولمس شفتيّ بطرف إصبعه.
“لا تفكّري في أي شيءٍ آخر… ولا تخطّطي للهرب أيضًا.”
“هـاه…؟”
“من الأفضل أن تتخلي عن أوهامك بأنكِ ستغادرين هذا المكان في غيابي. وأمرٌ آخر…”
اقترب أكثر، المسافة بيننا تقل حتى صارت أنفاسي تتشابك بأنفاسه. نظرتُ دون قصدٍ إلى شفتيه الحمراء القريبة، كأنها تهمس بنداءٍ خطر.
“إن كنتِ تكرهين هذا، فادفعيني بعيدًا.”
قالها بصوتٍ خافتٍ عميق، ثم أطبق شفتيه على شفتيّ.
كانت تلك أول مرة يلمسني فيها منذ ليلة زفافنا. حرارة أنفاسه، وطريقة يده التي داعبت ظهري برقة، جعلتني أعجز عن المقاومة. لم أستطع دفعه، ولا حتى التفكير في ذلك. كانت عيناه تحدقان بي بصدقٍ مربك، نظرة تحمل شيئًا بين الحنان والتمسّك.
يا لها من لحظةٍ غريبة… ويا له من يومٍ لا يُنسى.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"